( فصل مقتطف من الكتاب المخطوط " فى جنوب المملكة العربية السعودية " لمؤلفه طلعة بك وفا المفتش العام للأمن العام وقد آثر به مجلة المنهل . والأستاذ طلعة بك وفا علاوة على منصبه الاداري يعتبر في طليعة الباحثين بما بسطه من تاريخ غامض لجنوب المملكة ) .
نجران قطر معروف فى الجنوب الشرقي من جزيرة العرب ، وهو واد مستطيل يبلغ طوله من الشرق الى الغرب نحو خمسة وعشرين كيلو متراً وعرضه من الشمال الى الجنوب من الفى متر فى بعض جهاته الى خمسة آلاف متر في البعض الآخر
ويبتدىء هذا الوادى من شرقه بنخيل يسمى ( آل منجم ) و ( رجله ) ويلتهى في غربه بنخيل آخر يقال له ( الموفجه ) و ( شعب البران ) . ويحده من الشرق (المهمل ) فى الربع الخالي ، ومن الغرب قبيلة سحار الشام ، ومن الشمال قبائل وادعة فى ظهران ، ومن الشمال الشرق قبائل قحطان ، ومن الجنوب قبائل وائلة
وهو موطن لثلاث قبائل عربية أصيلة تمت بالنسبة الى يعرب بن قحطان وهى : آل فاطمة ، وكبيرها ابو ساق . جشم ، وكبيرها ابن منيف . مواجد ، وكبيرها ابن نصيب . ويجمعها اسم ( يام ) ، ولعله ولد من اولاد يعرب .
وهذه البلاد خصبة جدا ، وتمتاز بكثرة نخيلها الذي يكاد يكون نماؤه عادياً ( بدون تنمية زراعية ) . أما سبب هذا النمو العادي فهو اهمال
السكان للتلقيح ولفصل صغاره بعضها من بعض وتركه ينمو كما يشاء . فاكثر هذا النخيل ينبت من النوى الذى يلقيه الأهلون على الطرقات عندما ياكلون التمر ، لا بطريقة الغرس .
ولهذا تجده ضعيف الثمرة ، قليل الانتاج على رغم كثرته بسبب تضايق النخلات لتزاحمها الناشئ عن أن بعضها الى جانب بعض ، فالنخلة وصغارها لا ترتاح - عادة - ولا تنتج الا اذا فصل الصغار عن اماتها ، وهوامر مشهود فى اماكن زراعة النخيل ، ويبلغ عدد النخيل فى نجران نحو خمسين الف نخلة .
وليس النجرانيون والياميون أهل فلاحة ولكنهم أهل حرب وغارات تعودوا الغزو ، فقد كانوا فيما مضى يشنون الغارات على القبائل المجاورة ، كقبائل وائلة ، والكرب والصيعر ووادي الدواسر وقحطان ، ويشتبكون معها بصورة دائمة فى الحروب ، وهم يقطعون المسافات الطويلة الشاقة فى سبيل الكسب والغنيمة ، فكانوا إذا أرادوا غزو قبائل الصيعر مثلا امتطوا ابلهم واصطحبوا معهم ما يكفيهم من الماء ذهابا وأوبة ولما كانت الطريقة التى بينهم وبين هؤلاء قاحلة فقد كانوا يدفنون فى الرمال عند ذهابهم عددا كافيا من القرب الممتلئة بالماء ، ويسمون مواضع دفنها بالعرق ، وينسبونه الى صاحبه فيقولون هذا عرق فلان ، حتى اذا ما عادوا من الغزوة فائزين وأراد المسلوبون اللحاق بهم عجزوا عن تعقيبهم مسافات طويلة بسبب قلة الماء بينماهم يجدون طلبهم من هذا الماء فيما كانوا كنزوه قبل أن يذهبوا ، وهي خدعة من خدع الحرب ولم يقتصر الياميون على حرب جيرانهم البعيدين والقرباء ، فكانوا يوالون الاغارات العظيمة بعضهم على بعض ، فنشأ من هذا عدم استقرار العمران فى بيوتهم ، وعدم انتظامها ، فلا يرى الرائي فى وادى نجران إلا بيوتا متفرقة هنا وهناك على طول الوادى وعرضه ويتألف بعضها من ست الى سبع طبقات ، وبعضها الى عشر طبقات ، وكلها مبنية بالطين بطريقة المداميك ، ودرجها يشبه درج المنارة ، ويقوم كل بيت من هذه البيوت كأنه حصن منيع يسوره سياج يضم البئر المعدة لسقي الزرع احتفاظا بالماء واستعدادا لمقاومة المهاجمين من جيرانهم .
