في تعليمنا كثير من المسائل التي تحتاج الى النظر فيها من اوجه مختلفة و باعتبارات متعددة فكثيرا ما تثار امامنا صعوبات تتعلق بمسالة من المسائل فننظر اليها من جهة ما فى ايجاد الحل المطلوب ، وقد يكون الحل ملائما من الوجهة التي نظرنا لكنه قد لا يكون بالحل الذى يمكن ان نرتاح اليه فيما يلزم ان نقيم عليه نظاما شاملا . أن الحل الذى يقتضى النظر الى الصعوبة باعتبارها مسالة قائمة بذاتها لا بأعتبارها جزئية تتصل بكل ، هو لا شك حل غیر سلیم سرعان ما ينهار ، ويضيع ما كنا نؤمل ونهدف من بلوغ الغاية . ان النظر فى صعوبة ما يستدعى النظر لا فيما يتصل بها فقط من اشياء وانما يستدعى النظر في المسألة الام ايضا لانها هى القاعدة الاساسية العامة وبالتالى فن ظهور مشكل في شيء يتصل بالتعليم انما يقتضى البحث عما نريد من التعليم نفسه وعن الهدف الذى يتحقق به ، وعلى ضوء تجديد كل من التعليم والغاية منه تكون الحلول للمسائل الفرعية التي يجب ان تنحل آخر الامر في مفهومه . بهذه الكيفية يجب ان نبحث ما يعترضنا من صعوبات تتعلق بصلب التعليم ومناهجه .
ان تعليمنا كان منذ زمن ليس بعيدا محل نقد وهو لا يزال كذلك وسيكون دائما والى الابد كذلك . ففى كل مرحلة حاسمة ففي كل مرحلة حاسمة وعند كل حادث يهز افقنا الفكرى نقوم بنظرة فاحصة ملؤها الروح النقدية نجلى فيها الحقيقة والكيفية التى يتحقق بها كوسيلة الى التعلم .
ان التعليم هو منهج فى التعلم . والتعلم كما يجب ان نفهم هو اول ما تكشف به الروح عن حقيقتها ، روح الفرد، وروح الجماعة والروح الانسانية عامة، هذه الروح التى تتكون خلال الزمن والتي تريد ان تتحرر منه آخر الامر . ان البشرية التى نستطيع ان نتحدث عن تاريخها هي بشرية حديثة لا تتجاوز على اكثر تقدير عشرة آلاف سنة . فكيف كانت قبل ذلك ؟ ان التفكير فى هذه المسألة يقتضى ان ننظر اليها نظرة تطورية ، نظرة يتمثل فيها الانتقال من البسيط الى الاكثر تعقيداً . هذه النظرة الحقيقية فكل ما اماما انما هو في هذه الحركة السيالة التى تنتفى معها الحدود . ان الانسان في البدء
انسان بسيط وأن البساطة هذه مصدرها الفكر وليست فى الوسائل العملية التي تشكل حياته لان هذه ليست الا مظهرا فقط للفكر الذى يصل في بساطته الى حد التناقض بل ان التناقض عنده هو عين حياته . اما ان يكون التناقض مظهرا فقط من مظاهر التفكير فهو لا ينطبق عليه وانما ينطبق علينا نحن من نعيش هذه القرون الاخيرة من تطور الانسانية . ذلك ان الظاهرة العامة في حياتنا هو محاولة فرارنا من التناقض .. اننا نعرف ان هناك تناقضا واننا في عناد معه ومع أنفسنا . اننا نريد ان نتخلص منه لكن حملا ثقيلا ليس من السهل التخلص منه ما زال يقضى وسيقضی بیننا از مانا وتشاء الارادة فى حركتها اللانهائية ان ينجلى عن الروح تناقضها شيئا فشيئا وفي حركة منتظمة يعبر عنها رقى البشرية تدريجيا .
اننا عند ما نعبر عن تطورنا التدريجي وعندما نعبر عنه بالطاقة الفكرية ذات فعالية تستمد قوتها من نفسها المتضمنة لكل امكانيات التطور المبدعة والوسائل العملية انما نصبح شيئا جديدا وتتدخل فينا روح جديدة هي روح فالتطور ليس الا النمو وليس النمو الا حركة البشرية نحو فكر أكثر ابداعا وعقل اكثر اتصافا بالقوة .وبهذه الحركة نتصور ما سيكون عليه الانسان من نضج في التفكير ومظاهره واعنى بها المظاهر العملية التي تخدم أغراض الانسان . واذ كنا نتصور وندرك ادراک تاما مثال الفكر في التطور الذي هو حركته فان هذا يوقفنا وقفة طويلة فى : مدى ما توفيه الطرق التعليمية بهذا الغرض . ومدى فعالية البرامج في تحقيق الغرض نفسه .
لا شك أن طرق التعليم ابدا موجهة وكذا البرامج فانها هى ايضا موجهة . وان المسالة تكمن دائما في التوجيه فالتوجیه قاصر احيان والتوجيه حسن احيانا لكن قد يكون ما تتحقق به امکانيات الروح المتوثبة من التوجيه فيه قصور لما تتضمنه من التحديدات حتى انه عند ما تنحل تحدیدات ما فانه ينصهر في تحديدات أخرى غيرها . وفى هذه العملية من نبذ تحديد للالتقاء بتحديد آخر ثانية انما يعبر عن نمو وتقدم ولهذا فلا نبتئس من التوجيه المحدد .وانما نبتئس من شيء آخر يلازم التحديد وهو الذي لا يجعل مجالا لتحديد آخر الشيء الذى يقضى على روح الحركة والتقدم او يؤخر تطورها على الاقل .
انه في التحديد تكمن مطالب الذات وان من يوجه التعليم من شرائط ليس الا ظروف النقص الذى تتوق الى استكماله.
