الاشتراكية فى مفهومها العام مذهب اجتماعى واقتصادى يهدف الى بعث مجتمع جديد افضل من سابقه ، قوامه العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة الاقتصادية ، ووسيلته ملكية الدولة لدواليب الانتاج وادارتها او الاشراف عليها طبق خطة مضبوطة الاهداف محددة الوسائل .
على ان السبيل الى الاشتراكية يختلف باختلاف الاوضاع ونوع الانتاج وحاجة السكان . ولذا فان الاشتراكية اصبحت تنعت باسم البلاد التي اعتنقتها وحتى الاشتراكية العلمية نفسها التى كان " من المفروض " تطبيقها حسب تحليل و " تنبوءات " كارل ماركس " الحتمية " قد ثبت وجوب تكييفها حسب الاوضاع التى تطبق فيها فأصبح الكلام عن الاشتراكية الروسية والاشتراكية اليوغسلافية وألاشتراكية الصينية وكذلك فى بلدان اوروبا الغربية هناك الاشتراكية البريطانية العمالية والاشتراكية السويدية والاشتراكية الفرنسية وغيرها . وكان من الطبيعى ان يشمل هذا التنوع البلدان المتخلفة التى اختارت الاشتراكية للخروج من التخلف وتحقيق التنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعى باعتبار ظروفها الخاصة .
ولكل هاته الاسباب ننعت اشتراكيتنا فى تونس بانها اشتراكية دستورية او بورقيبية لانها منبثقة من الحركة التحريرية الدستورية ومطبوعة بفلسفة المجاهد الاكبر الحبيب بورقيبة ونظرته للحياة وطريقته فى الكفاح .
ومن جملة ما تمتاز به الاشتراكية الدستورية انها عميقة الجذور امنت منذ بعث الحزب بان الحرية السياسية يجب ان ينجر عنها حتميا الحرية الاقتصادية وامنت بان الديموقراطية السياسية تكون فارغة المحتوى اذا هى لم تقترن بالديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية وامنت بامكانية تلافى العنف والقسوة وتعويضها بالتربية والاقناع ، كل ذلك ليتوفر للديموقراطية مضمونها الايجابى وللاشتراكية معناها الانسانى الحقيقى .
ولا غرابة ان اختارت تونس الفتية الاشتراكية الدستورية مذهبا لها فى الحياة فنظامها يرتكز على حزب شعبى يكافح منذ بروزه للوجود سنة 1934 على يد المجاهد الاكبر الحبيب بورقيبة لفائدة الجماهير الشعبية وبارادتها . والحزب
الحر الدستورى التونسى بفضل مبادئه واهدافه وطريقته ونظامه قد غرس فى الشعب روح الثورة على الاوضاع الفاسدة وعقلية التطور والعمل الجماعى المبنى على الاقتناع والتضحية ، وقد تمكن الحزب بفضل نظام وحيويته وشعبيته من التعرف الى الواقع التونسى فى مختلف اطواره ومظاهره والى تقديم العلاج الناجع للاوضاع غير الطبيعية التى اعترضت سبيل الشعب فى تقدمه وتطوره . وقد تجلى كفاح الحزب لفائدة الشعب فى ميادين ومراحل ثلاث متسلسلة تسلسلا تاما وهي : التحرر من الاستعمار ثم القضاء على مخلفاته واخيرا تحقيق العدالة والرفاهية للجميع .
وما ان تحصلت تونس على استقلالها وجسمت سيادتها كاملة والغت الملوكية واقرت النظام الجمهورى حتى اخذت تسعى لمعالجة التخلف الذى تركها عليه لا عهد الاستعمار فحسب بل ايضا قرون التدهور والانحطاط التى سبقته ومهدت له .
وبعد تحليل الاوضاع وما تتصف به من فقر وضعف الثروة الطبيعية وتزايد النسل واختلال التوازن بين الامكانيات والحاجيات . . وبعد اكتشاف اسباب التخلف الاستعمارية منها والفوضوية وبعد ضبط الحاجيات التى يتطلبها الشعب قاطبة ... بعد كل ذلك اختار الحزب طريقه فى التفكير وهى الاشتراكية وطريقته فى العمل وهى التخطيط .
ويهدف التخطيط الى " اصلاح الزراعة والنهوض بالتصنيع وتوفير الشغل على اساس مجهود جماعى عتيد وتضحيات مشتركة غايته اسعاد الانسان اولا وبالذات . كما ينص على ذلك ميثاق الحزب المعلن عنه فى المؤتمر الاول بعد الاستقلال ، مؤتمر النصر المنعقد بسوسة ما بين 2 و 5 مارس 1959 .
وما " المجهود الجماعى ... والتضحيات المشتركة " التى جاءت فى ميثاق مؤتمر الحزب الاخير الا عنوان على الاشتراكية .