وعادة الا غارة هذه جعلت الياميين لا يتلفتون الى استصلاح النخيل وتحسين طريقة استثماره اكتفاء منهم بالاغارة كسبب للرزق رغم ان اراضيهم جد خصبة وكثيرة المياه ، فلا تحفر أي موضع شئت من وادى بجران الى عمق مترين او ثلاثة حتى تجد الماء يتدفق بغزارة كأن الوادي كله عبارة عن نهر عظيم تكسوه طبقة كثيفة من التراب .
ويعهد الياميون الى خدمهم من العبيد بزرع الحبوب كالشعير والحنطة والذرة فيقوم هؤلاء بالبدر والسقى والحصاد اخيرا . وبرغم صلاحية الاراضى النجرانية لزراعة كثير من الفوا كه والبقول فان هذين النوعين من النبات مفقودان هناك . وكل هذه الادلة فى مجموعها تعطيتا صورة صادقة لصدود اليامي عن الزراعة مع امكانها فقد جرب بعض الموظفين زراعة بعض الفواكه كالعنب والرمان والبطيخ وبعض البقول والخضروات كالقرع والبطاطس والخيار والملوخية فصلحت .
ويعتمد الياميون فى غذائهم على اللحم والحبوب والتمور فقط وكانوا حتى بعد أن ضمت بلادهم الى المملكة العربية السعودية لا يأكلون الارز وبعضهم لا يعرفه فقد صادف ابان اقامتى هناك آن اعطى طاهينا بعض الفقراء منهم لحما وارزا فاخدوا يبعدون الارز عن اللحم ويأكلون اللحم وحده . ومن اكلاتهم الوطنية المشهورة ( القعنون ) وهي عبارة عن عصيدة ممزوجة بالسمن ، ولا يقدمون لضيفهم ( رأس الخروف ) لانهم يعتبرون هذا اهانة له لان الرأس لا يأكله احد غير الخدم والعبيد . وهم يكرمون الضيف احسن اكرام ويبالغون فى ذلك
وطقس نجران جيد معتدل فلا الحر مشتد فيه ولا البرد ولكن جودته هذه مقيدة بغير ايام مواسم الامطار فان الامطار اذا كثر هطولها تكثر المستنقعات حيث تتفشى الملاريا وهم يسمونها هناك ( السدم ) واذا اتفشت هرب السكان الى سفوح الجبال وإلي شعيب يقال له ( نهوقه ) او الى مكان يقع فى جوار قرية الاخدود حتى تجف المستنقعات وتخف وطأة الملاريا .
ولكن بعد ان جهزت حكومة جلالة الملك البلاد بالأدوية والوسائل الصحية والأطباء تحسنت الحالة كما الصرف السكان بعد ان شملهم حكم جلالته الى استثمار اراضيهم فاخذوا يحفرون الأبار الكثيرة ويهتمون بالزارعة وساد الأمن بينهم واستقروا فى اماكنهم واخذ العمران ينتشر فى طول البلاد وعرضها وقد شيدت الحكومة قصرا كبيرا اشبه بثكنة عظيمة فى مكان يقال له ( السعود ) وربما سمي هذا المكان باسم الجد الأول للعائلة المالكة حين افتتاحه ذلك القطر ، ويضم هذا القصر مكاتب الحكومة بما فيها مصلحتا اللاسلكى والصحة وهو مؤلف من طابقين وفي وسطه ميدان فسيح جدا وبئران غزيران . ( لها بقية )
