يذهب الباحثون فى تطور الفكر الانسانى ، الى القول بأن الانسان خضع فى نظرته الى الوجود فى مختلف مستوياته الى أنماط ثلاثة من الفكر والمنطق هى ما يعبر عنه مثلا عند أوغست كونت - 1798 ) Auguste Conte 1857 ) بقانون المراحل الثلاثة .
1) التفكير الاسطورى وأساسه المنطق العاطفى والانفعالية التى تقوم على الاحاسيس والمشاعر مما يجعل الانسان لا يرتقى الى مستوى تحكيم عقله عند التمييز بين ما هو صادق وما هو كاذب ، أو بين الوهم والحقيقة .
2) التفكير الفلسفى وأساسه المنطق العقلي الذي يقوم على تحكيم الحجة البينة الواضحة من أجل التمييز بين الصائب والخاطئ ، بين الحقيقة والمظهر
3) التفكير العلمى الوضعى وأساسه المنطق التجريبى والرياضى وهو لا يعتمد العقل المجرد وحده فى ادراك الوقائع المادية والطبيعية ، بل يتخذ من العمل أساسا لمعرفة أهمية الحقائق وجدواها فى الحياة العملية والعلمية على السواء .
الا أنه يجب التنبيه الى أن هذه الانماط ليست ذات ترتيب ميكانيكى ولكنها فى علاقة جدلية اذ تتولد عن بعضها بعض وتؤثر فى بعضها بعض . بحيث لا نستطيع أن نقول إن عهد التفسير الاسطورى للأشياء أو عهد التفسير الميتافيزيقى للأشياء قد انتهى الآن ولم يعد موجودا غير التفسير العلمى المحسوس للأشياء والظواهر ، بل الملاحظ الى يومنا هذا بقاء الاسطورة
تفعل مفعولها فى ذهن حتى عالم الفيزياء النووية او التشريح والبيولوجيا ، فهو عالم ما دام فى مخبره يجرى التجارب ويدرس ويراقب ، فاذا خرج الى الشارع أو المنزل أو الحياة العامة عاد الى الخرافات والاساطير التى سمعها من جدته أو أمه أو جده وكأن العلم لا يتعدى حدود المخبر أو المعمل أما الحياة فى أوسع معانيها وفي مختلف أنشطتها الانسانية فيجب أن تكون مرتع الاوهام والاشباح وقد لاحظ أحد كبار مثقفينا العرب ، الدكتور زكى نجيب محمود فى كتابه " تجديد الفكر العربى " هذه الظاهرة التى تدعو الى الرثاء فى مجتمع يريد لنفسه النهضة والخروج من عصور الانحطاط والظلام والجهل فقال " ليست الاحداث عندنا مرهونة بأسبابها الطبيعية الا ونحن في قاعات الدرس بالمدارس والجامعات ، حتى اذا ما انصرف كل منا الى حياته الخاصة فى داره أو فى المجتمع أفسح صدره لكل خرافة على وجه الارض يقبلها راضيا مغتبطا مؤمنا مصدقا . واذا كان هذا شأن العلماء منا والدارسين فماذا نتوقع لشأن سواد الناس أن يكون ؟ . . . . " (1)
ثم يضيف " الفرق بين السحر والعلم هو هذا بعينه وليس أى شئ سواه ، فالسحر والعلم كلاهما محاولة لرد الظواهر الى عللها وأسبابها ، غير ان الساحر لا يقلقه أن يرد الظاهرة البادية للعين الى علة غيبية ليس فى وسع الانسان أن يستحدثها أو أن يسيطر عليها ، وأما العالم فهو لا يقر نفسا الا اذا رد الظاهرة المحسوسة إلى علة محسوسة كذلك ليمكن بعد ذلك أن نوجد هذه العلة المحسوسة فتتبعها الظاهرة اذا أردنا .
فالساحر والعالم يقفان معا الى جانب المريض ليعملا على شفائه ، فأما الساحر فيرببط الظاهرة المرضية بالجن والعفاريت ، وأما العالم فيربطها بجرثومة معينة . . . " (2)
واذا كان الدكتور قد أورد هذا المثال المادى المحسبوس فلنا أن نورد مئات الامثلة فى مجال النشاط الانسانى بأنواعه : اقتصادى ، سياسى ، اجتماعى ما زالت كلها تخضع فى الوطن العربي الى التفكير الاسطورى والسحرى ، فقد فسر بعض علمائنا الاجلاء نكبة 1967 بأنها غضب من الله محاولين بذلك التخلص من مسؤولية الانسان فى الحياة . وقد أوردت جريدة الاهرام
المصرية صورة فوتوغرافية فى صفحتها الاولى للسيدة مريم العذراء سنة 1968 على اعتبار انها ظهرت كعمود دخان فى بيت المقدس (3) . فماذا بعد هذه السخافات غير البلاء وراء البلاء .
وانها لمفارقة عجيبة أن يجتمع بكل وضوح التفكير الاسطورى والعلمى خاصة عند المتخصصين فى العلوم الطبيعية بأنواعها والعلوم الرياضية ، أكثر مما يلاحظ عند الدارسين للعلوم الانسانية بل حتى المتخصصين في الدارسات الدينية . ويمكن تفسير هذه الظاهرة العربية العجيبة بأن دخول المنهج العلمى الى الدراسات الانسانية ، التى هى الصق بالانسان وثقافته وتاريخه وكل موروثاته الفكرية والعاطفية له تأثير فى تحديد النظرة الى الكون والانسان والمجتمع . ان دخول المنهج العلمي القائم على الشك والتمحيص لكل الموروثات ، مهما كانت قدسيها وجلالها قصد اعادة بنائها بناء منطقيا عقليا يكسب الانسان الجرأة والشجاعة على التجاوز الدائم للماضى والانفتاح الدائم على المستقبل ، وذلك هو منطق التطور التاريخى الحتمى .
