من المعلوم ان التاريخ ينقسم الى ثلاثة اطوار 1 ( التاريخ القديم 2 ( التاريخ الوسيط 3 ) التاريخ الحديث والمعاصر
على ان الحدود الزمنية لهذه الاطوار الثلاثة نسبية تختلف باختلاف الاقطار أو قل باختلاف الامم او الاقوام فبالنسبة للامة العربية ينتهى التاريخ القديم بظهور الاسلام او بالفتح . فتونس مثلا يبدأ تاريخها القديم بظهور الكتابة فيها اوقل باستعمال الكتابة فيها اى بدخول الفنيقيين وهم الذين ادخلوا الكتابة الى بلادنا . اما نهاية التاريخ القديم بالنسبة الى تونس فهى تؤرخ باصطدام الجيش البيزنطى بجيش العبادة فى مدينة سبيطلة سنة 647 ميلاديا . غير أن بعض المؤرخين يضعون حدود هذا التاريخ القديم سنة 698 ميلاديا أى بسقوط قرطاج بين يدى حسان بن النعمان فالتاريخ القديم بالنسبة لتونس ولكامل اقطار المغرب الكبير يغطى ما ينيف عن 19 قرنا حيث يبدأ حوالى 1200 قبل الميلاد وينتهى فى حدود القرن السابع ميلاديا . ولكل قطر عربي تاريخه القديم فالتاريخ القديم بالنسبة للعراق ومصر الفراعنة يبدأ فى حدود الالف الرابعة قبل ميلاد عيسى عليه السلام وينتهى بالفتح العربى
حداثة العناية بالتاريخ القديم
ان العناية بالتاريخ القديم حديثة لقد بدأ الاهتمام به فى أوروبا بشكل مكثف انطلاقا من النهضة او حركة البعث ) La Renoissance ) . فالنهضة
الاوروبية ولدت تيارات علمية وحضارية مختلفة ومن اهمها العودة الى الاصول العودة الى تحارب الاول وذلك فى نطاق سياسة تستهدف تقييم الرصيد ثم التخطيط للحياة من جديد استنادا الى ذلك الرصيد ومن هنا كان الاهتمام بالتراث بما فى ذلك الادب والعمارة والفنون الجميلة والعلوم والفلسفة التاريخ والحغرافيا وتجسد ذلك الاهتمام بالتراث فى ألوان تحلت بها مواليد العبقرية والابداع فكانوا منذ القرن الثالث عشر يحاكون القديم فى البناء والنحت والرسم والادب فكانوا يتغذون من التراث القديم اقتبسا واستلهاما حتى ساعدهم على تصور وتصوير عالمهم الجديد فسبكوا لغة الحديث عن القديم لتحليله ولاعادة تركيبه واستخدامه مواد لبناء محيطهم الحديث فالتقدم استمرارية او لا يكون والاستمرارية هى العمل على اثراء كنوز المجموعة بتثميرها .
فاهتمام الاقطار الغريبة بتراثها القديم حتم عليها وضع لغة خاصه تيسر تناول ذلك التراث القديم وتجعله بضاعة حضارية فى سوق الخاصة والعامة فى سوق المجموعة القومية . على ان مهمتها كانت يسيرة لان اللغات التى تستخدمها ان لم تكن لاتينية فهي وليدة اللاتينية واليونانية فقام علماء الغرب اذن بعمليات توليد بسيطة : كرعوا من اللغتين اى اللغة اليونانية واللغة اللاتينية وأثروا لغاتهم : فكثيرا ما كانوا يأخذون اللفظة اليونانية ويدخلونها إلى لغتهم بعد كتابتها بالاحرف التى يستعملونها ويعطونها قوالب صوتية تناسب عالمهم الصوتى مع اخضاعها الى بعض القواعد الصرفية والنحوية التى تفرضها لغتهم على المنطوق عندهم
أما العرب فلم يعيروا التاريخ القديم ما قد يستحقه من العناية ، بل كثيرا ما نظروا اليه بعين الاحتقار من ذلك قولهم : " جاهلية - أساطير الاولين " ولما كان بعض المؤرخين والجغرافيين يمرون ببقايا الحضارات القديمة فلا يتوقفون عندها طويلا ، فتراهم يشيرون اشارات عابرة الى مدن ازلية . مدن من بناء الاول أو معالم من مخلفات الاول . ولم تنشأ الى يوم الناس هذا حركة قوية مؤمنة تنادى بالاهتمام بالتراث القديم وتنزيله المنزلة التى تجدر به بل ترى الاقطار العربة تزهد فى تراثها القديم ولعلها لا تهتم به الا تحت تأثير الاجنبى الذى لا يشبع من مناجاة القديم ومن الحوار مع القديم . وفى السنوات الاخيرة فرضت السياحة لونا من ألوان الاهتمام بالتراث حتى ان الكتب التى تؤلف في هذا الميدان تكاد لا تكتب الا بلغة السياحة أى باللغة
الفرنسية أو الالمانية او غيرهما من اللغات الاوربية وقد لا يستفيد منها المواطن تماما .
