قال أرسطو : ( من المناقشة ينبثق النور )
الحجر بها بيــوت لا قبور
أولا نشكر للسيد الأديب البارع الاستاذ صلاح البكرى تفضله بالتعقيب على مقالنا المنشور في مجلة (( المنهل )) الموقرة وبذلك أتاح لنا فرصة المناقشة في الموضوع وتنوير الظلام .
وقد قال صديقنا المحترم : ان كلمة (( جبل الاثالث )) بالثائين المثلثتين التى وردت في مقالنا المذكور هى (( من قبيل التحريــــــف كما يظهر بوضوح من شرحه ( أى شـــرح ياقوت الحموى ) اذ يقول : الأثالب جبل من أرض ثمود عند الحجر )) .
وربما كان الحق معنا لأننا قد اعتمدنــــا على ياقوت الحموى الاخبارى النحوى نفسه حينما قال عن هذه الكلمة مرتين في معجمه المتقن : (( الأثالث بلفظ الجمع ، جبال في ديار ثمود بالحجر قرب وادى الفرى فيها نزل قول تعالى : (( وتنحتون من الجبال بيوتـــا فارهين )) ( معجم البلـــــدان ، القاهــــرة ٢٤- ١٣٢٣ ه ، ١٠٦:١ ) ، وقال أيضا
في مادة الحجر : (( الحجر بالكسر ثم السكون وراء ... أسم ديار ثمود بوادى القرى بين المدينة والشام ( ٣ : ٢٢١ - ٢٢٠ ) . ثم نقل عن الاصطخرى ان : (( الحجر قرية ( لا محلة ، كما نقله صاحبنا المكرم ) صغيرة قليلة السكان وهو من وادى القرى على يوم بين جبال وبها كانت منازل ثمود .. قال الله تعالى : ( وتنحتون في الجبال بيوتا فارهين ) قال الاصطخرى : ورأيتها بيوتا مثل بيوتنا في أضعاف جبال وتسمى تلك الجبال الأثالث ، وفى جبال أذا رآها الرائي من بعد ، ظنها متصلة فاذا توسطها رأى كل قطعة منها
منفردة بنفسها يطوف بكل قطعــــــة منها الطائف )) ( ٢٢١:٣ ) : وبالاضافة الى ما سردنا فقد نقل عبدالمؤمن البغدادى عن ياقوت الحموى ما نصـــه : (( الأثالث بلفظ الجمع ، جبال في الحجر ديار ثمود ... )) ( مراصد الاطلاع ، مصر ٢٤:١،١٩٥٤ ) .
وقال شليفر J . SCHLEIFER في مقاله في الحجر AL- HIDJR ( وورد أيضا في ترجمة المقال في دائرة المعارف الاسلامية ، القاهرة ، ٣١٩:٧ ) : (( الحجر وتسمى الأثالث )) وتكتب دائما في دوتى : TRAVELS أثلب ETHLIB ENCYCLOPAEDIA OF ISLAM ليدن ، ٢ : ٣٠١ ) .
وأثار هذا الموضوع البستانى تحت عنوان ( الأثالث ) وجاء حكمه بصراحة في قوله : (( أما أثالب بالباء فتصحيفة )) ( دائرة المعارف ، بيروت ١٨٧٧/١٢٩٤ ، ٢ : ٤٩٣ ) .
ولم نجد في كتاب ياقوت الحموى القول الذى نسبه الناقد الفاضـــل الى ياقـــوت الحموى : (( الأثالب جبل من أرض ثمود عند الحجر )) . كما لم نستطع أن تحصل على قول الادريسى عن كلمة (( الأثالب )) في كتابه نزهـــة المشتاق في ذكر الأمصار والأخبار والبلدان والجزر والمدائن والآفـــــاق - فحقت البينة على الناقد الفاضل .
وأما كلمة ( جبل الأثالب ) (( فليس لها معنى ولا علاقة بالحجر . ولعلها الأثالـــث بالثائين المثلثتين من ثلاث أى وضين ، وهو بطان منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير ، وفيه قال الممزق ( من الطويل ) :
وقد ضمرت حتى التقى من نسوعها عرى ذى ثلاث لم تكن قبل تلتقى وقال الطرماح الحكيم أيضا ( مــــن الطويل ) :
وقد ضمرت حتى انطوى ذو ثلاثها
الى أبهرى درماء شـــعب السناسن
وجبال الأثالــــــث كانت على شـــــكل الوضين .