ولعل هذا ما جعل طه حسين يتعرض لتلك الحملة المسعورة من أعدائه ، وغيره من العلماء فى القديم ( كابن رشد ) والحديث ، حتى أوصلوه الى المثول أمام المحكمة بتهمة المروق والطعن فى المقدسات ، لا لشئ الا لكونه أدخل المنهج العلمي فى دراسته الادب والتاريخ الاسلامى . وليس حال على عبد الرازق بأحسن من حال طه حسين عندما كتب كتابه عن الخلافة الاسلامية وأصول الحكم أو الحداد فى تونس عندما كتب عن المرأة .
وهكذا يكون تدريس العلوم الانسانية من أوكد الواجبات لنهضة حضارية اساسها العلم والعقل والايمان بقدرة الانسان - خليفة الله على الارض - على صنع مصيره حتى بالنسبة لاولائك الدارسين للعلوم الصحيحة .
انه لمن أوكد الامور أن نفرق بين " العلم " و " الاسلوب العلمى " أو "التفكير العلمى " فــ " العلم " ليس هو " الاسلوب العلمى " فى البحث ودراسة الظواهر سواء كانت مادية طبيعية أو انسانية حضارية . فكل " علم " يتحدد بـ " موضوعه " أما الاسلوب فيتحدد بـــ " المنهج " وشتان بين هذا وذاك .
خصائص العلم :
1) لكل علم موضوع محدد . 2) كل علم يهتم بناحية معينة من الواقع فيحصر اهتمامه بها وحدها . 3) لا يستطيع أن يرغب فى معرفة غيرها الا بصورة ثانوية . 4) كل علم يستخدم طرقه وأساليبه الخاصه به .
6) كل علم يحاول أن يجعل المعرفة الموضوعية للواقع على مقدار كاف من المطابقة المستمرة والمتزايدة رغم العراقيل والصعوبات ، ولذا فهو حاضع للمراجعة دائما فى مواقفه ونظرياته كلما جد جديد .
7) لكل علم مصطلحاته ورموزه .
واذا تجاوزنا هذه الحقائق التى يصل اليها العلم فى مختلف فروعه على أساس أنها مفردات جزئية لنبنى منها ومن نتائجها خلاصة جامعة نكون أمام التأسيس النظرى الفلسفى العلمى أو باختصار أمام " فلسفة علمية " . ولهذا بالذات يطلق على الماركسية مثلا بأنها " فلسفة علمية " ويطلق على " الوضعية
المنطقية " بأنها " فلسفة علمية " أيضا . واذا كان لابد هناك من نقد فهو يجب أن يستهدف مدى " علمية " أى منها . فما تقرؤه عادة من نقد لهذه الفلسفة " العلمية " خاصة بالنسبة للماركسية انما هو نابع من مواقف اديولوجية وليست علمية ، يمكن أن ترجع الى :
أ) الانتماء المصلحى الطبقى . ب) الانتماء القومى والوطنى . ج) الانتماء الدينى .
وطبيعى جدا لانتماءات كهذه أن لا نكون قادرة على النقد العلمى الصادق وان كانت صادقة فى تعبيرها عن انتماء أو موقع (4) . ولكن الوصول الى هذه الدرجة من التعميم لنتائج العلوم هو بعينه الجهد الثقافى التنظيرى الذى يحتاج الى اطلاع واسع ومواكبة لتطور البحث العلمى فى مختلف المجالات ، وهو ما يفتقر اليه الفكر العربى الحديث وبوصوله الى هذه الدرجة يمكن ان نقول إنه دخل مرحلة الابداع الفكرى . ولا شك أن هناك محاولات تبشر بخير فى هذا المجال من المفكرين العرب الموسوعيين .
المنهج العلمى أو الاسلوب العلمى :
1) يتحدد بشموله للظواهر الطبيعية المادية والانسانية ولذلك فليس من العلم فى شئ أن يشمل ميدانا دون آخر ، فيصطنع فى بعض العلوم ، ويترك فى بعضها الآخر وهى الدراسات الانسانية . ان " المنهج العلمى " لا يتعدد وان بدأ كذلك فهو واحد لا يتجزأ " واذا كان الباحث فى العلوم الطبيعية أو الرياضية يصل إلى نتائج صحيحة فى دراسة ظاهرة ما بالملاحظة والتجربة ثم التقنين فالدارس للعلوم الانسانية يتبع نفس الاسلوب مع الفارق حين يجمع معلوماته ويصنف ويقارن ثم يفسر وينظر " (6) . أما بقاء نظرية ما هو
مرهون باحاطتها بقوانين حركة التطور وبحدوث متغيرات تتعدل النظريات فى ضوائها أو تذوي تاركة لغيرها المكان لانها اكثر قدرة على استيعاب الواقع ومسايرتها له .