فثابت أن الاهتمام بالتراث القديم وبالتاريخ القديم يكاد يكون معدوما عند الاولين والمعاصرين وذلك لاسباب مختلفة من أهمها سلطان الاسلام واعراض العرب المسلمين عن كل ما سبق الرسالة على انهم أخذوا الكثير عن اليونان والفرس فى ميادين الفلسفة والعلوم وسعى الاستعمار جهده ليبعد المولى عليهم عن تراثهم وتاريخهم القديم ولا ننسى ان مصلحة الاثار فى تونس كان لا يدخلها الا الفرنسيون وتسلطوا على تراثنا القديم وسخروه لارساء نظرياتهم وسياستهم وما زلنا متشبئين عن جهل وغير وعى بالصور التى سبكوها لنا وكثيرا ما يتبناها التونسى وقد هيئت لمسخه ولاستلابه .
ومن نتائج عدم اهتمام العرب بالتاريخ القديم عدم وجود لغة خاصة بهذا القطاع من العلوم الانسانية فكثيرا ما يتعثر اللسان فى الحديث عن التاريخ القديم ومخلفات الحضارات القديمة وليس من اليسير ايجاد هذه اللغة الخاصة سيما وغالب هذه الحضارات القديمة كانت لها لغات تختلف عن العربية على ان البعض منها ينتسب الى العائلة السامية كالبابلية والاشورية والكنعانية والحمرية وغيرها . ولكن القديم الذى عرفه العرب كان فى غالبه يعود الى الفرس والروم .
فواضح ان ليس لنا تقاليد ثابتة فى ميدان التاريخ القديم فباستثناء بعض الاشارات العابرة والمبعثرة فى كتب المؤرخين والجغرافيين لا يجد الباحث العربى ما قد يغذيه ويقه شر الجوع ، لم يترك له السلف ما قد يستعين به فى خوض معركة القديم والسيطرة عليه واستعابه لا من حيث المعلومات ولا من حيث المصطلحات . التركة فى هذا القطاع ضئيلة لا تكفينا مؤونة
ثم ان الجيل الذى تخصص فى هذا القطاع وهذه ظاهرة حديثة وليدة لاستقلال السياسى درس بالكلية الاجنبية وباللغة الاجنبية وواصل تعامله مع زملاء واخصائيين اجانب ويقرأ الكتب والفصول العديدة باللغة الاجنبية وينتج بدوره باللغة الاجنبية وكثيرا ما تنشر دراساته فى الصحف والمجلات الاجنبية وكذلك تهيأت لديه خزينة فيها رصيد من المصطلحات الاجنبية ولما طلب منه تبليغ ما عنده باللغة العربية لم يجد فى لغته الام ما قد يطابق تلك المصطلحات التى تستوعب الواقع القديم استيعابا كليا . وان لم يجد ما قد يطابق المصطلحات التى روض على استمالها فذلك لاسباب مختلفة منها :
السابقون لم يلحوا هذا الميدان ولم يسيطروا عليه ولم تسيطر عليه ) لغتهم أى اللغة العربية .
2 ( المصطلحات في التاريخ كثيرا ما تكون حضارية لها خصوصية اى انها نشر إلى واقع حضارى قد لا تجد مثيلا له فى حضارة اخرى . فالحضارة التى تفرز الواقع تفرز فى نفس الوقت المصطلح الملائم لتسميته اى للسيطرة عليه .
