(( . . . إن الموهبة الاساسية للكاتب الجيد هى أن يملك (( جهازا )) فى داخله يفضح الزيف والكذب ولا يؤثر فيه مؤثر - هذا هو رادار الكاتب . . . )) همنغوى
عندما يكون النقد بلا نقاد ، فانك ترى العبارة السهلة المجانية ، مركبا لكافة هواة السهولة والطفولية والكسل الفكرى . . . وما أكثرهم ! !
فذا يلقى على أقدام عروس الفن زهرة ، وذاك يلقى عمامة من عهد اهترأت ملامحه ، والأخير يلقى قاموسا كان نائما بين زوايا التاريخ وأضابيره الصفر بمتحف الجماجم . . .
أما عروس الفن الرفيع ، تلك الحسناء العسيرة المنال ، فانها تقف مشفقة وساخرة ، فى ذات اللحظة ، أمام ابتهالات المتغزلين تحت أقدامها ، اللاهثين بالعبارات الجاهزة المستوردة ، وبالالفاظ المعلبة المستعارة ، وبالتزلف الرخيص المتمسح بالاعتاب وبالاشواق العادية الواهنة . . .
وتقرأ ما تجهضه الصحف فى شتى أنحاء العالم العربى وغير العربى ، فيروعك هذا الصراع النقدى الذى تنظمه قافلة الدخلاء على النقد ، الغرباء فى متاهة الفن ، إذ ذاك تتعنت ملامح ذوقك ، وتخال النقد أفعوانا مشنوقا من عهد بعيد بعمامة قذرة فى إطار اجرامى رهيب ، جمد الاشياء والحيوانات وحتى العيون الفائضة من محاجرها . . .
وقد تلجأ ، وأنت بين أدغال مطالعتك ، الى التدخين ، فى نزعة هروبية لتقطع سلاسل القلق حتى بالوهم والدخان . . .
لكن هيهات ! فهذه نماذج الاشباح تطاردك بأقنعتها المضحكة وكأنها وليدة نهار خريفى مديد . . شمسه مريضة ، وساعاته عرجاء وضوؤه كالعجين . . .
وترى الوجه الاول . . لنموذج من نماذج النقد ، وهو وجه جامد كالمومياء قد تناثرت عليه حشرجة الافكار الهرمة الميتة . . . ولو كانت لك نعمة التخيل - ولعلها ماساة فى هذا الظرف بالذات - ولو قدر لاذنيك أن تلتقطا من العدم
صوت ذلك الناقد الجامد ، ذى الأفكار المنتحرة ، إذن لراعك أن تصغى لكهنوت الظلام والضباب ينفث فلسفة العجز باسم الاعجاز ، ويخنق فى (( التوتر )) الفنى المشبوب صوت الحياة ليحبسه فى قمقم مقاييس مجده الصغير . . .
واذا بك تنفر من هذا النقد الذى يحيل الدم فى أعصابك الى رماد ، والنار المتوثبة فى عروقك الى مادة لزجة ملساء من القلق الهيولى الاكول . . .
وتظن بعد هنيهات من التناسى والنكران ، أنك تخلصت وحلا لك احتساء الراحة فى كؤوس من الصفاء الحسى ضمن جوك الذاتى وقد تقشعت غيومه ، وابتسمت سماؤه وأزهاره ، تظن ذلك ، وبطلان ما تظن . . .
فذا وجه آخر ، من وجوه النقد ، يباغتك . . ويقتلع منك اهتمامك ، ويجبرك على التفرس فيه ، والتحديق به . . .
وأنى لك الخلاص الذى تروم ، والفرجة التى تشتهى وأنت تدفع دفعا ، وتجذب جذبا ، أمام الزحام والصخب على تربة واقع فضفاض ، قلب . . قراره مستحيل ! !
وتفتح عينيك على الوجه الثانى من النقد فاذا بك بازاء كدس من الملامح تتهدل كتلا كتلا صغيرة حول ثغر ثرثار متشدق كأنه بوق أو طبل أو مصنع كليشهات . . .