2) يتحدد بكونه لا يعتبر أن كل شئ جائز حتى ما لا يقبله المنطق والعقل وسنن الكون ونواميسه ( فقد اشترط علماء الحديث من المسلمين قديما بأن ما لا يقبله العقل أو الواقع فهو مردود باعتباره من الاحاديث الموضوعة التى لم تصدر عن الرسول عليه السلام )
3) الايمان بالسببية والحتمية : ان البعض يلفظون بكلمة علم " كما لو كانت شبحا مسلطا على الانسان لا يستطيع الاقتراب منه الا وفى يده شهاده من احدى كليات العلوم " . والحقيقة أن الانسان يعرف الاشياء معرفة تلقائية عن طريق ما تنقله الحواس اليه من سمع وبصر ولمس الخ ... ولكن مثل هذه المعرفة هى معرفة تسجيلية للوقائع الموجودة لا ترتقى الى مرحلة الادراك لماذا يسقط هذا الشئ ؟ ولماذا من أعلى الى أسفل ؟ اذ لا وجود لحاسه تقوم لذلك يسقط هذا الشئ ؟ ولماذا من أعلى الى أسفل ؟ اذ لا وجود لحاسه تقوم بهذه الوظيفة التعليلية . ولو وقف الانسان عند هذا الحد لكان شأنه شأن الحيوانات ، اذ لها حواس مثله ، أو آلة تصوير ، لانها تسجل ما يقع أمام عدسها بكل أمانة ، ولكن الانسان باعتباره " مادة وذكاء " فهو الكائن الذى يتدخل اراديا فيراقب تتابع الظواهر وتكرارها ، محاولا الربط بينها ، أى ادراك العلاقات التى تجعلها تقع وتتابع على الوجه الذى تنقله الينا الحواس . ان بلوغ الانسان هذا المستوى من الادراك الواعى يعنى تجاوز المعرفة التلقائية إلى المعرفة العلمية فى أسبط صورها . واستطاع الانسان بذكائه أن يكمل نقص حواسه الخمس بما اخترعه من آلات ووسائل ماديه توصل سمعه عبر القارات ، ونظره الى آماد بعيدة . فالبحث العلمى لهذا هو تجاوز الاحساس بالوقائع المفردة الى ادراكها ثم يحلل كلا منها ليكشف العنصر المشترك الرابط بينها والقاعدة التى تضبط حركتها ويصوغ هذه العلاقة فيما يعرف بـ " القانون " La Loi وهكذا يبدأ البحث العلمى بالوقائع البسيطة المفردة لبنتهى الى " قوانين عامة «les lois Generales» والقوانين كلها " شرطية " بمعنى أنه " إذا " وقع " كذا " مثلا حدث " كذا وكذا " فاذا زرع نبات تونس في ثلوج سيبيريا يموت ، وتتوقف فاعلية القانون على شرط آخر مستمد من قانون جدلى شامل هو " التأثير والتأثر " وهو عدم تدخل مؤثر أى تصادم قانون بقانون آخر ، فالماء يغلى اذا وصلت درجة حرارته المائة مثلا
بشرط ثبات الضغط الجوى . ولا تتضمن صياغة القانون عادة " إذا " هذه أو " بشرط " ولكنه يتضمنها باعتباره قانونا . هذا هو التفكير المبنى على الايمان بالسببية والذى يعرف بالتفكير العلمى (7) . بحيث يجب أن لا نجعل منه شجا مخيفا غامضا . ولقد كان الانسان منذ وجوده على هذه البسيطة يفكر علميا بهذا المعنى ، ولو أن درجة معرفته العلمية بدأت ضيقة مشوبة بالخرافة والبساطة ثم تطورت شيئا فشيئا اتساعا وعمقا وشمولا وما زالت تسير فى هذا الخط المستقيم التصاعدى . فمنذ أن كان الانسان يبحث عن طعامه فى الغابات أو يبنى كوخه على ضفاف الانهار ، ويحفر كهوفه فى سفوح الجبال عرف - وهى معرفة علمية - أنه بدون طعام يموت وأن الزرع لا ينبت بدون ماء ، وأن الماء لا يجرى الى أعلى قد يبدو لنا نحن أبناء العصر هذا ساذجا لاننا عرفنا الكثير عن طريق البحث العلمى المنظم والمقنن فى قواعد وضوابط " ولكن ليس معنى ذلك أن التفكير البدائى لم يكن تفكيرا علميا .
ان البحث العلمى أو المنهج العلمى في البحث يقوم اساسا على وجود قوانين موضوعية - كلية أو نوعية (8) تحكم الظواهر والأشياء والانسان نفسه . وان وجودها هذا لا يتوقف على الانسان أى لم يوجدها ولا يستطيع تغييرها - فان أدركها فقد أدرك واقعا موضوعيا وان لم يدركها فهى موجودة - فحتى ارادة الانسان لها قوانينها لا تفلت منها حتى وهى تغير العالم . لا شئ يقع للصدفة أو الحظ لان الضرورة " انتظام الظواهر والأشياء والنشاط الانسانى على مقتضى قوانين حتمية ضرورة موضوعية " ومهما كانت قدرتنا على ادراك تتابع الظاهرة او ادراك جانب منها لا يمكن القول بأنها تحققت صدفة على غير ما تقتضيه القوانين التى تحكمها وتحكم أسبابها المعروفة وغير المعروفة ، لان " المعرفة " ادراك شخصى قد لا تتوافر أسبابه العلمية فى المكان والزمان بالنسبة الى شخص أو مجموعة من الاشخاص . وجدير بنا هنا أن نتعرض لتحليل مفهوم " الصدفة " (9) لانها تحتل مكانا من بين المقولات