فليس من الغريب ان لا نجد فى لغة العرب ما قد يمكننا من تسمية واقع افرزته الحضارة اللاتينية مثلا - فلنأخذ كلمة " فوروم " ( forum ) فما هى اللفظة العربية التى قد تمكننا من تعريبها . البطحاء - الرحبة - الساحة . كل هذه المصطلحات لا تفي بالمعنى المظروف فى كلمة فوروم . ذلك ان لفظة فوروم تشير الى بطحاء لها خصوصيتها : خصوصية رومانية اذ هى بطحاء وزيادة ، بطحاء لها مخطط مضبوط مقنن معماريا وتحيط به معالم مضبوطة لها وظائفها معالم مدنية ومعالم دينية ففووم مدينة دقة يتركب من بطحاء مروقة - أى تحيط بها أروقة تقى الناس شر القر والحر - وحول هذه البطحاء معيد الكستول ومعابد أخرى وكانت تتحلى بسبيل ومن بين البنايات المشيدة حولها لا بد من ذكر منصة للخطابة وقاعة المجلس البلدى . ) La curie فالبطحاء لا يمكن أن تحمل اسم الفوروم الا اذا توفرت بعض الشروط وأحيطت بتلك البنايات المدنية والدينية المختلفة . فالمحيط العربى لم يفرز هذا اللون الحضارى فلا عجب ان لم نجد فى لغة العرب ما قد يطابق اللفظة اللاتينية فوروم .
فالمؤرخ العربي مهما كان الوطن الذى ينتمي اليه يجد صعوبات إذا أراد معالجة قضايا التاريخ القديم بحثا وتدريسا باللغة العربية ومن هذه الصعوبات :
1 ( عدم سيطرته احيانا على اللغة العربية للأسباب التى سبق ذكرها .
2 ) عدم وجود المصطلحات الملائمة للحديث عن مختلف الوان الحضارة المادية او لوصف مختلف عناصر المحيط الفخار - الأحجار والنبات ، الادوات المختلفة التى يستخدمها الانسان فى صراعه مع المحيط المادى والغير المادى .
3 ( عدم توفر أدوات العمل من كتب ودراسات قيمة تفيد الباحث وتكون له منطلقا يساعده على التقدم والوصول الى حلول مرضية
فالتراجم التى قد نجدها فى السوق وعلى رفوف المكتبات لا نفي بالحاجة لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف فما زالت هذه التراجم نادرة وان توفرت تراها لا تخلو من الاخطاء فى مستوى المصطلحات وفى مستوى المعنى العام
فاذا تصفحت كتاب " الحضارة الفينيقية " لجورج كونتنو ( Georges Contenau ) عربه الدكتور محمد عبد الهادى شعيره وراجع الترجمة طه حسين . إذا تصفحت هذا الكتاب وجدت الكثير من الاخطاء ولمست بعض الغموض واللبس فكلمة Cylindre يعربها بزهريات والواقع ان لفظة Cylindre تشير الى خاتم اسطوانى الشكل عرف فى بلاد الوافدين وفى الشام وفى مصر الفراعنة
والى جانب هذه الكتب المترجمة الى العربية توفرت فى بلاد المشرق العراق - سورية - مصر - مجلات علمية تنشر بعض الدراسات فى التاريخ القديم وفى الآثار لكنها دراسات نادرة ومازل اصحابها يتعثرون وكثيرا ما يفضل الممتازون منهم الكتابة باللغة الاجنبية الفرنسية او الانجليزية او الالمانية وذلك لاسباب مختلفة أهمها بالاضافة إلى العقبة اللغوية عدم استساغة تلك الدراسات من قبل المحيط البشرى اذ لا يقبل عليها القراء وقد لا يشعر القراء بالحاجة لمطالعتها فمازالت دراسات القديم لا تصرف في سوق المثقفين العرب ، بل قل لما يحسنوا الاستفادة منها ولما بعوا ما قد تكنه تلك الدراسات من ثمين الفوائد
اضف الى ذلك ان هذه الدراسات المشرقية والتراجم ، لا تصل الى تونس الا نادرا والنتيجة أننا فى هذه السنة الجامعية شرعنا في تعريب بعض المسائل فى التاريخ القديم لكن المراجع العربية تكاد تكون معدومة فلجأنا الى تصوير بعض الكتب وبعض الفصول ولا شك ان عدم توفر المراجع يشكل عقبة لا يستحيل تجاوزها لكنها تستوجب جهودا وطاقة . فالاستاذ والطلبة مضطرون الى استخدام الكتب والمجلات الاجنبية وقد يكون ذلك حساب كسب لغة تاريخية عربية