وتعير سمعك لذلك الثغر ، بعد أن أطل منه لسان أحمر سرعان ما لعق شيئا من على شفته العليا ، تصغى اليه متقززا ، فاذا به يقول نقدا دونه التعاليق الصحافية أو تلك العجالات التى يرسمها قلم بعض القراء على هوامش الفقرات. .
واذا بهذا الذى ينتسب خدعة الى النقد ، يختار مواطن النزف فى التجربة المبدعة ، ليغرز فيها قلمه الخشبى (( لمملح )) واذا به ( أى بالناقد ) يسقط فى تكالب معيشى راعب بين أشداق البدائية والاقليمية ، ويتظاهر بأنه قد فتح كل الالغاز الى درجة تخطى بها جمهوره ، وأصبح مزمجرا فى جموع القراء الذين لم يولدوا بعد . . يزمجر بعبارات تتصارع حروفها فى ما بعضها بعض كالحشرات تحيا بالتهام الحشرات. . حاملة فى كيانها بذرة افناء كيانها . .
اثر هذا الوجه ، لا شك أن الشارع يستغرقك ، فتمضى هاربا من هذا النقد الذى تسربت اليه الهجنة لتشابه ملامح أصحابه ، تهرب وقد تبصق رواسب تلك الرؤيا فى أول جدار ...
وفيما أنت تسير ، واأسفاه ، تحنيك الخيبة فى رحلتك الادبية عبر الكتب والمجلات ، تجدك وجها لوجه مع عدة وجوه لبعض حملة القلم فى بلادك ، ممن احترفوا (( النقد )) كبداية مباركة فى سلم الابداع والخلق ، وفى حلبة السباق والرهان فى مجال الابتكار والسبك . . .
ثم يبدأ الحوار فاذا بكل واحد منهم يتدحرج : نسرا فذئبا ، فحدأة فبوما فجرذا ، فشيئا لا ينعت ولا يوصف ولا يتصور . . .
فذا يتكلم باستاذية من شرفة عالية بلا شرف ، وذاك بعينين مثل (( عداد )) التاكسى يعدد أخطاء غيره متناسيا خطايا أخطائه ، وهذا وراء أقنعة ايديولوجية مرقعة ، يحدق مثل حماة تدبر مكيدة لكنتها . . الخ . . الخ . .
وقد تمتلىء أعماق ذاتك ، وانت تصغى لهذه التعاليق بما يشبه الملح . . لا سيما ، وأدب بلادك ، يتحفز الى مسايرة مدنا الثورى الخلاق فى ربوعنا الخضر ، بفضل اخلاص المخلصين لمصاير الفكر ولسحر البث ولاشراقة الكلمة والحرف . . .
فأنت إن أخلصت لنفسك وتخلصت من أخشى ما نخشى من دواهى الحيرة والاشكال ، فى حصيلة السنوات العشر الأخيرة . . . تدرك ما تحقق ويتحقق من الفوز أو بعض الفوز فى أدب الشباب .
فالقصة ، فى ربوعنا ، رغم عمرها الوردى بدأت تتحفز خصوصا بأقلام الشباب ، الى فتح النوافذ على كياننا الأخضر لتنفذ الى قضايا شعبنا والى قضايا الانسان المتوثب فى قلقه المصيرى وتشوفه الى آفاق الضوء . . والخير والجمال . . .
وكذلك شعرنا المنسوج من خيوط شمسنا الربيعية ، الأزرق العبير ، الحى الومضات ، هو الآخر ، قد بدأ فى اطلالته الخضراء وأخذ ينبض مع الانسان ومع الشعب ومع اللحظة الوجودية البعيدة عن التقميش اللفظى المحنط ، البارد الحس ، المسطح التجربة . . .
