الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "المنهل"

من شعرائنا فى الجيل الماضى، - - -، عبد الواحد الجوهرى الأشرم، ١٢٧٨-١٣١١

Share

. . وإنما قدر للاشرم ، ان يصوغ القول - على طريقة عصره - فى ناحية وحيدة ؛ لعلها اسمى انواع القول فى ميدان الشعر ، واقربها الى النفس الانسانية وهي ناحية الغزل والتشبيب .

الاشرم شاعر غزل ، واذا قلت إنه غزل ، فلست اعنى بالطبع ؛ إنه شاعر يجرى فى ميدان ؛ مع عمر بن ابي ربيعة " أو " كثير عزة " أو " جميل بثينة " او مع غيرهم وغيرهم ، من اولئك الشعراء الذين وهبوا للحب كل ما أنتجوه من شعر . . وفي الوقت نفسه ؛ اجادوا وابدعوا فى انتاجهم لأنهم اجادوا وابدعوا فى التعبير عن احاسيس الحب ، وفي التعبير عن ولعهم بالجمال ، وفي التعبير عن وصفهم للمحبوب ؛ وصفا اوشك ان يكون غاية فى البلاغة ، وفي جمال التصوير .

فما هو مكان الأشرم وقد رأينا جل ماوصل الينا من شعره يدور حول الغزل ما هو مكانه - يا ترى بين اولئك الشعراء الغزليين ، أو شعراء الحب والجمال ؟ الواقع انيا نتجني على الحق - رغم تقديرنا لاصالة هذا الشاعر - اذا قلنا انه فى هذا الميدان ؛ شاعر ممتاز ، أو شاعر يمكننا ان نضعه فى صف هذه الطبقة ، او حتى فى صف من دونها من الشعراء الممتازين !

كلا لم يكن الاشرم شاعرا غزليا ممتازا اذا أردنا من الامتياز انه اجاد كما اجاد اولئك الشعراء القدامى او انه أجاد كما يجيد اليوم شعراؤنا المعاصرون !

وانما كان الاشرم شاعرا غزليا ، وكفى . . لانه خصص نفسه ، وافرد شاعريته لهذا النوع من الشعر المرموق ، وثانيا ، لانه تفوق فى هذا النوع على اكثر معاصرية واخيرا ، لان شعره فى الغزل ، كان حظه من السيرورة . فى الجيل الماضى القريب اكثر بكثير مما ناله اى شعر آخر ، من شعر الشعراء الحجازيين

وحسبك ان تسمع انه كان متنبي زمانه ! " و " وحيد اوانه ! " فى نظر معاصريه ، لكي تعلم الى اى حد ، استطاع هذا الشاعر ان يملأ دنيا الحجاز فى ذلك الزمن . . وان يكون وحده بين الشعراء الاخرين " الطائر المحكى ، والأخرون ) الصدى ( ولست اعجب من ان يبالغ معاصرو الاشرم ، او من جاء بعدهم في وصفه بكل هذه النعوت - لاننا نحن اليوم لا نستسيغ امثال هذه المبالغات - فمن يدري ؟ فلعل لاولئك المعاصرين عذرا فى ذلك ونحن نلوم !

وانظر الى علامة محقق ، دقيق فيما يقوله ويرويه ، هو الشيخ عبد الله ابو الخير صاحب الكتاب القيم المخطوط : " نشر النور والزهر " اذ يترجم للاشرم ترجمة موجزة جدا ، يقول فيها : " . . ونظم الشعر الحسن الرائق ، الكثير الفائق واشتهر شهرة تامة فى الحجاز ، ولاهله على شعره تهافت . . الخ "

لقد كان الاشرم فى الفترة التى عاش فيها اشهر شاعر حجازى غنائى كما يبدو - ولكنه على الرغم من هذه الشهرة ، ما استطاع ان يكون - ، سواء فى اسلوبه او موضوعه - ذلك الشاعر الممتاز والسبب انه ما استطاع ان يفلت من تأثير بيئته الحجازية في حياتها الفكرية والاجتماعية التى كانت تحياها . . وليت شعري ، ايستطيع انسان ان يفلت من تأثير البيئة ، الا اذا كان " عبقريا فذا " من اولئك الذين قلما يأتون الى العالم فى ادوار ركود الأمم ؟ !