الاخر الكثيرة في فلسفة " علمية " هي الماركسية . يقول الفلاسفة السوفيات المعاصرون ( 39 عالما ) فى كتاب هام اجتمعوا لتأليفه بالتعاون مع بعضهم وصدر سنة 1963 تحت عنوان " أسس الماركسيه - اللينينية " ، ما يلى : وعندما نعترف بأن لكل ظاهرة سببا حتما نكون قد اعترفنا بأن الضرورة تحكم العالم " ثم يضيفون " يوجد بين مختلف الظواهر فى الطبيعة والمجتمع بعض منها لا ينتج حتما من القانون الذى يحكم شيئا معينا أو مجموعة من الاشياء المعينة والتى يمكن أولا يمكن أن تقع بطريقة او بأخرى وتلك هى الصدفة . لقد كانت مشكلة الصدفة محل خلاف كبير . ان المبدأ الصائب القائل بأن لكل ظاهرة سببا فى الطبيعة أو فى المجتمع الانسانى قاد كثيرا من العلماء والفلاسفة الى نتائج غير صحيحة وهى أن الضرورة قائمة فى العالم ، وانه لا توجد أية ظاهرة صدفة وان الصدفة - طبقا لوجهة نظرهم - مفهوم شخصى نطلقه على الاشياء التى لا نعرف أسبابها . ان هذا الرأى خاطئ كلية إذ يخلط بين مفهومين هما : الضرورة Necessite والسببة Couslite صحيح أنه لا توجد ظاهرة فى العالم بدون سبب . وان الظواهر التى تقع مصادفة لها أسباب محددة ولكن هذا لا يجعل الظاهرة ضرورية . خذ مثلا قطارا يخرج عن الخط ويدمر ، قد نعرف أن سبب الحادثة كان عدم احكام ربط بعض القضبان مثلا ومع ذلك فان الحادثة كانت صدفة وليست ضرورة ، لماذا ؟ . . لانها نتجت عن ظروف لا علاقة حتمية بينها وبين حركة القطارات ، ما دام من الممكن فنيا تحقيق الشروط الفنية التى لا يقع معها ذلك الحادث . ان انكار الصدفة موضوعيا يؤدى إلى نتائج ضارة من وجهة النظر العلمية والتطبيقية . ان كل من يرى أن كل شئ ضرورى لا يمكن أن يفرق بين ما هو أساسى وما هو غير أساسى ، بين ما هو ضرورى وبين ما هو عارض كما قال انقلز تصبح الضرورة نفسها على مستوى العوارض . والفهم الصحيح لمضمون الضرورة والصدفة يتضمن بالإضافة إلى معرفة الفرق بينهما معرفة العلاقة بينهما . ولقد عجزت الميتافيزيقا عجزا كليا عن معرفة هذه العلاقة لانها تنظر إلى هذه الضرورة والصدفة كنقيضين لا علاقة بينهما ، وبعكس المتافيزيقيون اثبت الماديون الجدليون انه من الخطأ أن ننظر الى الصدفة على انها نقيض الضرورة ، وأن نراها في عزلة عنها كأولائك الذين يفكرون تفكيرا ميتافيزيقيا ، ولأنه لا توجد أية صدفة مطلقة . هناك صدفة بالنسبة الى شئ ما فقط . انه لمن الخطأ أن نفكر أن الظاهرة اما أن تكون ضرورة محضة او صدفة محضة . ان كل صدفة تتضمن عنصرا من الضرورة ، والضرورة
تشق طريقها وسط ركام من الصدف ، ان جدل الضرورة والصدفة يكمن فى الحقيقة فى أن الحادثة ، تظهر كشكل من الاشكال التى تعبر بها الضرورة عن نفسها ، ومكملة لها ، ولهذا فان الحدث العارض يأخذ مكانه داخل الضرورة "
ان الضرورة تعنى وقوع الحدث بتوافر كل شروطه حتما ولا يهمنا بعد ذلك وقوعه مرة كل يوم أو بعد سنين كما لا يهمنا أن يكون وقوعه " ضرورة اجتماعية اقتصادية " أى بالمعنى الاجتماعى حيث تعبر الضرورة " عن الحاجة اليها "
وليس من الضرورى أن تقع تلك الحادثة التى دمرت القطار واستعمال تعبير الضرورة فى كل هذا خروج بها عن مفهومها العلمى ، فالقطار يدمر حتما اذا ارتطم بالارض طبقا للقوانين التى تحكم صلابة المادة المصنوع منها ويخرج عن الخط حتما اذا لم يكن ربط قضبانه طبقا للقوانين التى تحكم حركته وتوازنه خلال الحركة . أى أن شيئا لا يقع على خلاف ما تقتضيه القوانين التى تحكم نوعه وكل هذا لا يؤدى الى التسليم بوجود الصدفة كظاهرة موضوعية الا اذا ادخلنا عنصر المعرفة فى القوانين الموضوعية فلو عدنا الى حادث القطار وافترضنا أن شخصا ما قد تعمد عدم احكام ربط القضبان عندئذ سكون الحادث بالنسبة له وهو الذى عرف " السبب " " ضرورة " بينما يكون بالنسبة لمن لا يعرف ذلك هو " صدفة " وهذا معناه أن " الحقيقة الموضوعية للظاهرة تختلف باختلاف معرفة الاشخاص لها وتلك هي المتافيزيقا " لانها تنكر أن يكون العالم منضبطا على قوانين حتمية وصحتها الوحيدة أننا لم نعرف بعد القوانين التى تحكم شيئا من الاشياء أو ظاهرة من الظواهر " أى مصادر البحث العلمى بالاحتجاج عليه بما هو مجهول اليوم . " ان القول الذى أورده الفلاسفة السوفيات فى كتابهم المذكور فتح ثغرة ميتافيزيقية لانه شكك فى حتمية القوانين العلمية وفتح الباب واسعا لنظرية " الاحتمالات " و " اللاحتمية " و " الستاتيكية " التى ينادى بها أصحاب الشعوذات " العلمية " وأعداء الفكر العلمى .
4) - ويتحدد بأن كل شئ يقبل البحث العلمى ، فقد كانت كثير من الميادين لا يتطرق اليها البحث العلمى ولكن البحث العلمى سجل فيها نتائج باهرة تشهد عليها الدراسات النفسية والاجتماعية والانتروبولوجية واللغوية وغيرها وأصبحنا نعرف كثيرا من الحقائق فى هذه الميادين كانت فى وقت ما مرتعا خصبا للاساطير والشعوذات والتخريف .