فكيف يتسنى تخطى تلك الصعوبات ؟ وكيف نتوصل الى ايجاد اللغة التاريخية التى نحتاج اليها لنكون قادرين على معالجة قضايا التاريخ القديم
والسيطرة عليها وجعل هذا القطاع من التراث القديم أداة لبناء الحاضر ومفيدا لتصور المستقبل ؟ سؤال مطروح على كل الذين يهتمون بقضايا التاريخ القديم ومخلفات الحضارات القديمة فى البلاد العربية وهو مطروح كذلك على الذين يديرون شؤون البلاد العربية والمسؤولين على نموها نموا شاملا والمطالبين بتسخير كل معطيات المحيط لصالح المجموعة ويناعتها فى الحاضر والمستقبل . فكيف العمل اذن ؟
للوصول الى الغاية المرغوب فيها ثلاث لا بد منها
1 ) اعطاء اللغة العربية حظها فى مختلف درجات التعليم وجعلها لغة التعبير والتفكير . فالتعريب مهما كان القطاع يستوجب أولا وقبل كل شئ معرفة اللغة العربية لا معرفة معجمية بل معرفة تجعل مستعملها قادرا على السيطرة عليها محيطا بأسرارها وبإمكاناتها حتى تصبح فى فمه وتحت ريشة قلمه كما تكون كتلة الطفل بين يدى الفخارى يشكلها كما يشاء شكلها ويصورها كما يريد تصويرها . ولا اريد الاطالة فى هذه النقطة بل اكتفى بالاشارة إلى ضرورة التسلح باللغات السامية القديمة اذا اردنا السيطرة على اللغة العربية ؛ فمعرفة ما ضمنه ) ابن منظور فى اللسان ضرورى لكنه أصبح غير كاف وقد لا نستفيد الاستفادة الكاملة من ابن منظور ولسان العرب الا إذا كنا مسلحين بأدوات عمل ضرورية ثبتت نجاحتها وهي اللغات السامية القديمة ، فلا شك ان العربية قد تستثرى من احتكاكها بأخواتها فى المخبر عند فقهاء اللغة ، ولا تفقه فى اللغة العربية الا بعد كسب اللغات السامية الاخرى والتحاور معها .
2 ) إيجاد المصطلحات إن قضية ايجاد المصطلحات تثير سؤالين وهما :
1 ( كيف يكون ايجاد المصطلحات ؟
2) من يقوم بهذه العملية ؟ من يتولى توفير هذه المصطلحات ؟ لا يخفى على احد ما للمصطلحات من قيمة فى تطور العلوم على اختلاف انواعها انسانية كانت او صحيحة ذلك ان العلم ولا بد ان يكون ذلك الوصف دقيقا يغطى كل جزئيات ذلك الواقع مهما صغر حجمها ومهما حاولت الافلات من قبضة الحراس ؛ والوصف لا يتسنى الا اذا كانت بين يدى الواصف أدوات عمل ملائمة اى مصطلحات أى أسماء تمتاز بالدقة والوضوح تلك هى الرحلة
الاساسية لكل عمل : فحص الواقع - التعرف الى كل جزئياته او مركباته وصفها وتسميتها وفى مرحلة ثانية يمر الباحث الى وصف العلاقات التى تربط أجزاء الواقع بعضها ببعض ويتمثل ذلك ايضا فى الوقوف على تأثيرات بعضها على بعض وتلك هي المنهجية البسيطة التى دفعت الانسان الى معرفة قوانين هذا الكون وسنن الطبيعة . العملية عملية وصف قبل كل شئ في مختلف مراحلها تستوجب مصطلحات خصوصية ذلك ما أشار اليه القرآن الكريم : " وعلم ادم الأسماء كلها "
فلما اراد الله ان يجعل من آدم خليفته فى الارض كان لا بد ان يزوده بسلطان ولا بد ان يسلطه على الواقع المحيط . ولا يتسلط الانسان على الكون الا بالتعرف اليه وبمعرفة أجزائه ذلك انك اذا سميت اقتربت من المسمى ، وينبغى أن يكون الاسم ملما او موحيا بكل خصائص المسمى ففى ميدان الفخار مثلا اذا قلت دنا للسامع أن يتصور ايناء معينا له خصائص تميزه على الاوانى الاخرى كالابريق او الجرة ولكل من هذه الاوانى شكله ووظيفته وكذلك الشأن بالنسبة للزخارف والعمارة والطبور والنبات والاحجار وغيرها من عناصر الواقع المحيط
ولكن كيف يكون العمل لتوفير هذه المصطلحات ؟ الابواب التى يمكن للباحث ان يطرقها سعيا وراء ايجاد المصطلحات كثيرة منها :
