الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

من سجلات التاريخ المدنى (١), محمد المهدى أو ذو النفس الزكية

Share

ان فى حوادث التاريخ ما يملأ النفس أسى وحسرة بجانب ما فيها من مواعظ حسنة وذكريات تثلج الصدر وتفعم القلب سرورا . وان فى دراسة تاريخ البيئة التى يعيش فيها الانسان وفى الوقوف على الأ دوار التى تعاقبت عليها والاطلاع على سيرة ابطالها وما تركوه على صفحات التاريخ من آثار واعمال،فى كل ذلك ما ينير له الطريق فى مستقبل حياته ، ويجعله يسير فيها على هدى وبصيرة . وان فى تاريخ المدينة المنورة ،وما مر عليها (( بعد العصر النبوى ))من أدوار عصيبة ؛ وماتوالى عليها من كوارث فادحة ، لمجالا واسعا للبحث والكتابة للعظة والاعتبار. كماأن ما فيها من آثار خالدة ؛ ومالها من ماض مجيد ، مع مالها من منزلة ممتازة فى قلوب العالم الاسلامي ما يستحق بل يوجب ان تتبارى فى بحثه ونشره اقلام كتابنا وأدبائنا ويولوه جانبا كبيرا من عنايتهم واهتمامهم ؛ وخصوصا بعد ما صبحت لدينا صحف سيارة هي لسان حالنا التى يحمل للعالم صورا مصغرة لثقافتنا وعقولنا، فيجب ان نعرض فيها بازاء ذلك جزءا كبيرا من تاريخنا الماضى ،وصورا واضحة للكثير من أبطالنا وعظمائنا السالفين .

وبعد فهذه صورة صحيحة لتاريخ عظيم من أولئك الافذاذ ، فيها عبرة وعظة أعرضها عرضا تاريخيا مجردا فى كثير من المواقف عن التعليق عليها أو تحلبها توخيا للاختصار ، ولا فضل لى في ذلك سوى التنقيب ثم الجمع والترتيب والله العاصم وهو حسبى وكفى .

(( كيف بويع لذى النفس الزكية بالخلاقة ))

كان من جملة المطالبين بالخلافة من بنى هاشم ؛ بنو العباس ، ولكنهم كانوا يدعون لأنفسهم سرا ؛ فكان محمد بن على بن عبد الله بن العباس مقيما فى الحميمة، من أعمال البلقاء بالشام ودعانه تعمل له فى العراق وخراسان ، وفي ذلك الوقت كانت الفرقة الكيسانية من الشيعة تدعو لابي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وكان أبو هاشم المذكور كثيرا ما يفد على سليمان بن عبد الملك الخليفة الاموي فيكرمه ، ويقضي حوائجه ؛ولكنه لما رأي علمه وفصاحته حسده وخاف منه فوضع له فى طريقه من سمه وهو راجع من عنده فى بعض المرات . ولما أحس أبو هاشم بالسم مر على محمد بالحميمة وأعلمه بان الامر صائر اليه وقد كان أخبر شيعته الكيسانية بان الامر بعده لمحمد وأمرهم بقصده بعده فلما مات أبو هاشم جاءت شيعته الى محمد وبايعوه وصاروا يدعون له ويترددون عليه وبذلك اكتسب العباسيون حزبا جديدا ؛ زدهم قوة ونشاطا . وعنه ما رأى بنو هاشم العلويون والعباسيون منهم قرب انحلال الدولة الاموية اجتمعوا بمكة وتداولوا فيمن يعقدون له البيعة بالخلافة من بنى هاشم فاتفق رأيهم على مبايعة أوجه العلويين يومئذ من آل البيت ، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن على ابن أبى طالب رضى الله عنه الملقب بالنفس الزكية ،فبايعوه لما علموه من الفضل له عليهم وبايعه أبو جعفر المنصور الذى كان حاضرا هذا الاجتماع من جملتهم

(( والمتأمل فيما آلت اليه هذه الدعوة يظهر له لأول وهلة ان مقصود العباسيين منها أرضاء العلويين واسكانهم الى ان يتم الامر لهم ليأمنوا بذلك من معارضتهم وعرقلتهم لسير الدعوة ويؤيد هذا ان الدعاة العباسيين وعلى رأسهم ابو مسلم الخراسانى ما كانوا يصرحون بصاحب الدعوة بل كانوا يدعون لآل البيت بدون مبين وبذلك توحدت دعاة الشيعة فى الظاهر وان كان كل له هوي وميل لناحية خاصة)).