والاشتراكية التى نسعى لبنائها فى تونس لا تختلف من مفهوم الاشتراكية فى العالم من حيث الاهداف اجتثاث الاستثمار والاستغلال وتحقيق العدالة الاجتماعية . الا انها لا تعنى حتما وقف كل دواليب الانتاج على الدولة بل تمكين الجماعات والافراد ايضا من وسائل الانتاج بشرط الاستجابة الى اهداف المخطط والى النظرة الاشتراكية الاصيلة ، وفعلا فالى جانب القطاعات الاساسية كالطاقة والصناعات الكبرى والمزارع النموذجية والمشاتل والتجارة
الخارجية والدواوين بانواعها وغيرها التى هى بيد الدولة فاننا نجد ان للجماعات وحتى للافراد الحق فى التصرف فى عدد كبير من وسائل الانتاج ، بل اكثر من ذلك فان الدولة تشجع هذه الجماعات وهؤلاء الافراد على هذا بشرط توفير الانتاج لا قصد الربح فى حد ذاته بل خدمة للمجتمع على اساس عدم الجشع المفرط والاستغلال الفاحش . وهكذا تأسست وحدات الانتاج الزراعية والشركات الجهوية للتجارة والنقل وغيرها لا على اساس راس مالى بل على أساس تعاضدى باعتبار ان للتعاضد المكانة الاولى فى التطبيق العملى للوصول الى اهداف الاشتراكية لما يحتوى عليه من حرية ومساواة وعدالة وعدم استغلال .
ومن اهم مميزات الاشتراكية التونسية أساليب تطبيقها المرنة تلك الاساليب التى اعتمدها الحزب فى مختلف اطوار كفاحه والتى اصبحت تنعت بالبورقيبية . فلقد استطعنا بفضل تلك الاساليب ان نكسب معركتنا الاولى ضد المستعمر وهى آلاساليب نفسها التى نريد بها كسب المعركة الثانية وهى المعركة الاقتصادية وتركيز المذهب الاشتراكى بدون اعتماد اسباب التعنت والانغلاق وبدون ان نحمل شعبنا ضيما بل نريده ان يسطر مصيره بنفسه فى كنف السلام والاخوة والوحدة القومية . وهاته الاساليب مبنية على ارادة التثقيف ورفع المستوى وتمكين المواطنين من فهم مشاكلهم حتى يرتفعوا الي مستوى المسؤولية وان فى هذا حفظا لكرامتهم وتحقيقا للديموقراطية الحقة .
ذلك ان سبيلنا الى الاشتراكية تنبذ حرب الطبقات خلافا لما تدعو اليه الشيوعية تلك الدعوة التى لم يؤيدها التاريخ ولم يؤيدها الواقع فى هذه الناحية .
فقد استنتج كارل ماركس من تحليله لواقع اوروبا الغربية فى فجر الثورة الصناعية فى منتصف القرن الماضى ان تاريخ البشر صراع مستمر من اجل الاستحواذ على ادوات الانتاج .. وخرج عن استنتاجة هذا بانه كما خلف عهد الاقطاعية عهد العبيد سيخلف عهد العمال عهد الراسماليين ...
والحال انه ليس للقواعد التى يرتكز عليها التاريخ من الصحة ما للقواعد العلمية والفنية كالحساب مثلا لما للبشر من قيم خاصة تتحكم فى اعمالهم وهى قيم اخلاقية قوامها الضمير والعقل .
وفعلا فعوضا عن التطاحن الطبقى الذى كان يراه كارل ماركس ضروريا
لان تأخذ طبقة العمال مكان طبقة الراسماليين نرى ان الحكومات اخذت تقوم بدور الوسيط بينهما للتوفيق بين الطرفين طبقا لمصلحتهما ومصلحة المجتمع كله .
هذا بالاضافة الى ان وضعية البلدان المتخلفة والسائرة فى طريق النمو تختلف عن وضعية البلدان الصناعية المتقدمة وهى تستدعى اولا وبالذات توفير الانتاج على اساس تصفية مخلفات الاستعمار والتخطيط الاقتصادى وبناء مجتمع سليم عادل لا استعباد فيه ولا استغلال .
والطريق إلى ذلك كله يعتمد على قابلية المواطن التونسى لتبديل عقليته ونظرته وتحسينها طبقا لقواعد الرقى والتقدم والتضامن القومى بين افراد الامة الواحدة .
وخلاصة القول كما ذكر المجاهد الاكبر الرئيس الحبيب بورقيبة : " ان الاشتراك تلتقى كلها فى هدف واحد هو الرفع من المستوى ومقاومة البؤس والتخلف فى مختلف مظاهره .
وان المعركة التى يخوضها الشعب لتحقيق الاشتراكية هى استكمال لسيادته وتوفير للكرامة البشرية التى لا يكون بدونه للاستقلال السياسى معنى وهى امتداد لمعركة الحرية الحقيقية التى دخلها الشعب التونسى منذ اكثر من ثلاثين سنة . والاشتراكية الدستورية هى اشتراكية تسير الى الهدف المنشود مراعية الظروف والامكانيات والمعطيات التونسية كما ان هذه الاشتراكية تحسن الظن بالانسان وهى تعتمد عليه مستعملة الاقناع واظهار الحقيقة حتى يعمل لها كل المواطنين عن طيب خاطر وبدون ارهاق او ضغط واننا نؤمن بان البشر قابل للتحسن ونعتقد اننا قادرون على قلب العقليات ونحن لا نيأس مبدئيا من اصلاح البشر . واننا لا نؤمن بضرورة حرب الطبقات ونحن نسعى بلا شك للقضاء على الامتيازات والتفاوت المجحف معتمدين فى ذلك على الاقناع " .
