اللغة العربية هى احدى اللغات السامية كالاكادية والسامية الشرقية والسامية الغربية ، وتنقسم الى العربية الشمالية التى كان يتكلمها عرب شمال الحجاز ووسطه وجنوب الشام الى حدود الحيرة ، وعربية الجنوب التى كان يتكلمها اليمنيون وجنوب الجزيرة والتي يسميها مؤرخو اللغة بالسبئية هذه اللغات السامية تتداخل كثيرا ويأخذ بعضها من بعض ، حتى لا تكاد تفرق بينها عند سماعها ، بل ان التفرقة بينها اقل من التفرقة بين اللغات الهندية الاوربية التى درسها الباحثون خلال القرنين الاخيرين اذ ان اللغات السامية القديمة عدا الاكادية تتقارب فى مخارج حروفها ومعنى كلماتها .
" ولما بدأ عصر الاباء العبريين عند مطلع الالف الثانية قبل الميلاد لم يكن الفرق بين اللهجات العربية يزيد على الفرق بين لهجاتنا العربية فى هذه الايام واذا كانت العربية تعود مع اللغات السامية الاخرى الى اصل واحد فانه من الطبيعي ان تتقارب وتأتلف بعض الاصول والقواعد ويأخذ بعضها من بعض كلما اعوز الامر . وقد نقل مرجليوت عن Dussaud ان الحفريات النبطية التى ترجع الى القرن الثالث قبل الهجرة تدل على تقارب شديد بين الارامية والعربية الفصيحة (1) "
وهناك تشابه ظاهر بين العربية وبين اخواتها القديمة كالارامية والعبرية والبابلية والاشورية ، بل تجد كلمات كثيرة مشتركة بين هذه اللغات كلفظة الله في العربية والوهيم في العبرية والوفي في البابلية . وكذلك فى اوجه الاعراب والحركات وعلامات الجمع ، وقد قال بعض علماء اللغات : ان لغات اقوام يتساكنون فى منطقة واحدة تتقارب كثيرا ولو اتسعت الرقعة التى يتساكنونها لارتباط المصالح وتقارب الجنس ، وهذه النظرية تنطبق تماما على الامة السامية التى من ابرز عناصرها العربية امة ولغة .
وبهذا يظهر ان اللغة العربية تستمد جدورها من لغات قديمة اصيلة شأن كل لغة ماجدة لها اخواتها واصلها لا منبتة لا تتصل باصل ، فهى نسيج عصور
بعيدة وتجارب لامم غابرة اورثتها لاحفادها الذين حافظوا عليها ونشروها في اصقاع عديدة بعيدة ، وطوروها حسب السنين والحاجيات ، وهذا سر مجدها ، وان كانت العربية لغة قبائل تختلف فى لهجاتها الا ان المهم هنا هى تلك اللغة التى تكلمها يعرب بن قحطان ثم انتقلت من اليمن الى العراق زمن احتلال الفرس لليمن ومنها الى الحجاز حيث تهذبت وشذبت وصارت لغة الادب الجاهلى من خطابة وامثال وشعر واكمل تقويمها القرآن الكريم والسنة النبوية وصارت لغة اكبر دين سماوى ، ذلك الدين الذى نفخ فيها وجعلها لغة فقه وكلام بفروعه ، فأسست لها القواعد والعلوم الواسطة كما يسمونها من نحو وصرف وبلاغة وعروض وما تفرع عنها .
اصل الكلمة العربية : يذهب فريق من علماء العربية الى انها وضعت فى أول امرها على هجاء واحد متحرك فساكن ، محاكاة لاصوات الطبيعة ثم زيد فيها حرف او اكثر في الاول او الوسط او الاخر لضرورة التصرف ، حسب البلد والقبيلة ، فكانت الزيادة والقلب والحذف والابدال دليلا على معنى يماثل او يغاير الاصل .