وحقا ما كان للاشرم ، او لغير الاشرم ان يخرج على قواعد عصره العتيقة ، الموروثة عن عصور التأخر والانحلال ، فهو قد تغزل . . ولكنه لم يتغزل الا التغزل التقليدى المعروف ، وهو قد وصف . . ولكنه لم يصف الا الوصف الحسي المألوف وهو في تغزله ووصفه ، لم يتجاوز مجموعة الألفاظ الدارجة على الألسن اذ ذاك . وسواء اكان من نظم شعره فيهم ، اشخاصا حقيقيين ، ام خياليين ، وسواء كان وصفه اياهم ، صادقا ، ام متصنعا ، فقد لا يعنينا هذا كله الآن ، بقدر ما بعنينا فى المكان الاول " اداء الشاعر " وطريقته فى هذا الاداء . .

وجد الاشرم نفسه فى بيئة لا يستأثر باعجابها واهتمامها من الشعر الا ما كان على هذا الغرار . . وفي بيئة ما امكنها ان تحظى باى معهد للتعليم والتثقيف . .

وفى بيئة ، كبر الظن انه لم يكن قد وصل اليها بعد ما نشرته مطابع بيروت ومصر لاول عهدها ، من كتب الادب العالي ، والشعر الرصين افيمكن لمثل هذه البيئة ان يخرج على قواعدها ، شاعر مهما كان على جانب موفور من موهبة الشعر والبيان

المزية الاولى التى رأيتها فى شاعرنا الاشرم ، هى انه شاعر مطبوع على الشعر - ما في ذلك شك اما مزيته الثانية ، فهى انه استطاع كما سبق ان نوهت - ان يستأثر من اعجاب معاصريه وتهافتهم على شعره ، باكبر نصيب لانه استطاع ان يغنى على اوتاوهم . . واستطاع ان يحلق قليلا . اكثر مما استطاع ان يحلق فى ذلك الزمن اى شاعر حجازي سواء فالاشرم هو ناسج بردتك القصيدة المشهورة :

على جيد هذا الظبى ، فلينظم الدر والا فما للدر ، قدر ، ولا فخر

التى يقول فيها :

بدا فاضاء الجو ؛ حتى كأنما  بليلة نصف الشهر لم يطلع البدر

ويقول ايضا

له قامة ، قامت ببرهان حسنه  على ان هذا القد ، خرت له السمر

فهذه القصيدة الغنائية ، كانت فى زمانها " طائرة الصيت " وانت لن تجدا كثر ابياتها الاعلى هذا النمط ، سوى قليل من الاسفاف والركاكة فى بعض هذه الابيات .

وانا استميح القارئ الاديب عذرا ، اذا تعمدت هنا ان لا استرسل فى ايراد بقية اببات هذه القصيدة . . وانما حسبى ان اشير الى انها كانت - الى عهد قريب - احب الى اصحاب الغناء ، وغير اصحاب الغناء من كثير من فرائد الشعر الغزلي المشهور

فاذا اردنا ان ننظر الى هذه  القصيدة ، فى ضوء مقاييس الشعر الحديثة ، فلن تكون النتيجة إلا انها : قصيدة دون الوسط . . ولكنا حريون ان ننظر اليها فى ضوء مقاييس عصرها ، او على الأقل . فى ضوء شعر الحجازبين خاصة فى ذلك العصر ؛ وإذن فلا اظنك تقول : الا انها قصيدة ممتازة ولا مراء بالقياس الى منظومات اولئك الشعراء .

وشىء آخر . فانا ازعم انها قصيدة يصح ان توصف بانه لا باس بها اذا نظرنا إلى مجموع الشعر الرائج في ومصر والشام والعراق ، فى ذلك العصر ، بعد ان نستثني بطبيعة الحال - شعر البارودى ، ومن سار فى خطاه . .

( البقية فى الجزء القادم )

اشترك في نشرتنا البريدية