الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

من تراثنا المجهول :, كتاب " حرب على الجوع " لمنور صمادح

Share

" أن أمة تستحى من دراسة تاريخها لا تستحق الحياة " هكذا قيل وهكذا يجب أن نفكر . أن جيل شبابنا " المتجنسين " حضارياً وفكرياً لا يعلمون أبعاد ماضينا التونسى ومعالمه الخالدة . وهنا نطرح سؤالاً جوهرياً :

- كيف وقع تناسى جزء هام من تاريخنا التونسى ؟

أعتقد أن المسؤول أمام الأمة قاطبة عن هذا التناسي هو الاتجاه التربوي ، هذا الاتجاه العقيم الذي أنتج أيتاما للارض لا يفقهون شيئاً عن أنفسهم  وذاتيتهم . . فالتربية اشتغلت برفع الأمية . . . وتوخت الشمول دون الحفر عموديا . . فتجاهل شبابنا تاريخ وطنهم .

يجب أن نتساءل بعنف وجرأة :

- ماذا يعلم جيلنا المعاصر عن محمد على والطاهر الحداد و . . و . . و ؟  خامرتني هذه الخواطر وأنا أعثر على كتاب صغير الحجم . . كنت قرأته أيام الصبا الأول ، وجاء بين يدى من بين أكوام الكتب التى أهملت في مكتبتي عن عبر قصد . . عنوانه : حرب على الجوع مؤلفه منور صماح عام 1955  أى في مطلع التحرر التونسى من كل مظاهر الاستعمار والعبودية والتخلف .

هذا الكتاب ذو قيمة جوهرية . . لماذا ؟

لانه نتيجة تجربة مريرة ووعى حساس . تجربة لان منور صماح نفسه شاب تونسى مناضل بكل معانى النضال ، سليل عائلة كادحة ، تعلم في دروب الحياة كيف تكون اللقمة بثمنها دماً . . خير سبل التعبير بالكلمة  العنيفة القاسية العاصفة . وجاء صوته من أول أصوات الثورة التونسية...

جاء صوته - وهذا نقوله للتاريخ - حينما كانت الأصوات الأخرى تنعم بالغفوة وتستمرى الاحلام بين الفراشات والأزهار . جاء صوته العنيد الغاضب فى زمن كانت فيه أزمة الأصوات الصادقة على أشدها ، وكان إنعدام الثقة فى مستقبل تونس تونسية يمنع " النخبة " عن الكلام وعن التفكير . . جاء صوت منور صمادح ليؤكد أن أرادة الانسان التى تغنى بها الشابى يمكن أن تتحول إلى حقيقة لاغبار عليها . . . هذه هى تجربة الشاعر .

أما الوعى الحساس فهو نتيجة تأمل فى المجتمع إبان الثورة . . فى فترة تاريخية شائكة . . . تأمل أدى إلى إعتبار الجوع أحد القوى المضادة للثورة التونسية الجوع هو حسب التحليل العلمى الاقتصادى خلاصة علاقات مغلوطة وغير متوازنة بين الفرد والفرد وبين المجموعة والمجموعة . . . وهو فى منطق الشاعر أحد عناصر الفناء والتلاشى ورمز من رموز إنحطاط الأنسان الذي أصبح شقياً بانسانيته .

يقول منور صماح في كلمة للقارئ ما يلى :

" أن وجود الفقر فى تونس العزيزة لهو دليل على الفساد والبلادة بجميع ألوانها ، فى الإدارة والسياسة والقانون والأجتماع والأقتصاد والشريعة . ." أن وجود الفقر فى تونس معناه أننا معشر التونسيين قد حكمنا على أنفسنا لا بالشقاء والتعاسة فقط ، بل بالتدهور الإجتماعى الذى ينجم عنه الإنحلال بجميع أنواعه العقلي والأخلاقي والدينى والإنسانى . . . "

هكذا يضع منور صمادح الجوع والفقر فى إطارهما الإقتصادى والنفسى والإجتماعى والعقائدى الصحيح . . . ويدعو إلى إصلاح هياكل المجتمع قبل أن ينهار وقبل أن يصبح كعصف مأكول .

ثم يدعو منور صماح إلى إيجاد الفرد الحى المتحرك الذي يغير الوضع البائد ويبنى على أنقاضه حياة جديدة مليئة بالحزم العاقل والنشاط الموجه والعدالة الإجتماعية الحقة التى تمكن كل التونسيين من العيش الكريم .

ويمضى منور صمادح فى كتابه الكبير إلى عرض لوحات من البؤس بعناوين:  بآسم الانسانية والضمير ، الحرمان ، طفولة مشردة ، شباب محطم . هل مات الاحساس . أين الرجولة . من المسؤول . نتيجة الاقطاع . . الخ . . الخ ..

أحاديث حول من سماهم منور صمادح : كتلاً من البشر المحرومين حتى من أبسط حقوق البشرية التى هى الخبز والكساء والمأوى . . وفي هذا السياق يقول الكاتب : " أنا لا أريد أن أستجديكم عنهم ، ولا أريد أن إزهدكم فى الحياة فأدعوكم إلى إبتياع الآخرة بالدنيا كما يفعل الفقهاء الزاهدون ، ولا أريد أن أذكر أى فرد منكم بقانون " من أين لك هذا " كما أنى لا أدعو إلى الشيوعية .. فلست مستجدياً ولست فقيهاً ولست شيوعياً إنما المقصود من ذلك هو لفت نظركم إلى أناس لهم عليكم حق الإحساس بكرامتهم الإنسانية المهدورة . . " ويتساءل فى باب آخر :

" رأيت كيف يعيش أكبر قسم من المجتمع فى الحرمان وكيف أستفحل الجوع والعراء وكيف تعذب مئات الآف من إخواننا التونسيين وكيف أن البؤس كان عظيماً حتى نال من أرواح الفقراء كما نال من أجسامهم . فمن هو المسؤول . ."؟  وبالطبع يلقى منور صمادح المسؤولية على كل فرد يعيش فى المجتمع وصراعه .

تم طبع هذا الكتاب فى 1955 فى فترة تقع بالضبط بين الارتباط بالزخرف الغربى المسيحى والبحث عن مقومات شخصيتنا التونسية .

وهذا المفهوم لم يدخل مضمون الكتاب بيت الاحالة عل المعاش الفكرى . .  لاننا فى تونس مازلنا نسمع حواراً طويلاً حول شخصيتنا وذاتيتنا فى مهب الإنغلاق والتفتح وفي مهب التونسة والتعريب وفي مهب الأصالة والحضارة  . . أما منور صمادح فأعتبر فى كتابه أن العدالة الإجتماعية هي إحدى أسس هذه الشخصية . . حتى يتاح لنا بعد ذلك أن نفكر فى المناخ الحضارى والثقافي لبلورة هذه الشخصية وتنميتها . وموضوع الكتاب بذلك أصبح موضوعاً  معاصراً . . وقد كتبه صاحبه منذ 16 سنة ...

أردت من خلال هذا العرض الموجز أن أبلغ هدفين : الأول التعبير عن العرفان والتقدير لمنور صمادح من أخ له فى الوطن لم يتح له أن ساهم فى تلك الفترة العصيبة من تاريخنا .

الثاني تقديم هذا العمل للجيل الذي يعاصرنى حتى يعلموا أن بعض الرجال أخلصوا للوطن فى فترة يعسر فيها الاخلاص ، ومن عارنا أن لا نقرأ تاريخهم ونعرفهم ونكبرهم .

اشترك في نشرتنا البريدية