مات محمد بن على صاحب الدعوة العباسية ؛ وأوصى بالخلافة لابنه ابراهيم الملقب بالامام ، ولما تولى مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية قبض عليه فى اوائل سنة ١٣٢ ه وجاء به من الحميمة وسجنه فى حران ولما أخذه رسول مر وان أمر أهل بيته بالمسير الى الكوفة مع اخيه ابى العباس السفاح وأوصى له بالخلافة من بعده ولما مات ابراهيم فى سجن مروان سار ابو العباس السفاح مع أهل بيته الى الكوفة وبعد وصوله اليها بويع له بالخلافة وبذلك نكث العباسيون ببيعة ( ذى النفس الزكية )وكان لهذا النكث أسوأ الاثر فى نفوس آل البيت

(( المنصور وآل الحسن ))

بعد ما بويع للسفاح جاءه عبد الله بن الحسن والد محمد يطالبه ببيعة ابنه ، فلاينه السفاح واسترضاه وبذل له من المال ما أسكته به ، قيل ان السفاح قال له : أطلب ماشئت ! فقال له عبد الله : الف الف ، فانى اسمع بها ولم أرها ولم يكن هذا المقدار عند السفاح فتداينه له ، واعطاه اياه ، ولما توفى السفاح فى ١٢ ذى الحجة سنة ١٣٦ ه وخلفه المنصور كان همه قبل كل شئ ان يتحقق مافي نفس بنى الحسن فى المدينة ، لما لهم من البيعة في عنقه فبث عليهم العيون واراد اختبارهم، فبعث بعطاء أهل المدينة على جارى العادة وكتب الى عامله عليها يقول (( اعط الناس فى ايديهم ولا تبعث الى احد بعطائه وتفقد من تخلف من بنى هاشم عن الحضور وتحفظ بمحمد وابراهيم ابنى عبد الله بن الحسن )) ففعل العامل ماأمره به ولم يتخلف عن الحضور الا محمد وابراهيم المذكوران فكتب العامل الى المنصور يخبره بذلك ، فتحقق المنصور انهما ينويان القيام عليه فبعث الى عامله يأمره بان يقبض على آل الحسن جميعا ، ويرسلهم اليه فقبض العامل عليهم واثقلهم بالقيود والاغلال في أرجلهم واعناقهم وارسلهم الى العراق فحبسهم

بالكوفة ولكن ليس فيهم محمد وابراهيم لاختفائهما، فظل المنصور يشدد فى طلبهما . (( ومن هذا نعلم أن المنصور قد اتبع في سياسته مع آل الحسن غير طريق أخيه السفاح؛لان المنصور كان شديد البطش لايبالى بما يرتكبه فى سبيل تاييد سلطانه ، وقد يكون له فى ذلك بعض العذر بسبب توالى الثورات والقلاقل التى وقعت فى اوائل خلافته ، مما جعله يضطر الى قمعها بكل شدة وحزم ))

(( ثورة محمد بالمدينة ))

بعد القبض على آل الحسن ، وفيهم عبد الله والد محمد وارسالهم الى العراق صار عامل المنصور على المدينة يشدد فى طلب محمد حتى ضيق عليه وارهقه الطلب فلم ير بدا من الثورة ليعيش كريما أو يموت كريما ، طبقا لوصية ابيه التى أوصاه بها حين قبض عليه . فاعلن الثورة بالمدينة فى الثامن والعشرين من جمادى الثانية سنة ١٤٥ ه وبايعه أهل المدينة بعد أن استفتوا مالك بن انس رضى الله عنه فافتاهم بالخروج معه ، فقالوا ان في اعناقنا بيعة لابى جعفر المنصور فقال. (( انكم بايعتم مكرهين وان بيعة محمد بن عبد الله اصح منهالانها انعقدت قبلها )) وقصد محمد دار الامارة فقبض على والى المدينة وسجنه ،ولما تم استيلاؤه على المدينه كتب الى اخيه ابراهيم الذى كان متنقلا فى العراق يدعو له يخبره بذلك فلما بلغ المنصور خروج محمد خافه وأرسل اليه يعرض عليه الامان ويعده خيرا فاجابه محمد بقوله . (( أى امان تعطيني ? أمان ابن هبيرة ، أم امان عمك عبد الله أم امان ابى مسلم ? ! (( . وقد كان المنصور أمن هؤلاء ثم غدر بهم ، فاحضر المنصور ابن اخيه عيسي بن موسى ؛ وأحضر له جيشا وامره بالتوجه الى المدينة لقتال محمد ، وحينما بلغ محمدا قرب وصول عيسى بجيشه استشار اصحابه فى الخروج من المدينة او المقام بها فاشار اكثرهم بالمقام فيها ثم استشارهم فى حفر الخندق الذى حفره النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة الاحزاب، فاشار واعليه بحفره ، وحفروه ،