واول من قال بهذا الراى الراغب الاصبهانى الذي بنى معجه على ان المضعف هجاء واحد ، فمد وشد كلاهما من حرفين مد وشد . والمتأمل فى كل مضعف يجده كذلك ، ومثله الناقص فاصله في العربية القديمة بحذف حرف العلة في آخره فشظاه تطور لــ. شظ ، وصفا اصله صف وقضى ، قض ودليلنا على ذلك ان حرف العلة ليس بقار في الكلمة بل يحذف فى بعض الاحوال ، تقول صفت السماء وقضت المحكمة وكذلك كل فعل معتل ، فان الكلمة ترجع الى اصلها الثنائى في بعض الاعمال مثل : لم أك ، أف ، ولم أرم ، فالهمزة للمتكلم واصل الفعل رمء فالجزم يرجع الفعل الناقص الى اصله وكذلك الرباعي الذي على وزن فعلل مثل كفكف ، فاصله ثنائي ، ك ف ، جزم ثانية لسهولة الانتقال من الفتح الى السكون وكذلك ثالثه فتح لان اصله الحرف الاول وكذلك الرابع لانه الحرف الثاني من الكلمة فاحتفظ نصف الكلمة الاخير باصلها .
وعلى هذا يقاس خبب ودقدق ووحوح الخ ... وكأن العربي كلما تطور ودعت الحاجة الى زيادة حرف عن اصول الكلمة الواحدة زاده دون تحرج وفي النقوش الثمودية التى تولدت عنها الاحرف العربية ، كانت حروف العلة قليلة الاستعمال ، فكانوا يكتبون ساعد هكذا س - ع - د - (2) ، وانما أوتى بها لتدل على معنى جديد .
وقال السيد مرتضى : كاع عن الشىء يكاع ، كخاف يخاف ، لغة فى كع ، التى اصلها ثنائيا كع وكذلك فى الاسماء فاكثر الاسماء الاولى ثنائية مثل أب ، أم ، أخ ، يد ، فم
وفى النقوش العربية القديمة لث - لليث - (3) .
وقد احتفظت لنا المعاجم بكلمات ثنائية ما زالت بترابها البدائى الاول . من ذلك قول ابن منظور فى مادة هج - هج - وهج - هج وهج هج وهجا هجا جزر للكلب (4). وعندى ان كان لى عند ، ان الهجاء ماخوذ من هذا ، وجع جع منه آخذت الجعجعة ، وفي الامثال : اسمع جعجعة ولا ارى طحنا (5) .
وكذلك صه ، بمعنى اسكت ، قال الشاعر : صه لا تكلم لحماد بداهية عليك عين من الأجذاع والقصب (6) يؤخذ من هذا ان اول المفردات كان موضوعا على هجاء واحد اى على حرفين وذلك محاكاة للطبيعة كما فى لغة كل بدائى ، فالاطفال لا ينطقون اول امرهم الا بحرفين ، وكذلك البدائى فهو يستمد لغته من محاكاته للطبيعة فزعزعة الرياح مأخوذة من حركتها ، زع زع ، وحفيف الاغصان من حف حف ، وصرصرة الصرار ليلا من صر صر ، ومئمئة الشاة من صياحها مى ، مى وقعقعة السلاح من قع قع ، وخرير الماء من خر خر ، وابساس الناقة من بس بس ، والابساس الرفق بالناقة عند الحلب (7). الخ .. (8)
ولكن هذه الثنائيات تتطور بحسب القبيلة والبلد والحاجة اليها فتولد منها المضاعف والاجوف والناقص والمهموز الذى هو أثقل التراكيب ، وزيد فى الكلمة بحسب الحاجة حتى بلغت سبعة احرف .
ايهما اسبق رتبة فى الزمان ، الاسماء ام الافعال ؟ هناك خلاف بين علماء العربية هل الاسم اصل لتركيب الكلام ام الفعل . فاكثرهم يتفق على ان الاسم اصل ، ولعل ذلك ناشىء عن عقيدة ، اذ واجب الوجود تعالى اقدم موجود بلا ابتداء وبما انه جل وعلا اسم فهو اقدم ، وعنه نشأت كل الافعال اذ لا يعقل ان تنشأ افعال بدون فاعل ، فعلى هذا يتعين ان الاسم اسبق فى الزمن من الفعل ؟ وعلى هذا الراى غالب اللغويين وعلى راسهم ابن جنى العلامة المشهور .
