الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

من امجادنا, النهضة التونسية الفكرية، على العهد الحفصى

Share

سبقت بلادنا تونس غيرها من عواصم المغرب فى تأسيس المدارس العلمية واناطة التدريس بها بعهدة الاكفاء من الاعلام نظرا الى اتساع نطاق الحركة الفكرية العلمية الادبية فيها وزخارتها على اختلاف العصور وتداول الاجيال ، ولا سيما فى شرخ العهد الحفصى الذى يبتددى من أول القرن السابع الهجرى الذى ازدهرت فيه الحياة الفكرية بتونس ايما ازدهار واعطت اكلها فى الطور الاول من اطوار حياة الدولة الحفصية طور الانبعاث والتجديد والعمل والانتاج حتى اصبحت تونس في اثناء القرن السابع الهجرى درة تتألق في العالم الإسلامي العتيق في العصر الذى انطمست فيه حضارة بغداد باكتساح التتار وعبثهم بمعالم العلم والعمران واستئصالهم لهياكل الحضارة الإسلامية ببغداد فانبثقت أشعة الحضارة وشعت من جديد بتونس وانتقلت اليها الخلافة الاسلامية آنذاك حتى قال الشاعر التونسي مغتبطا ومهنئا الخليفة ابا عبد الله محمد المستنصر ابن أبى زكرياء يحيى الحفصى المتوفى سنة 674 ه

أهنا أمير المؤمنين ببيعة جاءتك بالإقبال والاسعاد

فلقد حباك بملكه رب الورى فأتى بشير بافتتاح بلاد

واذا أتت أم القرى منقادة فمن المبرة طاعة الاولاد

وفى هذا العهد بالذات تألق مشعل المعرفة وانبثقت انوار النهضة العلمية المجيدة بتونس التى أمها العلماء والادباء من كل فج وصوت وتدفق بها سيل من اعلام الاندلسيين وادبائهم وقصدها الطلاب من اقاصي البلاد يقتبسون من انوار المعرفة وضروبها الشىء الكثير ووقع التفكير في ابراز مشروع المدارس للتوسع فى نشر المعرفة اسوة ببغداد ودمشق

والقاهرة واقدم مدرسة فيما علمنا بتونس المدرسة الشماعية نسبة لسوق الشماعين الذى كان حول هذه المدرسة فى اوائل العهد الحفصى

اسست ام المدارس هذه لتكون محل دراسة ومباءة سكنى في آن واحد وذلك سنة 633 ومؤسسها الامير ابو زكريا يحيى ابن الشيخ ابى محمد عبد الواحد الحفصى الذى يعده التاريخ التونسي من افذاذ الامراء الصالحين كذلك كان هذا الامير اكبر موطد لدعائم السلطان الحفصي بهذه الديار فأسس جامع الموحدين (وجامع القصة) وأحدث سوق العطارين بتونس وتتابع تأسيس المدارس العلمية على غراره . وكان للتشجيع الذى تلاقيه الحركة العلمية من بعض الامراء والاميرات الصالحين اكبر ضلع فى انتشار العلم والادب بتونس فقد تسابقوا في بناء المدارس واطلاق الجرايات الهامة للمدرسين الاكفاء بها ما لا مزيد عليه كما فعل ابو زكريا يحيى بن ابراهيم الحفصى الذى وفق الى بناء مدرسة سنة 642 واسس بها مكتبة زاخرة مفيدة في كل الفنون يستعين بها الطلاب والمدرسون على ما هم بصدده من نشر العرفان وانتخب للتدريس بها عالما ضلعا من علماء الاندلس الاستاذ الشريف احمد الغرناطى مؤلف كتاب المشرق في كلماء المغرب والمشرق ولما اتم بناء المدرسة سلم للمدرس بها اموالا جزيلة وامره بتفريقها على كل من يوجد بالمدرسة

ورتب للمدرس بها جراية قوامها عشرة دنانير حفصية فى الشهر واخذ على نفسه ان يراقب سير التعليم بالمدرسة ففتح منها نافذة لداره الملاصقة للمدرسة يسمع منها كل ما يدرس .