واستعد محمد لمواجهة جيش خصمه . و وصل عيسى بجيشه فى اليوم الثانى عشر من رمضان سنة ١٤٥ ه فنزل بالجرف فى ظاهر المدينة وأقام فيه يومين عرض في خلالها الامان على أهل المدينة ودعاهم الى التخلى عن محمد فلم يطيعوه فاصبح في اليوم الثالث متهيئا للقتال ففرق قواده فى انحاء المدينة واخلى ناحية لمن ينهزم من اصحاب محمد وتقابل الفريقان وبدأ القتال بين الفريقين بالمبارزة ثم امر عيسي اصحابه بردم قسم من الخندق فردموه بالحقائب وغيرها وعبروه واشتبكوا مع محمد وجيشه واشتد القتل ودام من الصباح الى العصر وقاتل محمد بنفسه قتالا شديدا وأظهر من الشجاعة ما يدهش وكان بيده سيف على بن ابى طالب رضى الله عنه ، المسمى بذى الفقار وقد قتل بيده فى ذلك اليوم سبعين رجلا .

(( الساعة الاخيرة ))

ولما اشتد القتال تفرق عن محمد اكثر جنده ولم يبق معه منهم سوى (٣١٤) مقاتلا فاستولى اليأس على قلبه فنزل الى المدينه واغتسل ويحنط ثم قصد دار الامارة فاحرق السجل الذى فيه اسماء من بايعوه وذهب الى السجن وقتل الوالى الذى سجنه (( رباح المزنى )) مع اخيه ثم عاد مسرعا الى ميدان القتال ولا زال يقاتل قتال المستميت حتى ضربه رجل على شحمة اذنه اليمنى فارداه قتيلا وقطع رأسه وحمله الى عيسى فارسله هذا الى المنصور ثم صلب بين ثنية الوداع والمدينة ؛ وبقى مصلوبا ثلاثة ايام حتى استأذنت اخته زينب من عيسى قائد الجيش المنصورى في دفنه بالبقيع والظاهر انه لم يأذن بذلك فدفن فى موضع صلبه وهو المحل الذى فيه قبره الآن. وبعد انتهاء القتال دخل عيسى المدينة واقام بها إلى ١٩رمضان سنة ١٤٥ ه ثم تم احرم منها بعمرة وتوجه الى مكه فجاءه الطلب من المنصور فتركها وتوجه الى الكوفة : وكان قتل محمد ذى النفس الزكية يوم الاثنين ١٤ رمضان سنة ١٤٥ ه

(( المنصور ومالك ابن انس ))

حفظ المنصور لمالك فتياه بعدم صحة بيعته فانقلب عليه وأصبح بعد قتل محمد من أكبر المضطهدين له ،وقد ضربه لاجل الافتاء بصحة طلاق المكره ولا يخفى مقصود المنصور من وراء ذلك . وفى الوقت الذى اهان المنصور فيه مالكا قطع عبد الرحمن الداخل الاموى الخطبة لبنى العباس فى الاندلس واعلن استقلاله فيها ، فاغتنم الامويون هناك فرصة انحراف مالك عن المنصور فتقربوا اليه واكرموه ، لينالوا بذلك عطفه عليهم وتأييده لهم ، وكان من نتيجة هذا التقرب ان شاء مذهب مالك فى المغرب ، وكان اهله قبل ذلك على مذهب الاوزاعي ، كأهل الشام . وفي ايام الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل

نقلت الفتوى الى مذهبه ،

اشترك في نشرتنا البريدية