ومن اطرف ما علق بذهنى من ذكريات هو انى حينما هبطت هذه البلاد . . وركبت القطار - من فولكستون الى لندن - وكنت حينئذ معتمدا بما حصلته من اللغة الانجليزية طوال دراستى لها خلال السنوات العشر المواضى . . وقد كنت اعتقد أني قد بلغت بها من الحذق والمهارة بحيث أنى استطيع أن اطاوعها لجميع اغراضى . . فزين لى لقائى مع أول انجليزى كان يشاركني المقعد أن ادهشه بما اعرفه من دقائق لغته . .
فلم البث أن وجهت اليه سؤالا مفاجئا عن الساعة . . كم كانت فى ذلك الوقت . . فبانت الحيرة على وجه الرجل . . ثم ما اسرع ان استرد هدوءه وهو يقول كالمعتذر . . آسف فانى لا أعرف غير الانجليزية لسانا وكنت كمن فجع في قصور ظنها بناء مشيدا . . فاذا هي رمال تنقلها الرياح من سبيل الى سبيل . .
وادركت تماما كم تبعد الشقة بين هذه اللغة التى تستظهر كلماتها عن الكتب غيبا . . وعن هذه اللغة وهي تنبض بالحياة فى أفواه أهلها . . نطقا واداء . .
ولم يكد المقام ليستقر بي في محطة لندن . . حتى تدفق لسانى بسيل من الاسئلة . . أين اجد فندقا قريبا وأضعت من زمن اللندنيين ساعة قبل أن يجدوا بين كلمة هوتيل التى كنت انطقها على لغة الشرقيين وبين نطقهم
لها صلة وعلاقة . . ولست ادرى . . فى الشرق على النطق بها على الوجه لم لا يعودنا اساتذة اللغة الانجليزية الصحيح . . بدلا من هذا الخليط المستهجن الذي لا هو بالانجليزية ولا هو بلغة أخرى من لغات هذا الشرق القاصى أو الدانى . .
ومن اشد المشاكل التى تعرضت لها فى لندن طويلا . . هي مشكلة الطعام . . فبينما نحن الشرقيين لانجد الى الاستغناء عن الارز والخبز فى طعامنا سبيلا . . يكاد يخلو الطعام فى أوروبا عن هذين الصنفين تماما ، وقضيت ما يقارب الاسبوعين ، وانا أروح وأغدو خميص البطن لا أجد الى الشبع سبيلا . . فلا اكاد اكظ بطني بطعامهم حتى يذهب بعد قليل ولكأنه لم يكن اكلا وطعاما . . انما كان ماء قراحا وشرابا . .
واهتديت بعد لأى الى بعض المطاعم الباكستانية والهندية . . لعلى اصيب من طعامهم ما يرد على جوعى الملح . . الا أن جنيها بأكمله كان يتسلل من كفى قبل ان أجد الى الشبع والامتلاء في مطاعمهم سبيلا . .
ومضى ما يقارب الشهر وانا تحدثني نفسى يوميا بالعودة من هذه البلاد التى لا يعرف أهلها الشبع ولا الامتلاء وبينما انا ذات يوم ماض فى سبيلي اذ لمحت على اليمين لوحة . . ولم تكن هذه اللوحة تختلف عن غيرها من اللوحات فى شئ . . عدا الرخص
الواضح . . فيما يقدم هذا المطعم من ما كل . . وشجعنى ما لحظته من هبوط أسعار المطعم على واوجه . . ولتكن هذه المحاولة كأخواتها السابقات وما اصابها من الخيبة والفشل . وما لبث المطعم ان ابتلعني كحوت كبير واذا بي أجد نفسى فى ذلك النوع من المطاعم التى يقوم فيها العملاء بخدمة أنفسهم . . ولما كنت فى تلك الايام
ما زلت في جهل بأسماء الاطعمة التى تقدم فى مطاعم لندن . . فقد عولت لاقلد فى الطلب من سوف يسبقني من المترددين على هذا المطعم . . ولم ألبث طويلا حتى نفذت ما كنت قد قررته سابقا ، وما كاد صاحبي الذي كان يتقدمنى يحمل صحفة وصحنين فارغين حتى قلدته على الفور والتو وما كان أسرع التقاطى للكلمتين اللتين انحدرتا من فمه على بحمل . . ولم يلبث صحناى ان عجا بطعام كثير .
فاسترقت اليها نظرة على الرغم منى وانا ماض فلاحظت أن فى الصحن الاول أداما مكونا من قطعة لحم كبيرة تخالطها بعض المكرونة . . أما الآخر فقد فاض عن قطعة ضخمة من البطاطس المفرومة . . وتناول صاحبي بعد ذلك صحنا من الحلوى . . فصنعت مثل ما صنع . . وما لبثت أن اتخذت مقعدى خلف مائدة مطاولة . . وقد مد فوقها سماط نقي نظيف . . ولا تسل عن دهشتي البالغة حين وجدت الادام لذيذ النكهة . . طيب المذاق مشبعا فعلمت ان اللندنيين يملئون بطونهم بطاطس مفرومة ومسلوقة . . كما
نملؤها نحن خبزا وارزا . .
ولاستميح القارئ بأن انقله من جو الطرافة . الى جو الجد والرزانة فمما لحظته أن الحضارة الأوربية قد استذلتها الآلة . . فناسها ليسوا ناسا . . وأهلها ليسوا أهلا . . انما هم آلات صغيرة تدور من غير وعي ولا تدبير فالاوروبى لا يكاد يختلف عن آلته الحطمة هذه . . فهو مثلها قد فقد المثل العليا . . فلا رحمة فى دنياه . ولا شفقة فى عالمه فهو يخترع القنبلة اثر القنبلة ليدمر بعضه بعضا . . وليس ذلك اليوم ببعيد حين يأتي فيه كل غربى على اخيه . . وفي هذا اليوم سيعطى الشرق المسلم مشعل الهداية وعصا القيادة . .
هذا الاسلام الذي حمل سابقا ، وسيحمل لاحقا الى البشرية ايمانا هو الغاية فى نفاذ المنطق . . ومجتمعا هو الغاية فى توفير العدالة والكرامة والسلام . . أجل لقد فشل الغرب فى أن يقود هذه الحضارة فما احرانا ان نتعظ لئلا نكون مثله خيبة وفشلا
فان نحن استعرفنا من الغرب آلته فأصبحنا مثله انانيين اثريين ونبذنا ما يحضنا الدين عليه من اتباع المحبة والايثار . . فلن يكون نصيبنا بعد عذاب المدى الطويل خيرا من نصيب هذا الغرب . .
افترانا قد هيأنا انفسنا لحمل هذه الامانة الثقيلة مستقبلا . . أم اننا عن اداء رسالتنا العظمي لاهون . . وعن فهم هذه الحقيقة ساهون . .