5) ويتحدد أخيرا وليس آخرا بالثقة فى التقدم العلمي ومعرفة الحقائق الموضوعية . وما يعد اليوم مجهولا قد يكشف عنه فى يوم ما . فلم يكن البحث العلمى قبل القرن العشرين مثلا يعرف شيئا كثيرا عن بنية الذرة تركيبها ، فهل أن عدم معرفة الانسان لها قبل ذلك يعنى أن ليس هناك شيئا يقال عن الذرة ؟ .
لماذا الخوف من العلمية ؟
يستند من ينكر العلمية ودخولها ميدان الدراسات الانسانية إلى (10) : 1) تصور امكان التفرقة بين انواع النشاط الانسانى بحيث تطبق العلمية على جانب دون آخر .
2) التشكيك فى قدرة العلم والعلمية على الفصل فى القضايا العليا أو موضوع الدراسات الانسانية . 3) الاشفاق من أن تكون العلمية مصدرا للاذى من جانب والفوضى من جانب اخر لاحتمال أن ينشأ مجتمع بدون قيم انسانية .
وهذا منطق لا يستند الى الموضوعية وليس مقنعا ولا هو قادر على الرجوع بالبحث العلمى الى الوراء لان شغف الانسان الدائم بالبحث وفك الغاز الكون اثبت التاريخ وحركته التى لا تتوقف انه مستحيل حتى فى عصور الانحطاط وهيمنة الفكر الدينى الكنسى في العالم الغربى ( غاليلى ) . واذا كنا نلاحظ افتراق المتخصصين كل فى ميدانه فان النتائج التى يصلون اليها فى بحوثهم تصب بعد ذلك في نهر الحياة الدافق ، وبقدر تأصل العلميه فى عقولنا وامتداد نفوذها علينا يقع انتقالنا الحضارى من مرحلة الى مرحلة أخرى نتخطاها وتتفوق عليها . ان التفكير العلمى هو الذي باستطاعته أن يقرب الشعوب من بعضها بعض وينهى العزلة بينها ويجعل لمفهوم " الاصالة والمعاصرة " معنى منطقيا وعلميا يستجيب لتطور التاريخ الانسانى الدائم والا فقدت هذه الدعوة معناها ومدلولها الذى نطمح الى تأصيله فى نفوسنا فى البلاد العربية والعالم الثالث بصورة أعم . وهذا يدعونا الى الكشف عن كثير مما يقال في هذا الموضوع الخطير مدعيا انه يستند الى العلم والمنطق والحال انه لا يملك فى ، أغلب الاحيان ، شيئا مما يصل به الى ذلك المستوى
الذى نكافح من أجله . أصدر المفكر والفيلسوف العربى الكبير الكبير زكى نجيب محمود في مصر كتيبا تحت عنوان " الشرق الفنان " وقصده ان يقدم حلا لازمة الفكر العربي المعاصرة - والتى نأمل أن لا تصبح مزمنة - تتعلق بمحاولة التوفيق بين " الاصالة " و " المعاصرة " أى الربط بين الماضى الحضاري والفكرى والثقافى المجيد للعرب وبين الحاضر - الغائب الذى يبحث عنه والذى يمثله حاضر الحضارة الاروبية التى غزته فى مختلف جوانب الحياة ونشاط الانسان " انه اجابة على السؤال الكلاسيكى الدائم هل الامة العربية صاحبة حضارة متميزة مستقلة لها شخصيتها وطابعها الذى يختلف عما عند الاروبيين ؟ ثم ما هو مستقبلها ؟ وما مدى قدرتها على الثبات أمام زحف الحضارة الاروبية صاحبة الكلمة الفصل فى هذا العصر ؟"
انه سؤال يلخص الشعور بأزمة حضارية تكمن فى الخوف من الضياع من ناحية والاحساس بالتخلف ومحاولة الخروج منه من ناحية ثانية . وقد كانت الاجوبة على هذا السؤال كثيرا ما تدفع الى مواقف عاطفيه ومضطربة ، فيها من الافتعال الشئ الكثير ، تتأرجح بين أقصى اليسار كدراسات د. صادق جلال العظم ، عبد الله العروى ، الهادى العلوى .... الخ وأقصى اليمين والسلفية كحركة الاخوان المسلمين وغيرهم . (11) ينطلق د. زكى نجيب محمود في تقييمه لهذا الموضوع من من منطلق فلسفى أساسه أن الانسان قد ينظر الى الوجود الخارجى " ببصيرة تنفذ خلال الظواهر البادية للحس الى حيث الجوهر الباطنى " ( ص 130 وما بعدها من كتاب الدكتور عبد العزيز الاهوانى المذكور فى الهامش )
أو " ينظر إلى الوجود الخارجى بعقل منطقى تحليلى يقف عند الظواهر فيجعل من اطرادها وتتابعها قوانين يستخدمها فى استغلال الظواهر الطبيعية على النحو الذي يرتضيه " ( المرجع نفسه ) وهذا هو الفرق بين العلم والفن