" الاسماء اسبق رتبة من الافعال فى الزمان كما انها اسبق رتبة منها فى
الاعتقاد واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت اليها ، اذ كان الواجب ان يبدأوا بالاسماء لانها عبارات عن الاشياء ، ثم ياتوا بعدها بالافعال التى بها تدخل الاسماء في المعاني والاحوال ، ثم جاءوا فيما بعد بالحروف ، لانك تراها لواحق بالجمل بعد تركيبها واستقلالها بانفسها ، نحو : ان زيدا اخوك " الخصائص ج 2 - ص 35 - ويخالف ابن جنى ومن على رأيه ، مستشرق بحث فى تاريخ اللغات السامية هو اسرائيل ولفنستون اذ يقول : وقد راى بعض علماء اللغة العربية ان المصدر الاسمى هو الاصل الذى يشتق منه اصل كل الكلمات والصيغ ، ولكن هذا الرأى خطأ - فى راينا - لانه يجعل اصل الاشتقاق مخالفا لاصلة في جميع اخواتها السامية وقد تسرب هذا الراى إلى هؤلاء العلماء من الفرس الذين بحثوا فى اللغة العربية بعقليتهم الارية ، والاصل في الاشتقاق عند الاريين ان يكون من مصدر اسمى ، اما فى اللغات السامية فالفعل هو كل شىء فمنه تتكون الجملة ولم يخضع الفعل للاسم والضمير ، بل نجد الضمير مسندا الى الفعل ومرتبطا به ارتباطا وثيقا " ولعل الامر هو اقدم الافعال ( على قاعدة الثنائية ) ومنه اخذ الماضى والمضارع (9) .
العربية وليدة التأمل والذوق :
اشرنا الى ان العربى يضع مسمياته من تاملاته فى الطبيعة وهذه رواية اخرى تدعم ما قلنا ، قال ابن دريد (10) : حدثنا السكنى بن سعيد الجرموزى عن العباس بن هشام الكلبى عن فراش ، قال : خرج وائل بن قاسط وامرأته تمخض وهو يريد ان يرى شيئا يسمى به ، فاذا هو ببكر قد عرض له ، فخرج وقد ولدت غلاما ، فسماه بكرا ، ثم خرج مرة اخرى وهى تمخض ، فراى عنزا من الظبا فرجع وقد ولدت غلاما فسماه عنزا ، وكما انها وليدة تامل فهي وليدة ذوق وفن ، فاذا كانت احرف الكلمة سهلة المخارج الصوتية احرفها غير متنافرة دلت على شىء جميل او صورة فنية واذا كان العكس دلت على صورة غير محببة للنفوس ، فما توحيه لفظة ظريف وجميل هي عكس ما توحيه لفظة هلقام (11) وعثجل من غلظ اعضاء الرجل وبرذع للغليظ الخلق والشنظير للشىء السىء الخلق والغندر للسمين (12) فاذا تنافرت حروف الكلمة دلت على ذم وتبشيع ، من ذلك احبنطى للقصير المتداخل الاعضاء قال الشاعر :
فلست بمحمود ولا بمحمد ولكنما انت الحنبطى الحباتر وقعوس من القعوسة وهو التذلل والتصاغر وتداخل العنق فى الظهر، وعثجل للغليظ الاعضاء ، وقفعود للقصير وشمخر للمتكبر
ومن شروط فصاحة الكلمة العربية أن لا تكون فيها عجمة وان لا تكون مكروهة فى السمع وذلك يرجع الى طيب النغم الموسيقى (13) .
واكثر ما تقع الحروف الثقيلة فيما فوق الثلاثى مفصولا بينها بحرف خفيف ، واكثر ما تقع اولا وآخرا وربما قصد بها تشنيع الكلمة لذم او غيره (14) وقال : قبح حازم ( القرطاجنى ) فى المنهاج تتابع الكسرات وحروف العلة (15) .
وما تقاربت حروفه تقاربت معانيه أو تناقضت ، مثال ذلك معص : وجع يصيب الرجل من كثرة المشى ومغص وجع يصيب البطن ، هين ولين ، تقارب الكلمتان في مخارج الحروف فتقاربتا معنى ، وكذلك جس ومس قريب بعضه من بعض ، وكذلك لطم ولتم ولثم ولدم ولكم كلها تدل على اشتراك فى معنى واحد هو الضرب ، وكما انها تدل على الاشتراك فى المعنى الواحد ، فهى كذلك تدل على التناقض مثال ذلك غاض الماء اى نفص ، وفاض زاد .