وأما (( الحجر )) أو (( هجر )) فنحن نعرف سبعة عشر مكانا في جزيرة العرب مشهورة كلها باسم (( حجر )) أو (( هجر )) أو مثله . ولسنا هنا في حاجة الى سردها ويكفي أن نقول : ان الغربيين حاولوا تلبيس الأمــر تعبيرا عن معتقداتهم الخاصـــة وميولهــم الشخصية . ومعروف ان الحجر المشهورة بمدائن صالح هى EGRA أو HAEGRA عند بلينوس ) ٢ : ٤٥٧ - ٤٥٣ ( . وهى ( EYPA ) عند بطليموس ( أنظر كتابه العظيم في ٣ / ٧ : ٤ و ٢١ ، ولا في ٦ / ٧ : ٢٩ كما أشار اليه صاحب التعقيب الاديب ) .
ولا نعتقد بقول موزل : ان HAGRA يجب أن تكون مدينة الحجر التى كان اللحيانيون يقيمون فيها والتى كانـــت في منتصف القرن الاول الميلادى ملكا لملــوك النبطيين )) . ولا ننظر الى آراء موزل اذا كانت تعارض تصوص القرآن الفرقان . بل نقول : ان ثمودا كانوا يسكنون الحجر منذ قرون ، قبل الميلاد ، لأن طــــراز أبنيـــة قصورهم ، كما هو معروف تسمى باسم القصور حتى الآن ( دوتي TRAVELS : DOUGHTY
لندن ١٥١:١،١٩٦٤ ) وكان هذا الطراز ، طراز الدور القديم ، EARLY DORIC ORDER ولا يوجد هذا الطراز الا في أبنية القــــرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد . ومعروف ان
طراز الدور القديم أقدم وأبسط الطـــــرز المعمارية اليونانية ، ولذلك لا يوجد في بناء هذه القصور شئ من ABACUS ولا من ECHINUS
( كما قد أشرنا اليه في الرسم المنظورى في مقالنا ) . وهو دليل بليغ على ان هذه القصور أقدم من سبعة قرون قبل الميلاد ، وان النصـــوص المنســــوبة الى اللحيانيين أو النبطيين لم ترسم على واجهات هذه القصور الا بعد تكميل البناء بثمانية قرون .
ولا نفهم ما يهدف اليــه صديقنا المحترم من الاعتقاد بأن المغارات بمدائن صــالح (( تشبه الى حد كبير المقابر الموجودة جنوبى الجيزة على مقربة من هرم سقارة )) .
وأما قولنا : ان ثمودا كانوا قد رسموا صورة الققنس على مداخل القصور للفأل الطيب . وقد استنبط منه الأديب الناقــد الكريم انه دليل على ان أولئك القوم كانـوا يؤمنون بوجود حياة أخرى أو دليل عــلى ايمانهم بالتناسخ . فكل شئ الا ذلك . لأن هذا التفسير مجلوب من بعيد . فكيف يكون ايمانهم بوجود حياة أخرى فألا طيبا لهم ؟ والى أى حد يفيد ايمانهم بالتناسخ ؟ وما العلاقة بين التناسخ وبين الفأل الطيب ؟ وقولنا واضح كالنهار ، وتفسيره الوحيد : ان هؤلاء القوم كانوا يعتقدون انه برســم صورة الققنس على مداخل قصورهم يمكنهم أن يعيشوا آمنين فارهين دائمين خالديــن في هذه القصـــور مثل الققنس الذى لا يموت أبدا .
وأما الرفوف المنقورة في داخل معظم البيوت فليست لدفن الاموات فيها ، لانها كلها غير عميقة ولا يزيد عمقها على شبر = ٢٣ سم ولا تتسح لجثة ميت قط وقد اعترف دوتي بذلك ايضا حيث قال : TRAVELS ١٤٩:١) :
YET THEIR SHALLOWNESS Is SUCH THAT THEY COULD NOT SERVE , ١ SUPPOSE . TO THE RECEIPT OF THE DEAD
واما الحفر والرفوف فانهـــــا ليست الا مخازن للاموال والنقود والثمار والبخور .