1 ) الرجوع الى المصادر القديمة : الشعر الجاهلى - القرآن - كتب الادب والتاريخ والجفرافيا - ولا ننسى ما قد تمدنا به النصوص السامية القديمة : النصوص البابلية - الاشورية - النصوص الكنعانية والارمية والنبطية - النصوص الحميرية وغيرها كثيرة ومختلفة كلها كنوز لغوية ورجوعا الى هذه المصادر القديمة يقوم الباحث بتهطية اى بالتقاط ما قد يفيد وتستوجب هذه العملية قراءة الكتب قراءة هادفة : الهدف منها التقاط ما قد نحتاجه للتعبير عنصر من عناصر الواقع ماديا كان أو غير مادى ومن هذه الزاوية تتمثل عملية التعريب فى ربط الصلة مع السلف ومع التراث العربى السامى القديم ذلك الذى يغطى بتجاربه ومكتسبياته ما ينيف عن ستة الف سنة : رصيد لا يضاهيه رصيد فى تاريخ البشرية
ففي هذه الكتب السماوية والدنيوية وفى رقم وادى الرافدين وسورية وفى نقائش الكنعانين والانباط والحميريين والقرطاجيين اشارت الى
أشكال حضارية قديمة نجد فيها ما قد يساعدنا على ايجاد المصطلحات ففيها ما يشير الى ألوان حضارية مختلفة : الازياء - أدوات العمل - الاشكال المعمارية زخارفها ، النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعتقدات العبادة ومختلف حركاتها . فلا شك ان بالرجوع الى هذه المصادر القديمة تكون الحصيلة وافرة ثرية مثرية
2 ( باب التوليد او الاشتقاق
نحن نعلم ان العربية ولود لكنها فى حاجة اكيدة الى مولدين : وتتمثل عملية التوليد فى استخراج بعض المصطلحات من المادة الاساسية من العنصر الاصلى وقد يكون ذلك بالرجوع الى المعنى الاولى والانطلاق منه مع احترام القوالب والصيغ التى تستسيغها اللغة العربية فيمكن مثلا انطلاقا من لفظة تاريخ توليد لفظة " تاريخية " كمصطلح لتعريب لفظة historicite وتشير هذه اللفظة الى علاقة الحدث بالواقع التاريخي فالحديث عن " تاريخية عليسة " historicite d' Elyssa يتضمن معالجة قضية معينة وهي نصيب عليسة من الحقيقة التاريخية ويتساءل الباحث هل هى شخصية خرافية أم هى شخصية عرفت الوجود فى الواقع . وكما يبحث فى تاريخية الشخصيات يبحث فى تاريخية الاحداث الاخرى ؟ كالتى يرد ذكرها فى كتب المؤرخين حول اعمال بعض الامراء وكبار القوم الى غير ذلك من الاحداث
فالمنهجية العلمية تفرض على المؤرخ أن لا يحاول تفسير الاحداث قبل اقرار تاريخيتها اى قبل ان يثبت لديه انها حدثت انها كانت جزءا من الواقع زمنا ما وفى محيط ما . ومهما يكن من أمر فلتعريب لفظة historicite تم استخراج لفظة " تاريخية " من لفظة تاريخ أى وقع توليد لفظة تاريخ وهى فى الحقيقة عملية معروفة عند علماء العربية ويسمونها بالاشتقاق . وامكانات اللغة العربية فى هذا الباب غزيرة سخية . فالفخارى هو صانع الفخار والاقداح أو الاوانى المفخورة هي الاوانى التى تم شبيها بالنار وكذلك الامر بالنسبة للفظة اثارى وأثرى استخرجت كلتاهما من لفظة آثار . فالاثارى هو الذى يعتنى ويمارس دراسة الآثار القديمة والاثرى نعت اى ما ينتسب للآثار أو ما له علاقة بالاثار فزيد أثارى والمعلم أثرى . ويمكن ان نستخرج لفظة " آثاربات " لتسمية العلم الذي يهتم بدراسة الآثار وذلك قياسا على حسابيات ورياضيات . وهذه بعض الامثلة الاخرى
هو الذي يعبر عن أفكاره ومشاغله ووجدانه بالحركة فهو بوحي Le mime بالمعنى بواسطة الحركة فاذا أردنا تعريب لفظة mime عدنا مثلا الى
مادة " وما " Le mime فهو الذى يومئ فيمكن ان نسميه اذن المومئ أما لفظة Le mime التى تشير الى شكل من أشكال المسرح المعبر بالحركة وبالايماء فيمكن ان نعربها بلفظة " مومأة " .