ويرى أن الشرق الاقصى ( الهند والصين وما جاورهما ) يتميز بنظرة الفنان الذى يدرك الحقيقة بذوقه وذلك هو " طابعه الاصيل " أما الغرب ( أروبا وأمريكا ) فهو يتميز بنظرة العالم الذى يدرك الحقائق اعتمادا على المشاهدة والتجربة والتحليل والتعليل وذلك هو " طابعه الاصيل " . أما الشرق الاوسط فهو موطن الالتقاء ، عبر تاريخه الطويل ، بين تلك النظرتين فقد تجاور العلم والدين فى حضاراته القديمة كما تجاور الفن والصناعة والاختراع ، وهو بالإضافة الى كل ذلك مهبط الاديان السماوية وقد تحولت العقائد الدينية فيه على يد المفكرين الى بناء فكرى أساسه العقل والمنطق كما تجلى بوضوح عند الفلاسفة المسلمين وعلمائهم . فاجتمع عند هؤلاء نظرة الفنان بكل روحانيتها ونظرة العالم بكل ما فيها من عقل ومنطق يرتكز على التحليل والتركيب والتعليل والاستدلال ولا شك أن الكثيرين وجدوا فى هذا الحل النظرى راحة نفسية وثقة بالماضى والحاضر والمستقبل . ان هذه النظرية التى تجعل من العالم كتلا حضارية ثلاثة متباينة ذات أسس و " طبائع " أصيلة مختلفة وثابتة تقترب من نظريات حضارية اخرى لعلماء غريبين كاشبنجلر ونور ثروب وارنولد تونيبى فعند اشبنجلر مثلا " أن هناك حضارات متعددة تنبثق من معتقد جوهرى أو من رمز أولى خاص بها وهو الذى يعين معتقداتها الاخرى وينظم حياتها وعادات اهلها وعلومها وفنونها وآداباها وكل انجاز من انجازاتها أو مظهر من مظاهر وجودها " (12) ولهذا كانت " خصائص كل حضارة وانفصالها وتفردها عن سواها . كل ما فى حضارة ما هو خاص بها لا يتعداها الى سواها ، وليس هناك نظام سياسى واحد ولا اقتصاد واجتماع واحد ولا عقائد أو سنن أو أخلاق انسانية واحد ولا فنون وآداب واحدة . حتى العلوم تابعة للحضارات ومختلفة باختلافها " (13) والحقيقة أنه حتى وان تعددت الحضارات قديما واستمرت مخلفاتها تطبع بعض شعوب عالمنا المعاصر فليس معنى ذلك أن هناك " طبائع " ثابتة لان العلم يرفض هذه " الطبائع " الثابتة ويؤمن بالتطور وتحرى الاسباب الكامنة وراء ذلك الذى يسمى " طابعا أصيلا " (14) . وما يفسر تعدد هذه
الحضارات هو انعزال المجتمعات قديما وانطواؤها ، بحيث تعددت الانماط الحضارية ، ولكن التقدم العلمى والتكنولوجى الذى أحرزه الانسان قلص من الفوارق " العقلية " وقرب المسافات بحيث لم يعد الانطواء والانعزال يقويان على البقاء طويلا فى مستقبل الحياة الانسانية . انه من المتأكد كما يقول الدكتور عبد العزيز الاهوانى (15) إن هناك نظرة الفنان ونظرة العالم وكلاهما سيعيشان دائما طالما كان للانسان عاطفة وعقل . ان اجتماعهما يكون متوازنا عند الكثرة ومستبدا جائزا عند القلة بحيث نجد العلماء والفنانين وهو أمر واضح لدى جميع الشعوب والافراد في كل المجتمعات ولكن توزيعهما بالشكل الجغرافى الذى ذكره الاستاذ الدكتور زكى نجيب محمود وعدم ذكر الاسباب التى دعت الى هذا التوزيع للملكات الانسانية حسب قارات اربعة ، كان الاساس وراء ضعف نظريته من الناحية العلمية . لو اكتفى برصد الظواهر وتسجيلها دون تعليل أو شرح لكان أقرب الى المنطق العلمى . لانه من حقنا أن نعرف لماذا كان الشرق الاقصى " فنانا " وكان الغرب " عالما " والشرق الاوسط " ثنائيا " ؟ . ان الكشف عن سر ذلك وعلته هو مفتاح لفهم الماضى وبالتالى التحكم فى المستقبل ، لاننا مثلما نؤمن بالتطور نؤمن كذلك بحرية الارادة الانسانية . " ان الانسان صانع التاريخ لا اعتباطا لكن فى الظروف التى يعيشها وتحيط به " . ولا شك أن الدكتور زكى نجيب محمود بتعبيره " طابع الاصيل العميق " كما يضيف الدكتور الاهوانى عند وصف الشرق الاقصى والغرب ثم امتداد الفكرة عنده من الماضى الى الحاضر عبر التاريخ أى منذ فجر التاريخ يؤيد الايمان بما يعرف بــ " الطبائع الثابتة " وهذا يجعله قريبا من نظريات عنصرية ظهرت في الغرب تبرر تخلف شعوب كثيرة - كانت مستعمرة فى وقت ما - بأنه ناتج عن " خلقة وتكوين طبيعي أصيل ، وقد تعرضنا لتفنيد هذه الفكرة من قبل أما هنا فنكتفى بالقول بان العلم والواقع ينكران وجود طبائع ثابتة تظل تلازم الشعوب منذ ظهورها حتى نهايتها لان هذا ينفى أحد القوانين العلمية الجدلية من كون كل شئ متأثر ومؤثر . فليس لدى أمة ما " جوهر فرد " يستعصى على التغيير أو التقسيم . وما دمنا نقول اننا نؤمن بالتطور وبحرية الارادة الانسانية فى
نطاق الظروف الموضوعية ، فانه حين تتغير الظروف المعيشية لشعب تواكب عقليته هذا التغيير وتتبادل معه التأثير . وقد كان ابن خلدون المفكر العربى العظيم أكثر قدرة على ادراك ما فات الدكتور زكى نجيب محمود ودلك حين بين تفكيره الاجتماعي والسياسى المتمثل فى انتقال الشعب من البداوة الى الحضارة (17) ، إذ ان تغير البناء الاجتماعى يؤدى الى تغير نمط التفكير والعكس صحيح ، فحين تتغير نظرة الانسان الى الوجود الخارجى نتيجة لتقدم علمى أو تقنى أو احتكاك بشعوب أخرى تتغير حضارته . هذا وأن نظرة الانسان الى الوجود الخارجى التى تتمحور ، بحسب نظرية د . زكى نجيب محمود ، حول :
1) نظرة حدسية تنتج فنا . 2) نظرة عقلية تنتج علما .