واذا كان الفن ما هو الا تعبير عما يقع على حواس المتكلم من حسن وقبح (16) فان الكلمة العربية تؤدى هذا الفن اصدق اداء . فلفظة جد في العربية تدل على معنى القوة والجدية والحزم وهي في الفرنسية تبدو رخوة موسيقية لا جدية فيها ، وان كانت قد وضعت للجد ، وكذلك لفظة عمل فى قول الله تعالى . وقل اعملوا فسيرى الله عملكم . تدل على الكد والتعب والانتاج ووصول الغاية ، وهى فى الفرنسية تبدو كسولة نؤومة ، والأمثلة على وضع الكلمة وضعا فنيا فى العربية كثير ، والفن ينتقل من الكلمة الى الجملة ، حتى قالوا : خير الكلام ما قل ودل ، وفي الشعر العربي طابع خاص للذوق العربي لا يوجد فى شعر آخر اللهم الفارسي لتأثره بالاوزان العربية ، وانك اذا ترجمت بيتا الى لغة اجنبية على الرغم من قدرتك على الترجمة اصبح الشعر الفنى كلاما عاديا تأمل فى بيت ابن الجهم :
عيون المهابين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث ادرى ولا ادرى
وترجمه الى اى لغة شئت ستجد ان اللغات كلها عاجزة على
التصوير الفنى الذى اراده هذا البدوى .
القلب والاشتقاق من مقومات الكلمة العربية :
قال ابن الاعرابى : من العرب من يقلب احد الحرفين المدغمين ياءا ، فيقول في مر : مير وفى زر : زير وفى رز : ريز (17) ويصير للكلمة الواحدة لغتان وذلك انها تقرأ بلغة قوم فتبدو عند اخرين مقلوبة نحو شاكى السلاح ، وشائك السلاح ، وهائع ولائع بمعنى جزوع ، ويقابل القلب الابدال ، فكما تقلب الكلمة في لغة قوم ، فقد تبدل فى لغة آخرين كما قال ابن منظور (18) فى رمه وزمه بمعنى اشتد ، تقول رمه الحر وزمه ، وفى لغة قريش قول الله تعالى : انا اعطياك الكوثر ، وفى لغة اهل اليمن : انا انطيناك الكوثر (19) وقراءة ابن عامر ابراهيم ، ابراهام لتأثير اللهجة الارامية فى لغة اهل الشام وقراءة حمزة كل مقصور بامالة تامة ؛ نحو الهدى وآلعلى ومولى اذا أضيف للضمير قرأه بالامالة فقال مولينا عوض مولانا ، وقراءة الكسائى بالتفخيم لغلبة التفخيم على لهجة العراقيين (20) .
اما الاشتقاق : فهو اخذ كلمة من اخرى مع تناسب بينهما فى اللفظ والمعنى وهو اغنى الموارد للكلمة العربية : يشتق من الفعل والاسم ما لم يوجد في العربية على صيغة وزن صحيح معترف به عند اهل اللغة ، والاشتقاق هو الذي جعل العربية حية قادرة على تعبير ما تريده مهما كانت متطلبات الحياة فاشتقوا من ارنب مرنبة على وزن مفعلة للمكان الكثير الارانب وماسدة للمكان الكثير الاسود ومن التوت متوتة للمكان الكثير التوت ، هذا قديما وحديثا على وزن فعلن صدأن للاوكسيجين باعتبار خاصيته من كونه يصدأ المعادن ومرهن من الماء للهيدروجين كذلك موتن للازوت (21) وباب الاشتقاق وما اشتق من الكلمات فسيح جدا ، وما يدعيه بعضهم من عجز العربية أمام الاختراعات فتنطع وعدم تبصر ، وما اعتنى علماء اللغة بفن مثل اعتنائهم بالاشتقاق لمساس الحاجة اليه وقد كتب فيه علماء كثيرون أمثال الاخفش وابن المستنير وأبو العباس الضبى والاصمعى وابو الوليد بن قطن المهدى وابو العباس المبرد والزجاج وابن دريد وابن جنى وفى آخرين كثيرين مجلدات
ضخمة (22) ومثل الاشتقاق ، النحت : وهو اختصار كلمتين او اكثر كلمة واحدة كما قالوا فى البسملة .
اللغة العربية تتعدد عناصرها :
لم يكن فى الحجاز قبل الاسلام بقرنين حكومات بل رؤساء قبائل وكهان وحكماء يلجأون اليهم فى الخصومات والخلافات ، كما انه لم نسمع عن حروب او اضطهادات دينية كما وقع فى بلدان اخرى مجاورة للحجاز مثلما وقع بين اليهود والنصارى وجاء القرآن الكريم مخبرا بذلك عن اصحاب الاخدود فلا شك وأن قبائل او افرادا كانوا ينزحون الى الحجاز حينما اكتسح الفرس اليمن وارهقوا اهلها وفيهم السبئى والحبشى ، كما ان قبائل عبرية وآشورية جاءت لاتخاذ الحجاز وطنا لما فيه من حرية العقيدة وانعدام حكومة فيه ، وبدخول هؤلاء للحجاز دخلت الفأط بعضها عربي حميرى قديم وبعضها سبئى والفاظ كلدانية واخرى آشورية فكانت اللغة تتعدد عناصرها شان كل لغة لكن هذه الالفاظ الجديدة لتقارب اصولها واشتراكها مع العربية فيها ما لبثت ان هضمتها اللغة الحجازية وقولبت على اوزان عربية الى ان صارت لغة ادب وفن (23) .