ونحن قد بذلنـــا جهدنا في أن نصل الى صور للنصوص المنقورة فوق مداخل بعض القصور ولم يكن لنا حظ في النجـــاح بهذا المجال الى أن زارت الدكتورة ر. أ. شتيل STIEHL مكتبة جـــــامعة الملك عبد
العزيز بجدة . والدكتورة مستشرقة المانية شهيرة ولها ألمام خاص بمدائن صالح وآثارها وكانت زيارتها للجامعة منذ خمس سنوات . فناقشتنا في موضوع المغارات بالحجر هــل هى قبور أم بيوت . فأثبتنا لها بحجج دامغة ان هذه المغارات قصور وليست قبورا .
فتساءلت اخيرا : ماذا تقول في النصوص التى قرئت مرارا وحللت وفسرت وترجمت الى اللغة الفرنسية . فقلنا : ان صور النصوص غير موجودة بين أيدينا فكيف نقـــول شيئا عنها ، بل اننا نظن ان الغربيين قد اخطأوا في القراءة خاصة في كلمة (( قصر )) فقرأوها (( قبرا )) لان الفرق بين شكل الصاد وشكل الباء في الخط الثمودى كان ضئيلا جدا . فأخبرتنا الدكتورة بأن عندها كثيرا مـــن الصور لنصوص مدائن صالح ووعدتنا بأن ترسل لنا بعض الصور في اسبوعين . ثم ذهبت وهى مقتنعة برأينا . والآن قد مضى على سفرها ما مضى ولم يصلنا شئ منها أللهم الا صورة ترجمة بعض النصوص باللغــــــــــة الفرنسية فقط .
وفي غضون ذلك قد عثرنا على كتاب صدر في امريكا حديثا . فوجــــــدنا فيه بطريق المصادفة صورة نص مـــن نصوص مدائن صالح . فتأملنا فيها فاذا بها كلمة (( قصر )) بلا ريب .
وها نحن نقدم هنا نطق السطرين الاولين
بالاحرف العربية ( ونت ، ص ٢٣٧ . رقم ٧٩ ) : ( دنه كسرا دى عبدو منات وهجرو بنى عميرت بر وهبو لنفشهم ويلدهم واحرهم ..
أى : هذا هو القصر الذى ( بناه ) عبد مناة وهجر ابنـــــــــا عميرة بن وهب لانفسهما واولادهما وذريتهما ..
وكلمة (( كسرا )) دخيلة من اليونانية . وقد قرأها ساوجنـــاك SAVIGNAC (( كفرا )) وعبر عنها (( بقبر )) ( TOMBEAU ) بدون سند قديم او جديد . وكلمة (( كفر )) معناها : قرية صغيرة ، وضيعة ، وقطعة أرض فيها منزل ( انظر دلمن DALMAN : قاموس الارامية ، غوتنجن ٢٠٣،١٩٣٨ ) . والواقع ان هذه الكلمة ليست بفـــــاء ، لأن الفاء كما ورد في الكلمة الثـــــالثة من السطر الثــــــاني : (لنفشهم) أو كما ورد في الكلمة الثانية من السطر الثامن : ( كسف ) مختلفة جدا عن السين التي جاءت في (( كسرا )) .
ومن العجيب أن يقرأها الغربيون (( قبرا )) لان كتابة كلمة (( قبر )) في الخط القديم هذا
كانت هكذا عليه vp أو vp (انظر ونت : ANCIENT RECORDS eid & WINNETT
ص ٢٣٥ ، رقم ١٢٦ ، وص ٢٣٦ ، رقم ١٦ بالترتيب ) . فيظهر ان حرف القاف المنقوط قد كان موجودا في لغة اصحـــاب النصوص وكتابتهم .
واخيرا يسعدنا أن نساعد اخواننـــــا وزملاءنا الباحثين عن الاثار القديمة في قراءة النصوص أو النقود الجميرية أو السبائية أو النجدية أو الحجرية اذا تعذر عليهم قراءة بعضها أو كلها . وقد من الله علينا بمعرفة قراءة هذه النصوص القديمة ، كما وفقنا الله بالعثور على زلات ساوجناك SAVIGNAC وبيستنBEESTON وجام JAMME فلله الحمد . حدة