ولكنك ، اذا ترصدت النقد وتحسست صدقه وأبعاده فانك ترى أنه فى كافة البلاد العربية لا يزال فى حدود المحاولة على الاقل بالقياس لتقدم مختلف شؤون الحياة العربية وانطلاقها نحو الاكتمال السريع والتبلور الناضج ضمن آفاق الرؤيا الجديدة . . .
أما الذين يمكن استئناؤهم ، من قائمة التائهين فى بيداء النقد . . . فهم أقل من القليل ويمكن حصرهم فى طائفتين اثنتين ، أخلصتا قدر الجهد للفن ، وطمحتا قدر الجهد الى التقعيد النظرى ، لكنهما لم توفقا كل التوفيق الى الامتزاج الكلى مع الفن والى العراء الكامل المنشود . . .
الطائفة الأولى ، آلت على نفسها أن تحكم من السطح ، قائلة بلا تردد : هذا فن هذا جميل . هذا الى الفناء . . هذا الى الخلود . . .
تلك الطائفة ، هى التى تؤمن بالنقد الذى يمكن تسميته بالنقد الحكمى (( المستورد )) من الخارج . . .
أما الطائفة الثانية ، فهى خلافا للأولى ، وتجنبا لمزالقها ، تبنت منطلقات جديدة بهدوء وبلا طفرات ، وعمدت الى أن تكون متفتحة ، محبة ، منطلقة بواسطة الشرح والتبسيط للمحاسن دون المساوىء ، ملقية بعض الأضواء على اختلاجات التجربة وأبعاد الفكرة ، وأضواء وظلال الصورة مقصرة عادة ومبالغة أحيانا ، وبين الافراط والتفريط تضيع (( الحقيقة الابداعية )) .
لكن !
أنى لهذه الطائفة أن تدرك تلك الذروة من الصفاء التى تجعلها تحيا حياة المبدع ، فى ازمته الابداعية ، وفى رؤيته لدى عكس تلك الازمة ضمن أنماط وقوالب (( استطيقية )) أدبية . . .
تلك الطائفة ، هى ما تسمى بطائفة النقد التقليمى ...
وإذ أن الطائفتين الآنفتى الذكر ، ليستا الا تابعتين لنظريتين فى النقد المستورد ، فان اللوم هنا ، ليس فقط على نقادنا . . . بل على النقد فى شتى صوره . . . وحيثما كان . . .
ولعل كل الذين يشعرون بعطف حقيقى على الأدب والفن ، ينظرون بألم الى جل النقاد الذين يظلمون الفن ويقصبون له أسوء النعوش وينحتون له من رخام النظريات أقبح القبور والتوابيت . . .
الناقد مهما تنزه ومهما حن الى الكمال وحنا على التجربة الفنية ، فهو دائما ، ذلك (( الآخر )) ذلك الرجل الثانى ، ذلك الدخيل ، ذلك المتطفل . . .
والنقد مهما سما وتجرد ، ومهما أخلص لرفعة الفن ولفورة الدفقة الانفعالية فى تجاوزها التاريخى لكافة القيود والتقنيات . . . مهما كان النقد فهو مغامرة ينهد اليها صاحبها فى هنيهات هاربة يدور فيها فى فراغ ولا أخطر . . .
وتلك المغامرة فى فضح أسرار الروعة باسم النقد ، تنزل الى الوجود عرش الفن الذى هو قبل كل شىء جناح أثيرى ، أجمل جناح ، يحلق بالفكر الانسانى فى أجواء لا تحدها مقاييس الزمان والمكان ، فى فيض لا متناهى . . .
هذه هى أقنعة النقد ولا جدوى فى البحث عن الوجوه .
ولعل القارىء الكريم ، يعفينى من عناء مجازفة تعداد المغامرين !
ولعله ، يعفينى من الدعوة الى انكار فضل تلكم الاقنعة المزيفة ! ولا فما جدوى إقبالى على تقمص ثوب الناقد لأنقد النقاد ؟ ما الجدوى لولا اعتقادى بأن البراقع هى الأخرى تخدم الفن وتحفزه لأن يزداد سموا ورفعة ؟