وبمجئ القرآن تاثرت اللهجات العربية فى جميع انحاء الجزيرة العربية ، فقد بدأت تتبلبل وتنجذب الى لغة القرآن حتى اندمجت اندماجا كليا فى لهجته التى هى لهجة قريش كما كان يتكلمها اهل مكة (24) .
ولما استقرت اللغة وصارت لغة العلم والدين لها اقوى شخصية اللغات وكثر الداخلون فى الامة العربية من غير العرب ، أخذ علماء المسلمين من أهل اللغة وحتى من غيرهم من كان عالما بها ، يدرك الخطر الذى أصبح يهدد اللغة العربية وادركوا أن عدوى الانحراف فى لغة العرب قد تتسرب الى العلماء والشعراء وأهل الادب ورجال السياسة ، ان هم لم يعملوا على تلافى اسبابها فوضعوا القواعد النحوية الصرفية لتكون سياجا يحول دون تدهور اللغة العربية وجاء العصر العباسي بنهضته العلمية فقام علماء يبحثون عن التدخيل فى اللغة او ما ليس من كلام العرب ، او المعرب ووضعوا المعجمات دونوا فيها ما هو عربى فصيح وما استعرب حتى صار فى حكم العربى (25) .
هل دونت ألفاظ اللغة كلها ؟
قال ابن فارس : اعلم ان لغة العرب لم تنته الينا بكليتها ، وان الذى جاء
من العرب قليل من كثير ، وان قليلا دون وكثيرا ذهب بذهاب اصله (25) وكذلك قيل في النثر والشعر ، وقال الفيروز ابادى : ولما رايت اقبال الناس على صحاح الجوهرى ، وهو جدير بذلك غير انه فاته نصف اللغة او اكثر ، اما باهمال المادة او بترك المعاني الغريبة النادرة قال شارح القاموس (26) : فاذا عرفت ذلك ظهر لك ان ادعاء المصنف (الفيروز ابادى) حصر الفوات بالنصف او الثلثين فى غير محله ، لان اللغة ليس ينال منتهاها ، فلا يعرف لها نصف ولا ثلث .
فى النحو :
كان عرب البادية هم المرجع فى كل ما يتعلق بفصاحة الكلمة العربية واصالتها وكان علماء الكوفة والبصرة يستخلصون قواعد النحو مما ينطق به العربي بعد مباحثات واستنتاجات بين هؤلاء العلماء وعرب البادية ، واذا حل بدوى معروف باحدى المربدين التف حوله الباحثون يسألونه وينصتون الى ما ينطق به فيدونونه عنه ويبنون قواعدهم على اقواله ، وكثيرا ما ينتقل الباحث المدون الى البادية يتنقل بين قبائلها ليجمع شوارد اللغة عن اهلها وحرص العلماء على الاعراب فى جمعهم للغة الى ان اجبروا البعض منهم على اختلاف الفاظ غريبة وكان الداعى لهذا ، اختلاف الوسطين فى المذهب ، فكانت الكوفة شيعية متطرفة والبصرة سنية عثمانية بكرية ، فاذا قال العالم الكوفى قاعدة نحوية مستندا على قول عربي ، ذهب البصرى الى البادية - يبحث عما يناقض قاعدة الكوفي وكان اهل الكوفة ازاء البصريين اكثر بحثا عما يناقض أقوالهم وقواعدهم ، فنشأ من ذلك مدرستان نحويتان ، مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة ، وعلى مر الايام وبتأسيس بغداد التقى النقيضان بالعاصمة الجديدة فتاسست مدرسة ثالثة هي وسط بين المدرستين وهى مدرسة بغداد هذا هو سبب تعدد أقوال النحاة فى قاعدة واحدة ، ونشأ من حرصهم على الاعراب في الاتيان بجديد من الكلمات ، وكان بين هؤلاء الاعراب بطبيعة الحال من هو صادق ومن هو كاذب ، ومن الكاذبين من يقصد التلفيق واختلاق الكلمات ، وهذا ما سبب تعقيدا فى القواعد النحوية وثقلا فى العلم نفسه وقد انتبه علماء القرن الرابع لما اصاب النحو فاراد بعضهم تسهيله على طريقة منطقية (27) قال في المقدمة : والمقصود من كتابنا هذا من اوله الى آخره التقريب والابانة عما ائتلف من حروف العربية فصار كلاما . وحاول غيره تجديد النحو كابن جنى فى بحثه لمشكلة المشتق والاشتقاق .