لا تعرض الا جانبا واحدا من الموقف الانسانى كما يضيف الدكتور الاهوائى ( المرجع المذكور ) هو الجانب الذى لا يدخل تاريخ عمر البشرية الطويل في حسابه . لان الادراك الحدسى البرغسونى (18) أو السريالى Surrealisme فى عصر كهذا عصر العلم والتطور التقنى والفنى ، العصر الذى تخلص فيه الانسان من كثير من المخاوف البدائيه ، والأوهام ، والخرافات التى سببها عجز الانسان أمام تفسير ظواهر الوجود الخارجى كما تظهر في الطبيعة والمجتمع ، هو غير الادراك الحدسى فى مراحل الطفولة البشرية حين كان الخوف والعجز والشعور بالضعف أمام ألغاز الكون المبهمة المتقلبة ، أمام المجهول الذي يضفى على الوجود وعناصر الحياة غموضا
ووهما يثير الفزع أو الفرح والانشراح . وما يقال فى شأن الادراك الحدسى أو الاسطورى يقال عن الادراك العقلى والنظر المنطقى التحليلى . فالتصور العلمى للكون وأفلاكه وسماواته ونجومه عند عالم مصر القديمة أو اليونان أو حتى العرب غير التصور العلمى لعالم اليوم . فالعلم القديم ممزوج بالخيال والصوفية التى تحتمها ضآلة المعرفة وقصور تصورها . وبهذا نصل الى القول بأن الادراك الحدسى عند الانسان فى طفولته هو العلم الوحيد . كانت الاسطورة هى علم التاريخ لانه لا يوجد ما يعرف بعلم التاريخ . وفرق شاسع بين فلاح فى بابل أو أشور أو الهند القديمة وهو يسمع أسطورة وبين أسطورة يسمعها انسان اليوم ويعيد كتابتها شخص كتوفيق الحكيم أو لافنتين أو كامى ومارو . فقد كان التفسير الحدسى محاولة لتفسير الوجود وتحديد لمكان الانسان فيه . وكان مرحلة جاء اثرها النظر العقلى العلمى باعتباره تفسيرا للوجود ايضا وتحديدا لمكان الانسان فيه . على هذا الاساس من التفريق بين كل من الادراك الاسطورى أو الحدسى الساذج البدائى المميز لطفولة الانسانية ودوره عند الانسان المتحضر الواعى المثقف . على أساس هذا التفريق يتضح أن تاريخ الحضارة الانسانية يمكن أن ينقسم بصورة عامة الى :
1) مرحلة التفسير الحدسى أو الاسطورى للكون وهي مرحلة حتمها تاريخ التطور الانسانى .
2) مرحلة التفسير العقلى الفلسفى والعلمى وهى المرحلة الثانية التى ارتقى اليها الانسان بعد التخلص من بعض مخاوفه وأوهامه فاذا كان مجتمع من المجتمعات الانسانية مازال يقف الموقف الاول معتقدا أن هذا هو الادراك الوحيد الصحيح فمعنى ذلك أنه ما زال فى مرحلة الطفولة الانسانية أى المرحلة الاسطورية وأن ظروفا خاصة حتمت بقاءه هكذا ، وانه من منطق التاريخ أن يكون عصرنا عصر العقل والعلم والحدس ولن ينعزل الحدس عن العلم في المستقبل ليكون لكل واحد وطن أو مستعمرة خاصة به وان الازمة التى أراد د . زكى نجيب محمود أن يخلص منها الفكر العربى الحديث لا تكون بغير فهم عميق ونافذ لمشكلاته الملموسة الحية ، والمشاركة فى التقدم البشرى والالتحام مع الانسانية فى كفاحها ضد الثلاثى المقيت الجهل والفقر والمرض من أجل عالم أفضل تلك هى أسباب التخلف والاستعمار والاستغلال .
ويبدو ان الدكتور زكى نجيب محمود كان معجبا بالحل الفطرى ، الذى وصلا اله في كتيبه المذكور ، أوقل الحل الايديولوجى للازمه فواصل محاولاته التنظيرية تلك فأصدر كتابه الهام " تجديد الفكر العربى " ، وفيه يحاول تشخيص أسباب التخلف الفكرى والمشكلات التى تواجه هذا الفخر والحلول المقترحة تنظر الى ايجابيات التراث ومكتسبات الحضارة الحديثه ذات العالم الاروبى ( الشرقى والغربى ) وقد توخى منهجا رغم ، وحدته الظاهرية ، فانه يفتقد الانسياق الداخلى بحيث نراه ، يجمع أفكارا وفيما من عصر التنوير حتى المادية الميكانيكية مرورا بالوضعية المنطقية - وهو احد روادها ودعاتها فى الشرق العربى و البرجماتية ، والتجريبية ، كل هذا الخليط مجتمع فى واحد " مما جعل المقدمات تتناقض مع النتائج " (19) و كأمثلة على هذا التناقض بين المقدمات والنتائج نورد من قوله ما يلى : ان قدرا كبيرا من الفاظ فينا اليومية وحياتنا الثقافية على السواء يهيم فى فضاء المعانى المجرده غير الموصولة بجذورها المادية فلا نحصل منها على الفكر وانما على الروتين الاجوف ان هذا التحليل للغة المأخوذ من المنطق الوضعى سرعان ما يتلاشى لتصبح اللغة العربية لغة الارادة الانسانية الفاعلة ما دامت الجملة تبدأ فيها بالفعل .