بجد فى تونس وفي مختلف أقطار المغرب العربى بنايات قديمة تسمى باللغة الفرنسية construction megalithique فتعرف لفظ megalihique يسير - أقول بناية بقى لي أن أعرب صفتها construction ان هذه اللفظة الفرنسية تتركب من مادتين يونانيتين مادة mega وفيها معنى الحجم الكبير ، الضخامة ومادة lithos وتعني الحجرة فواضح أن لفظة megalihique تشير الى أحجار ضخمة ، كبيرة الحح وفى الشعر الجاهلى نجد استعمال لفظة " جلمود " للدلالة عن الحجرة الكبيرة فيمكن أن نعرب megalihique بجلمودى أى باستخراج نعت من اسم جلمود فالبناية الجلمودية هي التى تشيد بحجارة كبيرة الحجم تتعالى وتتراكب من دون ملاط
وفى عملية التوليد ينبغى ان لا ننسى توليد العبارات الاجنبية من ذلك رومنة لتعريب romanisation ورسكلة لتعريب recyclage وتلفز لتعريب televiser وتلفن الى غير ذلك . والملاحظ ان هذه الوليدات تخضع لقواعد العربية وقوالبها من حيث الصرف والنحو : رومن - ترومن - المرومنون
( الباب الثالث الذي يمكن للمعرب ان يطرقه هو باب الاستعارة ، لقد اشرنا فى بداية هذا الحديث الى أشكال حضارية لم يسبق للحضارة العربية ان تفرزها وليس بالتالي فى اللغة العربية ما قد يصلح لتسميتها . ومثل ذلك forum , consul , proconsul , munIP فعند ذلك أعرب اللفظة الاجنبية تعريبا صوتيا مع محاولة ما أمكن ذلك اعطائه صبغة عربية او قالبا عربيا . فأقول فورم وجمعه فورومات وقنصل قناصل ، وبروقنصل او برقنصل ومونيسيب ومونيسيبات . أقدم هذه الأمثلة كمقترحات أولية قابلة للنقاش سيما فى خصوص الصيغ والقوالب على أن هناك من يستحسن الرجوع الى الصيغ الاصلية قديمة كانت أو حديثة فان كانت اللفظة من أصل لا بيني مثلا تكون الاستعارة انطلاقا من الصبغة اللاتينية وان كانت يونانية تكون انطلاقا من الصبغة اليونانية
بقى ان نحاول الاجابه عن السؤال الثاني . من يتولى توفير المصطلحات ؟
لا ننسى أننا نعالج قضية تعريب التاريخ القديم والآثار . فبديهى أن يتولى انجاز العملية المؤرخ والاثارى ومعنى ذلك ان الذى يطالب بايجاد المصطلحات لهذا القطاع من العلوم الانسانية ينبغى ان تتوفر فيه صفتان او ميزتان : معرفة اللغة العربية والخبرة فى قضايا التاريخ القديم والاثار حتى يكون محيطا احاطة كاملة بما قد يحتاجه للقيام بعمله بحثا كان او تدريسا . وينبغى ان يكون محيطا بما يشترط ان يتوفر في المصطلح ليكون ملائما مطابقا للواقع ومغطيا لكل عناصره فالمؤرخون المختصون فى التاريخ القديم والاثاريون هي الذين يطالبون بوضع المصطلحات الملائمة لتعريب قطاعهم الخاص يضعونها ويدخلونها سوق الاستعمال حتى يستخدمها الباحث والدارس والاستاذ والطالب وغيرهم ممن قد يحتاجون الى لغة التاريخ القديم والاثار من كتاب وشعراء وغيرهم
ولكن لا بد لهؤلاء الفنن الخبراء من اطار معترف به ، وبصلوحياته حتى يكون لعملهم وزن في السوق وتكون مصطلحاتهم كالعملة ذات القيمه المضمونة فيتعامل بها الناس مطمئنين . وقد يكون هذا الاطار مجمعا لغويا او مجمعا علميا . ففي نطاق هذه المؤسسة او غيرها تولد المصطلحات ويقع الاتفاق عيلها وتصبح حارية المفعول فى المدارس والمعاهد والكليات وفى كل المؤسسات الدولية حتى يكتب لها الدوام ونتخلص من التضارب والتجارب الاعتباطية مما ينتج عنه البليلة فى العقول وعدم المقدرة على السيطرة والاستيعاب
فالملاحظ اليوم فى تونس وفي العالم العربى بصفة عامة ان لكل مؤرخ لغته ومصطلحاته والأمثلة في ذلك قوافل فلفطة Silex منهم من يعربها بلفظة ضوان ومنهم من يقول صوان
amphitheatreمدرج - مسرح مدرج - ملعب Forum : البطحاء الرحبة - الفوروم كما اقترحناه منذ حين وكذلك عربها الشهابى فى معجمه بعضهم عربوها بلفظة سوفيت - شافط - حاكم - قاضى : sufete شيخ ولعل أحسن طريقة لتعربها تكون باستعمال اللفظة القرآنية " سبط - اسباط ، ورد ذكر الأسباط في السور التالية : البقرة - آل عمران - النساء الأعراف .