قال أبو سليمان السجستانى : نحو العرب فطرة ونحونا فطنة (28) ولكن هذه المحاولات لم تات بنتيجة تذكر ، فكان النحو لما جمع من غريب الكلم وشوارد الالفاظ وشواذ الامثال لما خلفته المدرستان المتضاربتان فيه من الثقل ما لا يستسيغه فن القول .
هل يمكن الغاء القواعد او استحداث قواعد اخرى للنحو والصرف ؟ بما ان قواعد النحو قد استقرت لاغلب ابوابه واتفق العلماء على استعمالها طيلة قرون عدة فلا اظن ان اية محاولة يمكن ان يؤمل لها النجاح لا سيما وان لكل قاعدة اصولا فى القرآن والسنة واقوال العرب ، لكن ما يؤخذ على النحاة هو ذلك التناقض الذي يحاول النحاة جهدهم تقنينه وسط القاعدة العامة او اعطاء تفاسير نحوية لكلمة تريد ان تفر من اصطلاحهم ويابون الا وضعها وسط القاعدة ، على انها تشد وتبقى ظاهرة جلية وانها ليست كما يريد النحاة بل شئ آخر غير واضح .
واليك بعض الامثلة : من ذلك قولهم : الفعل المضارع معرب ما لم تتصل به نون التوكيد او نون الاناث فانه يبنى على الفتح فى الاول وعلى السكون فى الثانى ، وكان من حقهم ان يقولوا منصوب بنون توكيد ومجزوم بنون الاناث ، ويبقى دائما معربا كما هو اصله ، ومنه قولهم : ان المضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم والتجرد عدم ، فكيف يؤدى الى وجود ؟ هذا تلاعب بالحدود والاصطلاحات ... فالحق ان يقال ما دام الرفع اصلا فى الاسناد والفعل مسندا فى كل حالاته فهو مرفوع لذلك ، لانه لا يقع الاسناد الى فاعله .
واستمع الى قول ابن مالك : والاصل فى المبنى ان يسكنا - ثم يقول : ومنه ذو كسر وذو فتح وضم - وعلى هذا يجوز لنا انكار البناء اطلاقا ، فاما ان يكون ساكنا والا رفضناه ورجعنا به لاصله وهو الاعراب ولكن هناك شواذ هكذا قيلت لا نعرف لها قاعدة قارة ، كما قالوا فى جمع المؤنث السالم وما جرى مجراه من كونه ينصب ويجر بالكسرة سماعا ، ومثله ما لا ينصرف .
النائب عن الفاعل : قالوا : ان الفاعل هو الذى اتصف بالفعل ، فهل نائبه كذلك ؟ وقالوا : لا بد لكل فعل من فاعل ، فاذا لم يكن ، فلا بد من نيابة شئ عنه ، والواقع ان الافعال لا تحتاج كلها الى الفاعلية ، وانما تحتاج لمن يتصف بها من فاعل وغيره . ففي قولنا : كتب التلميذ الدرس ، يمكن ان نقول علي قاعدتهم : كتب الدرس ، فاصل الاتصاف التلميذ كاتب ، وفى المثال الثاني
الدرس مكتوب . وعلى ذلك يمكن ان يقال : ان الافعال تحتاج الى معنى الموصوفية لا الفاعلية .
الاستثناء : قالوا ان الاسم المنصوب انما هو منصوب بما قبل الا وهو رأى العلماء من محققيهم ، اى ان عامل النصب فى المستثنى انما هو الفعل الذي فى اول الجملة ، ولكن اذا اتيت بهذا المثال ، حضر الناس الا عليا هل نستطيع ان نسلط فعل حضر على ما بعد الا ؟
الجواب : لا ، ولقائل ان يقول : ان كان الفعل مثبتا فما بعد الا فى حكم المثبت ، وما بعد الا على هذا الرأى لا يمكن ان يكون معمولا لما قبلها ، وقال جماعة منهم ان الناصب للمستثنى انما هو الا والخلاف ما بين المدرستين كبير يصعب ان نتعرض الى دقائقه .