ولما اسست الاميرة فاطمة الحفصية بنت الامير ابي زكرياء الحفصي المدرسة العنقية فى اوائل القرن الثامن الهجرى طلبت من السلطان ابى يحيى ان يفوض اليها في اختيار المدرس بها فاجابها لذلك فعينت للتدريس بها شيخ الجماعة المجمع على ضلاعته وتفننه وبراعته الاستاذ محمد بن عبد السلام الذائع الصيت الذى تخرج من مدرسة عبد الرحمن بن خلدون فيلسوف المؤرخين وامامهم ومحمد بن عرفة امام الفقهاء على الاطلاق في عصره وكان الاستاذ بن عبد السلام يقسم الاسبوع في تدريسه بين المدرستين الشماعية والعنقية وربما تخلف عن مدرسة الحرة فاطمة التى كانت تراقب سير التعليم بمدرستها باهتمام زائد . فظهر لها التقصير من ابن عبد السلام بالنسبة للتدريس بمدرستها فنسبته للتفريط وفصلته عن

التدريس وعوضته بالفقيه المدرس محمد بن سلامة وغنى عن البيان ان هذا الوعى العميق ينبئ عن روح حصيفة ومخلصة في سبيل النفع العام لا يعظم فى عينها الا القائم بواجبه . والتفريط في ذلك غير مسموح به البتة مهما علت منزلة القائم بالعمل وعظمت لان المؤسسة كانت ترى ان الغرض الاسمى من التأسيس والتدريس لا يكمن وراء الشهرة الذائعة واللقب بل هو اسمى من ذلك فغيرت وبدلت حسب المصلحة العامة .

كان هناك شيء آخر جدير بالدرس والاعتبار بالنسبة لتلكم العهود تلكم هى مدة الدراسة . فمدة الدراسة وان لم تكن معينة بهذه المدارس بيد ان الإقامة او مدة سكنى الطالب بها كانت مضبوطة بتونس فالطالب لا يستحق السكنى والإعانة اكثر من خمس سنوات وقد علل ابن خلدون سر هذا الضبط بقوله : وهذه المدا المعينة بالمدارس التونسية على المتعارف هي مما يتاتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية او الياس منها وان خالف المغارية هذا الترتيب وجعلوا مدة اقامة الطالب بمدارسهم التى اسوها عل غرار المدارس بتونس ستة عشرة سنة ؟ وابن خلدون يجيب عن هذا بان اساليب التعليم بالمغرب كانت عقيمة ورديئة بخلاف اساليب التعليم بتونس فانها كانت ارقى بكثير فقال : طال امد اقامة الطالب بالمغرب لرداءة طرق التعليم المتبعة وعبارته لأجل عسرها من قلة الجودة فى التعليم خاصة لا من سوى ذلك ا ه.

ومن جراء هذا العقم اجمع العلماء بالمغرب حسب المصادر التى بين يدينا على الاستنارة باساليب المدرسين التونسيين حتى ان السلطان أبا عنان المرسى لما آس مدرسته (المتوكليه) بفاس في القرن الثامن الهجرى واسند التدريس بها الى الحافظ الشهير بالمغرب الاستاذ الصرصرى وجه اليه السلطان ابو عنان من يمتحنه فى اساليب التعليم الجارى بها العمل بتونس فامتحنه الاستاذ موسى ابن الامام تلميذ الاستاذ ابن عبد السلام التونسي صاحب الطريقة الحديثة انذاك في التعليم التى تعتمد المناقشة والتعليل والاستنتاج ولا تعول على الاستظهار : ولما طالب المرشد ابن الامام الاستاذ الصرصرى ان يحقق ويحلل المسائل التى يحفظها انقطع ولم يحر جوابا ولما احرجه بالاسئلة نزل الاستاذ الصرصرى عن كرسى التدريس كئيبا اسيفا واقتنع الفاسيون من ذلك العهد بفوائد الطريقة التونسية فى التدريس فسعوا فى نشرها والتعليم على مقتضاها ومن يومئذ قل الاعتماد على الحفظ