ويقول بأننا في مرحلة تحول تستدعى ألا يكون لدينا - قواعد ثابتة للقياس لتفتح الطريق أمام المبادرة والمغامرة و الخلق فنبتكر لكل موقف ما يلائمه من قيم ونظم بالمعنى التجريبى البحث فى الفلسفة الذرائعية ( البرجماتية ) ومن التناقض ايضا انه انقلب من المثالب التى أدان بها الفكر العربى اللا عقلى فى البداية الى القول " كان للعقل أعظم " القيمة عند أسلافنا " وهى جملة تتناقض من حيث المضمون تناقضا حادا مع ما جاء فى قوله بعد ذلك من أن " قطب الرحى عند فلاسفة الغرب هو احكام العقل وقطب الرحى عند المفكر العربى هو قيم السلوك . والخير كل الخير ان تضم هذه الى تلك " أما عن الدين فانه يؤكد على أن الايمان قضيه فردية موكولة الى الانسان " ونجعل العلم موكولا إلى العقل دون أن نحاول امتداد أى من الطرفين ليتدخل فى شؤون الآخر " وهى دلالة سياسية اجتماعية ليبرالية أساسها ما يعرف من فصل الدين عن الدولة . وبقية الافكار والقيم المعروضة كلها تتحرك في اطار الفكر الليبرالى .
ويتغافل الدكتور زكى نجيب محمود عن حقيقة ما يدفع الى النهضة الحضارية والانتقال من الوضع القديم الى الجديد حتى يصبح عنده التحول يكمن فى مجرد ثورة لغوية - وهو أمر عام ولكنه غير كاف وليس هو الاساس - الامر الذي ينقل العرب من ثقافة اللفظ الى ثقافة العلم والتكنولوجيا والصناعة ، ولن يتم هذا بالتوجه الى التراث بل بالرجوع الى " أروبا وأمريكا " " نستقى من مناهجهم ما تطوعوا بالعطاء وما استطعنا من القبول وتمثل ما قبلناه " . أما معيار القبول والرفض فهو الالتجاء الى الفلسفة الذرائعية التى تجعل النفع والضرر هو المقياس العملى ماديا وعقليا .
ان ثلثى الكتاب تقريبا خصص لهذا الخليط غير المتناسق - بحكم الافتقار الى المنهج العلمى والنظرية العلمية - من الافكار والقيم ، أما الثلث الاخير وهو الذى يهمنا فقد خصص لبناء مشروع " فلسفة عربية مقترحة " كصياغة للنتائج التى انتهى اليها من ثلثى الكتاب وهنا تصدى لنقد الماركسية نقدا سريعا وكلاسيكيا ، والملاحظ أنه يتجاهل ( د . شكرى غالى المرجع المذكور )
1) ما هو مشترك بين البشر 2) أن هناك تطورا تاريخيا من الحدس الى العلم .
3) محور العلاقة بين الدرجة الحضارية التى يبلغها شعب وميلاد " فلسفة " فيه .
4) الطابع القومي للفلسفة هو جماع عناصر " الواقع " الذي ولدت فيه أو طبقت عليه .
5) طابعها هو جوهرها كتصميم لنتائج العلوم فى زمان معين لا فى مكان معين .
ويعتقد الدكتور زكى نجيب محمود وكأن المسألة أو أزمتنا الحضارية والثقافية تحتم أن تكون لنا " فلسفة عربية " حتى نشعر بأننا بلغنا طور النضج والابداع والحال أن للخلق مناخا وعوامل هى أغلبها مفقودة فى بلاد العالم الثالث - والوطن العربى جزء منه - فى بلاد مازالت تعانى من الرواسب التاريخية : الجهل ، الفقر ، المرض ، " الثابوت " بأنواعها وكلها تقهر عقل الانسان ولا تترك له مجالا للابداع .
ثم هو مرجع الى فكرته الاساسية فى كتيبه " الشرق الفنان " ليتقسم العالم جغرافيا في كتابه " تجديد الفكر العربى " هذا الى فلسفات :
فغرب أرويا مشغول بالمعرفة العلمية وشرقها مشغول بالمجتمع وعلينا نحن ان ننتهج في اقامة فلسفتنا طريقا وسطا عرفت به حضارتنا قديما حتى نتفادى ما آلت اليه الامور فى الغرب من تدهور فى القيم ونحتفظ بالجذور الثقافية الغائرة فى اعماق نفوسنا وهكذا تكون الفلسفة المقترحه هى جماع السماء والارض وهكذا يكون الدكتور زكى نجيب محمود معلقا بين السماء والأرض دون أن يحدث التفاعل الخلاق بينهما ، وتكون الحياة أبعد ما تكون عن الالتحام بالارض والسماء ما دام يسود العالم الظلم والقهر والاستغلال وكل الآفات والامراض الاجتماعية والاخلاقية . ان مثل هذه الدراسات تستند الى التلفيق أكثر من الاستناد الى الرؤية الواضحه التى يحكمها منهج واضح وعلمى فتبقى بعيدة عن معانقة الواقع الذى تعيشه الجماهير فى البلاد العربية . وان كان لمثل هذه الدراسات من فضل فهى تطرح المشكلات والقضايا التى تستدعى الوعى والتفكير فالحلول العلمية الواقعية .