وسوى : فى الاستثناء ايضا ، يقولون ان اصلها ظرف ، ويعرفون الظرف بانه الاسم الذى ضمن معنى فى باطراد ، وهل سوى تضمنت معنى فى باطراد ؟ لا والمتامل فيها يجدها خالية من معنى الزمان والمكان ، فكيف تكون مماثلة لغير فى الاستثناء مع ان غير تدل على المغايرة وسوى على المماثلة والتساوى وكذلك ليس ، يقولون : قام القوم ليس زيدا مقدرين اسم ليس ضميرا وعندهم ان الضمير المقدر يعود على معروف ظاهر ، وهذا الضمير المقدر في ليس لا يعود على ظاهر معروف ثم ان ليس يقولون انها فعل ، فما بالها استعملت هنا استعمال الحروف ؟
المضاف اليه : يقولون : ان المضاف عامل لفظى فى المضاف اليه . ولكن المضاف نفسه معمول لما قبله فكيف يكون فى نفس الوقت عاملا ومعمولا ؟ وقال بعضهم ان العامل فى الاضافة انما هي النسبة بين المضاف والمضاف اليه ونقول لهم : ان النسبة أقوى فى المسند والمسند اليه فلم لا تعمل عملها فى الاضافة ؟ ويكثر تكلف النحاة الى بعض ما لا يظهر العامل فيه تكلفا يبعد الكلام عن المعنى المراد به كقولهم : ان الظرف منصوب لتضمنه معنى حرف الجر ، والتمييز حرف الجر ( من البيانية ) والحال منصوب على الشبه بالظرفية لتضمنه معنى فى ، وتراهم يرققون الشعرة ويجرحون البعرة للبحث والتقعير عن تخريج لم يكن العربى يقصده في كلامه ، وهم يقولون : اذا استوى التقدير وعدم التقدير ، فعدم التقدير اولى ولكنهم فى كل المواطن التى يستوى فيها التقدير وعدمه يميلون الى التقدير ، وكتب النحو ملاى بهذا التناقض الذى لا يستسيغه العقل الحديث .
واليكم امثلة اخرى من امثالهم فمن ذلك فى باب التنازع قولهم : ظننت وظنانى اياهما الزيدين شاخصين ، هل يقوله احد غير النحاة ؟
وظننت وظنونى اياهم الزيدين شاخصين ، وعلى التعليق بالاول قولهم : اعلمت واعلمانيهما اياهما الزيدين العمرين منطلقين ، وفي الجمع : اعلمت
واعلمونيهم اياهم الزيدين العمرين منطلقين ، ما هذا الثقل ؟ رحم الله ذاك الاعرابى القائل :
ولست بنحوى يلوك كلامه ولكن سليقى يقول فيعرب
وتراهم يكثرون الجدل فى اتفه المسائل ويريدون حمل الطالب على اعتقاد هذه الحماقات وان اللغة لا تفهم الا اذا فهم هذه الغوامض التى لا مساس لها بالغاية التى وضع من اجلها النحو .