ومن الطريف ان نذكر ان الدراسات العلمية العليا بتونس كانت حتى لاوائل القرن السادس من الهجرة تتجه نحو الدراسة التقليدية باستظهار النصوص عن ظهر قلب ولم يكن للعلوم النظرية ادنى حظ في التدريس . وكان الشرق فى هذه الاونة على العكس من هذا فقد ولع رجاله بالتجديد فى البحوث العلمية وتهافتوا على اساليب البحث المتجدد الذى كانوا يتجهون فيه الى اطلاق المجال للعقل فى مهامه التفكير والتعليل وتحليل الاراء ودراستها ومناقشتها فى مجال التشريع . وظلت الحالة العلمية بتونس متنكرة لهذه الاساليب الى أن رحل بعض العلماء وفى طالعتهم الفقيه ابن زيتون التونسي فلقي العلماء بالمشرق لا سيما تلاميذ فخر الدين الرازى فلازمهم زمنا حتى تمكن من طريقتهم في التعليم واساليبه الحديثة فقدم الى تونس واخذ يدرس على الاسلوب الحديث انذاك فاقبل الطلاب عليه وورث عنه طريقته في تدريس العلوم تلميذه محمد ابن عبد السلام التونسى الذى كان المغاربة يعجبون بطريقته ويفخرون بمعرفتها والتدريس على منوالها عندما انتشرت طريقة هذا التعليم وهي التي قضت على اساليب الحفظ والاستظهار بالمغرب .

كانت هاته النهضة العلمية المتسعة المدى تثير اعجاب السواحين ورواد المعرفة فى تلك العصور فقد ذكر الرحالة العبدرى فى اثناء التحدث عن هذه النهضة غرائب يزدان بها مجد تونس العلمي ويغرى اهلها بالمثابرة على طلب العرفان وربط صلة الحاضر المتحفز للمعالى بالماضى المجيد الزاهر وها نحن نذكر بعض انطباعات الرحالة العبدرى عن علماء تونس الذي (لقى المدرس يدرس بتونس وسنه ثمانون عاما وهو لا يفتر ولا يكل ولا يسام ولا يتضجر ولا يميل الى الراحة ولا يشكو التعب ولا يثور على الشيخوخة ولا يتذمر) قال العبدرى اجتمعت بابن الغمار في داره وكان مواظبا للاسماع اى التدريس غدوة وعشية قال : ولم يؤثر في قوة اجتهاد المدرس الشيخ ابن الغمار ضعف قواه وكان يجلس للتدريس من اول النهار الى قريب الظهر ومن العصر الى الغروب وربما قام مرارا تجديدا للطهارة ثم يرجع ويتكلف ذلك على كبر سنه وضعف قواه انتهى . قلت ولا يسعنا هنا ونحن نكتب للعمرة الا ان تترحم على هذه الارواح التى جاهدت جهادا بعيد المدى عميق الغور في نشر الثقافة بهذه الديار وما عرفت الكلل في الجهاد العلمي ولا غمرها الملل ولا حد من نشاطها الكبير ولاساورها الميل الى

الراحة في ارذل العمر ذلك انها نفوس رجال الفت النصيحة والفناء في القيام بالواجب وارواح كان اصحابها يعتقدون واعتقادهم حق انهم يرزوا للوجود لاداء رسالة سامية فيه فآلوا على انفسهم الا يغادروا هذا العالم الفانى الا بعد تبليغ تلكم الرسالة الخالدة وبالرغم عما بذلوه ويبذلونه انذاك من جهود يقصر القلم عن وصفها فانهم كانوا يعتقدون انهم مقصرون وبالتالى فتشبهوا ان لم تكونوا مثلهم ان التشبه بالكرام فلاح

محمد الهادي العامري

اشترك في نشرتنا البريدية