ذات سحر بعد ليلة قلق وتهجد وتفكير ، طفق الشيخ يجوب السواحل فاذا هى كالقفر او تكاد . . الى صمت منغوم مثلقل بالندى ، وهمهمات الموج الخافتة على الرمال . فتمشى واذا به لا يعى من وجوده حسا ! ؟ . اندمج فى السكون فى شبه عناق مع الابدية ، وجاب فى سرعة الخيال بيد الزمن ، فاذا فى الذهن اساطيل الى الساحل ترمى المحاربين وفيالق من البر الى البحر ترد جاحافل الغزاة واذا عذارى وقعن الى البحر فى عراء فالموج والشعر الفاحم سنابل قمح ومناجل فى سنفونية حصاد . .
وعند بقايا مسرح (( أنطونيوس )) بقرطاج توثب الماضى امام الشيخ فى رعونة هازئه بالفناء ؟ ! فاذا المسرح فى حياة وفن وبلاغة وموسيقى . . والشعب فى مآدب باخوسية والابصار الى المسرح والممثلين مشدودة والبحر يردد فى الاعماق مقاطع من تمثيلية قرطاج العظيمة فيتعانق الموج فى سحر ليوقع على الصخور فواصل الموسيقى . . فالبحر والمسرح فى شبه زحام ؟ ! كل يحاول استدراج المجد وهزيمة الزمن . . فود لو انحاز الى المسرح على البحر فى محاولة لكسب الخلود . . تعصبا بشريا مشرفا . ؟ ! فالبحر والسرح صراع المحدود يتطاول ويتكبر ، ويعاند ويقهر ، وفى نهاية الصراع الى الانهزام يكون مر المآل ! ؟ وروعة اللامحدود يبدو حينا ثم يتراجع ، . ثم يعن أشد قوة وهولا ، زمنا طويلا يحسب معه ان الخلود محتمل وان الحرب سجال ! ؟ فاذا فى النهاية يكون انتصار النواميس واذا الانسان انسان والاله اله ! ؟ . .
فتعمل الريح والمطر والهواء فى الجدران والرخام فتصغر وتندك وتتآكل فتندثر ويحتويها الفناء واذا البحر باق مزبدا مهددا متوعدا .
ويتقدم الشيخ فى حلم واع الى زروق ثاو بالضفاف ، فاصبح اهله وسألهم رفقة وتلطف فى السؤال والح اذ القى فى روعه انهم من جزيرة الشمس المشرقة قادمون . . فانكره البعض نكرانا فتلهف وناشد وزاد الحاحا فى السؤال والقى اليهم انه فى هذه الربوع زائر لا غير وقد طال مكثه فاستحال شرودا ووحدة وتمزقا . . فهو يخشى ان يكون ضياعا . . ويقبل الشيخ رفيقا ويصعد الزورق فاذا ربان اسمر حاد النظرات ذكى ، وشيخ جالس الى كتب ومصاحف ينظر فيها ويكتب فهو منها والى الورق فى أخذ وعطاء ، والى جانبه شابة سمراء اعجبه فيها جسم ناحل كطيف وشعر غزير كغابة ولمعان فى عينيها غريب وهى مع خالص جمالها من الخفر والحياء كمريم الى جذع النخلة اذ جاءها المخاض ولا بعل . .
تشاغلت عن القوم بطائر هو فى الطيور عجيب الامر والشان ؟ ! يبدو وهو الطليق الى جانب الكتب فى استقرار ابدى يفتح جناحيه الى السماء بعيدا لبعض شأنه ويعود . . استقر على صدر الزورق وجهته الشرق يسوى ما نفش الهواء من ريش الصدر والحناحين فى دعة واصرار غريبين ولا أكل ولا قوت الا ما وجد فى اشعة الشمس والقمر والهواء من متاع ؟ ! . . فهو كطائر (( الفينيكس )) صمودا وولعا بالشمس والاشعة ! . .
ويحرك الربان المجداف وما تلكم بغير (( صدق الله العظيم )) اذ سمع المؤذن يدعو لصلاة الفجر فانزلق الزورق على صفحة الماء كدمعة على وجنة او قطرة ماء على زجاج . وينشر القلاع فيستسلم للريح اللينة الرخاء والمجذاف الناعس يحتضن البحر ويعب المدى فيحتويه الضباب واليم . . فهو فيهما زمنا والرحلة روعة ولذة ، انطلاق من التراب وافلات منه ، واندماج شيق مع الفضاء والبحر ، وتطابق تام . . اكتمل التجانس بين الزورق والبحارة ، والطائر , والفتاة ، والكتب ، والمصاحف ، فى الاعماق تحت اختلافات السطح الزائف ، فما عاد حيوان وجماد وذكر وانثى ، وبحر وزورق و حبال . . الكل فى الكل مفرغ والجزء بالجزء متصل . فاذا المحدود يتحامل على نفسه ويجهد ويتخلص من أثقاله وبنصب للاندماج بالكل والانصهار فيه . واللا محدود يفسح له لديه مكانا كما يفسح الماء لبعض الذرات فيحتويها ولا زيادة ولا نقصان ولا تصدع . . آمن الكل بانهم بين البحر والمجرات والشموس فما امتدت لهم اعناق الى ابعد . . لم ترعهم معرفتهم انهم مع الفناء على موعد واليه المآل . . فالفناء لديهم طهارة ونقاء وطريق الى الخلود . . فهم فى زورقهم فرحة دائمة وحاة متواشجة متناغمة كخبوط فى نسيج او الحان فى سنفونية من سنفونيات (( بتهوفن )) الاصم او حتى حجارة منحوتة فى قوس نصر رومانية قديمة . . كانما انتفي الهم وصفا الذهن وآمن القلب وفاض حبا فمات العداوة وقبر الخوف ؟ ! .