قد انتبه بعض الاقدمين الى ان النحو اصبح علم شغب وجدل وان اقوال غالب النحاة ثقيلة على نفس الطالب فبادروا الى تيسير النحو وتقريبه وتسهيله ، ولكنهم لم يبتعدوا على خطة الاشياخ فكان التيسير صعبا والتقريب بعدا والتسهيل من اعسر ما تقرا ، الى ان جاء بن مضاء القرطبى المتوفى سنة 512 (29) والف كتابه " الرد على النحاة (30)" هجم فيه على النحاة وعلى نظرية العامل عندهم ، يقول في أول كتابه : قصدى فى هذا الكتاب ان احذف من النحو ما يستغني النحوى عنه ، وانبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه ، فمن ذلك ادعاؤهم أن النصب والخفض والجزم لا يكون الا بعامل لفظى ، وان الرفع منها يكون بعامل لفظي وبعامل معنوى فظاهر هذا ان العامل احدث الاعراب وذلك بين الفساد فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم ، انما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره فاكد المتكلم بنفسه ليرفع الاحتمال واما القول بان الالفاظ يحدث بعضها بعضا فباطل عقلا وشرعا ، لا يقول به احد من العقلاء لمعان يطول ذكرها فيما المقصد ايجازه : منها : ان شرط الفاعل يكون موجودا حينما يفعل فعله ولا يحدث الاعراب فيما يحدث فيه الا بعد عدم العامل ، فلا ينصب زيد بعد ان في قولنا : ان زيدا الا بعد عدم ان (31) فان قيل بم يرد على من يعتقد ان معاني هذه الالفاظ هي العاملة ؟ قيل : الفاعل عند القائلين به اما ان يفعل بإرادة كالحيوان ، واما ان يفعل بالطبع كما تحرق النار ويبرد الماء ، ولا فاعل الا الله عند اهل الحق ، وفعل الانسان وسائر الحيوان فعل الله تعالى ، كذلك الماء والنار وسائر ما يفعل ، وقد تبين هذا فى موضعه ، واما العوامل النحوية فلم يقل بعملها عاقل ، لا الفاظها ولا معانيها ، لانها لا تفعل بإرادة ولا بطبع (32) : ويقول فى الاعتراض على العوامل المحذوفة التى تشغل قسما كبيرا من آرائهم واعلم ان المحذوفات في صناعتهم على ثلاثة اقسام : محذوف لا يتم الكلام الا به ، حذف لعلم المخاطب به ، كقولك لمن رأيته يعطى الناس : ( زيدا ) اى اعط زيدا فتحذفه وهو مراد وان اظهرتم الكلام به ، ومنه قول الله تعالى : واذا قيل
لهم ماذا انزل ربكم قالوا خيرا ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو . على قراءة من نصب وكذلك من رفع ، وقوله عز وجل وناقة الله وسقياها . والمحذوفات كثيرة فى كتاب الله تعالى لعلم المخاطبين بها وهى اذا اظهرت تم الكلام بها وحذفها اوجز وابلغ .
والثانى محذوف لا حاجة بالقول اليه ، بل هو تام دونه وان ظهر كان عيبا كقولك : أزيدا ضربته ، قالوا : انه مفعول بفعل مضمر تقديره أضربت زيدا ، وهذه دعوى لك دليل عليها .
والثالث فهو مضمر ، إذا اظهر تغير الكلام عما كان عليه قبل اظهاره ، كقولنا : يا عبد الله ، وحكم سائر المناديات المضافة والنكرات ... وعبد الله عندهم منصوب بفعل مضمر تقديره أنادى أو أدعو ، وهذا ان اظهر تغير المعنى وصار النداء خبرا ، ( بعد ان كان انشاءا ) . (33) ويتابع ابن مضاء رده على كل آراءهم فينقدها رأيا رأيا باجماعهم على القول بالعوامل ، وتقدير متعلقات المجرورات والضمائر المستتره فى المشتقات وفى الافعال ، واى الفعلين اولى بالتعليق في التنازع واحكام باب الاشتقاق والعطف وأقسام العلل الى آخر ابواب النحو المعروفة ، ويبدو على ابن مضاء تأثره بالمذهب الظاهرى لانكاره العوامل الباطنية والمقدرة وخلاصة ما يقال من آرائه انها ثورة تجديدية فى ميدان اللغة وان كان لم يجد له انصارا يتابعون الخطة التى رسمها ، وقد حذا بحذوه متأثرا بنقده الاستاذ ابراهيم مصطفى (34) ولقد وفق فى آرائه وجعل النحو أدبا شيقا يدرس فيفهم ويقرأ فيهضم واتبع طريقه الاستاذ عبد المتعال الصعيدى (35) فكان في محاولته لتجديد النحو يحاول ان يبتكر جديدا مع المحافظة على الخط التقليدى القديم وقد ذكر آرائه المفكرون من المربين الذين يهمهم تجديد النحو وتيسيره ، الا انه فى محافظته ودعوته الى التجديد لم يوفق كبير توفيق .
قال ابن خلدون في حديثه عن طرق التعليم ما معناه : يجب على المعلم ان يبدأ بالقاعدة و يدلل عليها بالامثلة ويجتنب الاراء والخلاف فاذا كان مثلا يدرس النحو ، فلا يتعرض الى الخلافات بين الكوفيين والبصريين ولكن ياتى بالقاعدة ويمثل لها تاركا كل الخلافات والتخاريج لان ذلك يشوش على المبتدئ رايه ويجعله يستصعب المادة ، فياليت ابن خلدون تقدم به الزمن ، وقال رأيه هذا . ويا ليت النحاة استمعوا الى نصيحته التربوية القيمة .