. زهريات - خواتم أشورية ) الشهابى ( خواتم اسطوانية : cylindre كنت أشرت منذ حين الى بعض التجارب الاعتباطية وتتجلى بوضوح كامل فى تعريب الاعلام . فلنأخذ بعض الامثلة :
Amilcar : عرب هذا الاسم وأعطى أشكالا مختلفة فقالوا " أملكار " وهى الطريقة الاكثر شيوعا وعمل ( عبد الوهاب ( والصبح عبد ملقرت . فهو اسم يتركب من عنصرين : عبد وملقرت وهذا اسم إله من الآلهة الفنيقية ، مع الملاحظ ان المرحوم عبد الوهاب كان يعرب اعتباطيا ملقرت AMilcar بملك ارت " والصحيح ملقرت وهو اسم يتركب من عنصرين كذلك " ملك وقرت " ثم ادغام الكاف فى القاف فقيل " ملقرت " اى ملك المدينة وهى صور فى ارض كنعان .
Hannibal : حنبعل - النبيل ( البكرى وصاحب الروض المعطار ( هينبال .
Magon : ما قون ) فى كتاب التاريخ لتلاميذ السنة الاولى من التعليم الثانوى ( ص 94 - وفى نفس الكتاب قيل ماغون ص 98 و 105 . والصحيح " ماجون "
( Astorte ) : اشطرتى ( نفس المرجع ص 103 ( والصحيح عشترت Himilcon : عميلقون ) نفس المرجع ص 99 ( خيملكون ) محمد مزالى والبشير بن سلامة ) والصحيح خيملك
بالنسبة لهذه الاعلام لا بد من الرجوع الى النقائش البونيقية او الفينيقية حيث نجدها مكتوبة بالاحرف الكنعانية التى لها ما يطابقها فى الابحدية العربية وبالرجوع الى الاصل يقع الاجماع على صيغة واحدة ويكون لعملية التعريب مستند علمي .