واذ هم من الفرحة فى أقصاها تكشف لهم الضباب عن جزيرة كانما استقرت السحب فوقها فعكست عليها ضلالا وحجبت نورا ، فهى كالظلام الا ما تنيره أشعة الشمس الأصيل ، فتحمس الكل للفتح والغزو واشتدت عزائمهم وتوترت أعصابهم كالمستشيط غيظا ، او القرصان يرى سفينة تغص بالمتاع ؟ غير ان الشيخ هون عليهم امر الفتح باديا فى ذلك ناصع الحجج ودامغ البراهين ، فهدؤوا اذ آمنوا بان هذه الجزيرة سوف تسللس لهم قيادها فيحتلونها بدون جهد ولا اعياء . . وبدت لهم عزلاء متعطشة الى الفتح فى شئ من التخوف والحذر كالانثى تلهبها سياط الغريزة فتبدو مشتهية وتابى ، ومتخوفة ولا تمانع . وينزل البحارة فيترجلون ضحل الماء الى الصخور يبغون الى القرية مسلكا على ضوء مصابيحهم . . فيهرع القوم اليهم رافعى الايدى استسلاما واحتماء فيطلبون عونا على وحش هائل سيطر على جزيرتهم منذ سنين اذ كانوا فى غفلة من امرهم عنه فى شبه خصام ونزاع بينهم وما فتئ يحجب الشمس ويذر الرماد فما استطاع نفر التطلع الى اعلى . . فهم لا يعرفون ان كان للشمس
شعاع يغزل الذهب وللقمر جدائل من لجين ، هم كالخنافس تمشى فى الظلام لتجد الفضلات وتمارس الغريزة عنوة وقهرا . . فاستبد بالضعيف الخوف وبالقوى الجشع . . ويتوافد القوم افواجا لنفس الغاية ونفس الدوافع . . حتى شكلوا حلقات على الضوء كما يحوم الفراش . فينظمهم البحارة فى طوابير كفيالق المشاة ويمكنونهم من السلاح فاذا الحجارة والكتب والمزاريق والاقلام والسيوف والمصاحف والحراب والحبال وحتى الرؤوس والمناكب والايدى تتآزر وتتساند فى حرب سموها الحرب الشريفة شنوها بضراوة وبسالة على الوحش حتى سملت عيناه وانهدت قواه وخار وفقد توازنه فترنح كمن لعبت براسه خمر ثم سقط وارتطم بالصخور فقدت الاضلاع وارتهكت المفاصل وسالت الدماء فتضرج الماء والتراب والقوم فى عنفوان نشاطهم يدفعونه الى الاعماق دفعا تحسبهم جماعة من النمل تدفع جثة صرصار الى الخلية حتى اوردوه اعماق البحر وليمة فاخرة للتماسيح والاسماك والكلاب . . فتعم الفرحة القرية والمساكن والجبال ويفقد الجبل الشاهق وعيه فيترنح كمن ثمل حينا ثم يندفع فى الجموع خطيبا مباركا نضال الرجال والنساء والفلك والرووس والبحارة والطائر ويختم خطابه : هكذا الحرب وحدة او لا تكون ! ؟ باركوا الطائر العجيب الذى سمل اعين الوحش بالمنسر فأفقده الوعى وابقى عليكم احياء اذ لولاه لرمى بكم الى الاعماق وما استطعتم له فتيلا . . (( فينتظم المحاربون جميعا فى صلاة ودعاء ثم يتفرقون كل يصف البطولة ويعيد مشاهد الصراع وقد وحدت بينهم الحرب الشريفة . . ويعود البحارة الى زورقهم وعند جبل مطل على الشاطئ يقفون باتجاه القرية وطائرهم يرفرف فوقهم يلوحون بتحية اخيرة لرفاق السلاح والبحر والمصير ؟ ! ثم يهبطون ويميل الشيخ الى جاره ويقول فى أسف :
هؤلاء القوم وحدتهم الحرب . . صهرت فردياتهم فى أتونها فكانت القوة والوحدة والجمال ! ؟ فما اروعهم ينسون بطونهم وظهورهم ومشاكلهم الخاصة ويتازرون . . انهم جياع . . ولكن ما أصلبهم جياعا عراة آمنوا بوحدة المصير ولكن واأسفاه ؟ سوف تدب الاحقاد بينهم وتنشأ الخلافات من جديد . سوف يستيقظ فيهم - الانا - الفرد ولسوف يختصمون لان الوحش ترك لهم المشاكل والفوضى اذ علم انه سيترك الدفة يوما . . فهم سينقسمون على انفسهم ويتراشقون التهم والشتائم حتى الاعناق . . يرمى البعض البعض بالعمالة للوحش ويدعى البعض انه أشد حماسا من غيره فى الحرب وانه دفع من ماله ودمه وصلبه ثمنا للنصر وسيطالب ببقية الحساب ويحبه الملاح فى ابتسام الواثق المؤمن : (( اعلم ان كل ذلك سيكون . . وسيشتد ويقوى زمنا يكون الاعتقاد فيه بان التئام الشمل محال . . انما هو باق حتى تبعثر المعارك والايدى اكوام الرماد ترميها الى الريح والبحر . . ويومها فقط ستصفو الارض وتشرق الشمس ساطعة وينتفى للظلم كل احتمال . . اما الان فلا لوم على هؤلاء القوم فهم ما زالوا تحت اشعة نجمة الصبح وبعد حين ستشرق الشمس .