ان التعليم هو الوسيلة لمعرفة الاشياء . لمعرفة ما يبدو امامنا . لمعرفة الواقع ، الواقع الذى نريد أن تمتد اليه سلطتنا والذى نريد ان نحيله الى جزء منا . الواقع الذي تتحقق به امكانيات الروح التي نحن لسنا الا لحظة فيها والتي نحمل مسؤولية نموها وتطورها . من اجل ذلك ومن اجل السمو بهذه الروح فانا لا نفتأ ننظر ونعيد النظر بما تتقوم به هذه الروح وتستكمل نموها واعنى بذلك برامج التعليم ومادته .
ولسنا نريد ان نتحدث عن البرامج او عن جملة من موادها _ فسنرجئ الحديث فى ذلك الى فرص اخرى - وانما نتحدث فقط عن مادة ذات اهمية كبيرة فى تكوين وتقويم الروح الانسانية ثم هى بالتالي تعطينا فكرة واضحة عن انفسنا وعن الواقع الانساني وهذه المادة هي فن التاريخ أو علم التاريخ على اصح وجه .
واذن فما هو التاريخ ؟ هنا تثار اسئلة كثيرة عن اهتمام الناس بالتاريخ ثم هو بعد ذلك كيف اصبح مادة دراسية ويتبع ذلك عن الغرض من التاريخ هذه اسئلة هامة جدا تتطلب البحث والنقاش . الا انه باجلاء حقيقة التاريخ وتصوره كحركة تنمو فى سياقه البشرية وتزداد ثراء تنكشف غوامض الاسئلة ألباقية .
اننا عند ما نقول تاريخ فانا نعنى بذلك الماضى . ماضى الانسان بما تشتمل عليه هذه الكلمة من معنى عام يدخل تحته كل ما كان نتاجا للبشرية فى ميدانى الفكر والعمل . لكن الشئ الملاحظ فى التاريخ او فى الحوادث التاريخية هو انها لا تسير على نسق واحد وان تفسيرها لذلك لا يمكن ان يخضع لمبدأ او لقانون ميتافيزيقى . اننا نحاول ان نخضعه لذلك فنفسرها تبعا لنظرية الكفاح . كفاح الجماعات او الطبقات فنجعل اساسها ماديا بحتا . ويمكن ان نفسرها ايضا تفسيرا مغايرا لذلك تماما ، تفسيرا روحيا اساسه العلاقة الدينية . وانت تستطيع لذلك ان تجد لكل من الناحيتين فى التاريخ شواهد الشئ الذى تنتفى معه النظرة الواحدية .
ان الخصومة بين المادة والروح خصومة قد انتقلت الى كل شىء مع ان الامر معقد وليس بهذه السهولة . فامر الواحدية هنا افتراضى بحث لان التاريخ تشتبك في تكوينه عوامل هي وليدة المواقف ووليدة الثقافات والعقليات وليست وليدة الافتراضات والمبادىء التى تنتزعها من بعض الحوادث او من جملة من الوقائع التاريخية ونعممها تعميما زائفا .
لهذا كان الذى يصنع التاريخ اكثر من غيره هو نظرتنا اليه او هو ثقافتنا نحن وليس هو الواقع . فكثيرا ما نحاول ان نستنكر مذهبا فنقول اننا لا نريد ان نستورد المذاهب ومع ذلك نجد ان كثيرا من الاقطار قد تمذهبت بنظام خارجى استجلبته فادخلته فى حياتها العملية او انه فرض عليها بالقوة فعلى ماذا يدل ذلك ؟ هل يدل على انه من متطلبات الواقع الذى يسير حسب قانون ميتافيزيقى مادى او روحى كما يزعمون ؟ لنفرض ان بلدا افريقيا سادته الاشتراكية المتطرفة او تسلطت عليه قوى الاستعمار . فمعنى قيام هذا النظام او ذاك ، هل هو فى الاول نتيجة حتمية للنظرية الماركسية كنزعة تسود طبيعة التطور البشرى ام ان المسالة لا تعدو ان تكون هجرة افكار اطلع عليها قوم فطبقها فى حياته العملية ؟ اى ان المسألة مسألة ثقافة لا اكثر . ولنفرض او نذكر ان بلدا قهره الاستعمار فحكمته قوى الظلم والطغيان وخضع للاقطاع فهل معنى ذلك ان هذا النظام هو ما يتلاءم وحقيقة البلد المستعمر وان ذلك ضرورة تاريخية فى سياق التطور الانسانى
ان فى التاريخ امكانيات اوسع من ذلك وان للانسان دورا كبيرا فى صنع التاريخ . ان التاريخ لا يصنع نفسه وليس بوسعه ان يسلبنا حريتنا . اذ اننا نحن الذين نعطيه القيمة التى نريد تبعا لما يحتمل فى تفكيرنا من ارهاصات وانتفاضات تحرك الذات الفردية والجماعة الكلية نحو مطالبها ورغباتها - وهنا يظهر خطر مادة التاريخ وتدريسها فى تحقيق وتفسير الظواهر التاريخية فان تمذهب المدرس بمذهب ما يبعد كل امكانية لتفسير آخر وفي ذلك اهمال لما يمكن آن يوجد من عوامل اخرى قد تكون من العوامل الاساسية فى تحديد الظواهر التاريخية . ثم ان التمذهب يعطل تفكيرنا فلا نصبح نرى الاشياء الا من زوايا خاصة تبعدنا كثيرا عن الحقيقة ، ثم انها كذلك تنفي عنا حريتنا فى التفكير .
هذا توجيه اسوقه لمن يقوم باعداد النشء والشباب لئلا يهملوا امكانية التطور من حسابهم ولئلا يهملوا كذلك امكانية التلقين الحر