وهناك قضية تعريب الاعلام الغربية فلا بد أن توضع لها قواعد ثابتة حتى يتيسر للجميع فهم ما قد يكتب بالعربية فى هذا الميدان وحتى يقع الاتفاق حول طريقة موحدة جارية المفعول فى مختلف الاقطار العربية وهذه بعض الامثلة :
Ciceron : سيسرون - سيسرو - تشيشيرو - قيقيرو Herodote : هيرودوت - هيرودوتس Homere : همار - هوميروس
وتجدر الاشارة كذلك الى قضية الاعلام الجغرافية والاعلام العرقية فهي فى الوقت الراهن محل اضطراب وهذه بعض امثلة
le Tauru : جبال طوروس le Zagros : حبال زاجروس ومنهم من يعرب زاكروس ، زاغروس les Scythes : السيكيثيون - السكيثيون - سكيثن
فالملاحظ ان طرق تعريب الاعلام الآدمية والجغرافية والعرقية تختلف من مؤرخ الى آخر او من معرب الى آخر فهذا ينطلق من اللغة الانجليزية وذاك ينطلق من اللغة الفرنسية وآخر من الالمانية . فلا بد للمؤرخين العرب من الاتفاق على قاعدة انطلاق موحدة اذا أرادوا اجتناب التفرقه والتشويش والتمزق ولا ننسى ان تعريب الاصوات الغربية يتطلب وضع قواعد ثابتة يعمل الجميع على احترامها . فلا بد ان نتفق على تعريب صوت " أو صوت V وغيرهما من الاصوات التى ليس فى العربية ما يطابقها تماما مع العلم ان كتب القدماء تفيدنا بتجارب السلف ولا بد من التعرف اليها والانطلاق منها
فيمكن اذن التفكير في بعث فريق من الاخصائيين يسهر على ايجاد المصطلحات باستخدام شتى الوسائل العلمية والمناهج الصحيحة وتجدر الاشارة هنا إلى العمل الذى يقوم به حاليا ثلة من المؤرخين التونسيين تحت اشراف كلية الآداب ودار المعلمين العليا ولاشك ان هناك جماعات أخرى تعمل فى ميادين اخرى كالفلسفة والجغرافيا وعلوم الاجتماع وغيرها أفلا نفكر فى بعث مجمع علمي لغوى يتولى تنسيق هذه المجهودات المختلفة الفردية منها والجماعية ويضفى عليها صبغة رسمية تجعل من نتاجها عملية معترفا بها مضمونة القيمة فى السوق
ومن الضرورى ان تتعاون القطاعات المختصة لان هناك نقطا يلتقى فيها كل العاملين في ميادين التعريف فقد يستفيد المؤرخ من عمل الجيولوجى ويجد فى معجمه أسماء الحجارة كما يستفيد من معجم علماء الاجتماع والفلسفة إني لألح على ضرورة بعث هيكل أكديمي يستوعب هذه الاعمال اللغوية على الصعيد القطرى او الجهوى ذلك لان لكل قطر خصوصية تاريخية وجغرافية فالفريق الذي يعمل على تعريب التاريخ القديم فى سورية كثيرا ما تراه يغفل عن معطيات هى من خصوصية تونس أو الاقطار المغربية وعلى سبيل المثال المعجم الذي وضعه الشهابى تحت اشراف المجمع العلمي بدمشق لم يتعرض الى الكثير من الاشكال الحضارية المغربية فلا نجد فيه كلمة sufete ولا نجد فيه كلمة colonie ولا كلمة municipe
فالمجمع القطرى ادرى بشعابه ولكن على صعيد عربى الرجوع الى اتحاد المجامع الذي يتولى التنسيق والتوفيق والاقرار ولا شك ان هذا العمل يمثل لبنة تساهم فى تشييد الوحدة اللغوية والثقافية
ومن عمل المجامع ان تسهر على نشر المعاجم المختصة وتكون لها مجموعات عمل تكلف بالرجوع الى أمهات المصادر العربية وقراءتها حسب مشاغل خاصة وتلتقط منها كل ما قد يتماشى مع مشاغلها : جغرافيا - تاريخ - معمار - نقوش - ثياب - نقود - ديانات قديمة نبات - طيور - سفن - وتسهر المجامع كذلك على نشر الدراسات باللغة العربية تأليفا وترجمة فتعمل على اثراء المكتبة العربية
فلقد حان الوقت اذن للعمل على توفير لغة تاريخية علمية دقيقة تساعد المؤرخ على الكتابة باللغة العربية ومن الثابت ان التأليف والنشر باللغة الاجنبية لا يفيد العالم العربى الفائدة المرجوة بل النشر باللغة الاجنبية من قبل العرب اشعاع لاصحاب تلك اللغة ولحضارتهم . فعندما نعرف بما قد يجد عندنا باللغة الفرنسية مثلا تكون النتيجة أن الجمهور الفرنسي أعلم من جمهورنا مما يقدمه التونسيون فى شتى الميادين فواجب علينا ان نقدم هذه النتائج الى الجماهير العربية ولا فائدة فى الجهود الجبارة التى تقوم بها ان لم تستفد منها الجماهير العربية العريضة على مختلف مستوياتها الثقافية ولعل اثراء المكتبة العربية بدراسات لغتها العربية من انجع الوسائل للتعرب واثراء الثقافة العربية واللغة العربية . بالكتاب والمقال تدخل المصطلحات الجديدة الى السوق ويتناولها المستهلك كالاديب والصحافى والشاعر والطبيب والقاضى وغيرهم ومن هذه الزاوية يتضح أن التعريب أداة من الادوات الصالحة للنمو والمساعدة على الخروج من التخلف .
