يخضع فن القصة عند ابراهيم بن مراد لبواعث نفسانية معقدة وأسباب داخلية متشعبة تلتقى كلها على صعيد الكلمة والحرف لتفجر ما فى أعماق الكاتب من خلجات غريبة مكبوتة متمردة لا تؤمن بالمنطق ولا تنصاع للعقل وانما تنتظر دائما ساعة المخاض او الكتابة أو كما شاء للمسعدى ان يسميها بـــ " المأساة " كى تنبعث من أغوار النفس السحيقة فى شكل صور شعرية مرفرفة بأجنحة ضبابية شفافة سرعان ما تتبعثثر فى دروب الأسطر طولا وعرضا يحدو كل صورة منها نشدان ملح للحرية وثورة مستعرة على تقاليد الكتابة البالية التى تفرض على الكاتب ان يربط بين كلماته وجمله بوشائج منطقية مملة خانقة للخيال ومحدة لذلك الامتداد النفسانى المتأصل فى الذات البشرية والمتجاوز فة كل لحظة لحدود الواقعية التى تحول دون انطلاقه واندفاعه قصد الاندماج الكلى فى كنه المشاعر المجردة والأحلام السحرية المريحة الهادئة بعيد عن مومياء المنطق الساخرة وشطحات الذهن الروتينية الباردة .
وعلى هذا الاساس فان المخيلة تضطلع بالدور الاول فى قصص ابراهيم بن مراد اذ هى تزوده بدفقات عارمة صاخبة من الصور الباسمة تارة العابسة اخرى تتوالى كلها فى تناسق عجيب لا يشبه فى شىء التناسق الذى أرسى قواعده العقل وانما هو يتجلى فى انسياق الصور وانسياب الاحاسيس بدون نعثر او تلكؤ مثلما هو السائد فى لاوعى الانسان وباطنه . وما المخيلة هنا الا دولاب يدور باستمرار تحركه رياح عاطفة قوية صادقة فيرتفع بدفقات الصور الكامنة فى قاع بؤرة اللاوعى المظلمة عبر قنوات تصل الباطن بالمخيلة واللاوعى بالوعى وما الكاتب اثناء هذه العملية المعقدة الا مسجل لكل ما يرد على مخيلته من صور . ولقد اشتهر بهذه الطريقة او شبهها بعض السرياليين الذين استعملوا الكتابة الأتوماتيكية لا كطريقة مقصودة لذاتها وانما بغية الوصول الى غايات هي من الخطورة بمكان إذ لها اتصال وثيق بالنزعات الفردية الضيقة التى أصبحت تمزق البشرية فى هذا القرن وقد قال الناقد المجرى جورج لوكاتش (Georg Luckacs ) عندما تعرض لشعر بول " ألوار " : " مما لا شك
فيه ان الاكتشافات الخاصة باللغة السريالية كان لها بعيد الأثر فى شعر " ألوار " . الا ان الحقيقة التى لا يرقى اليها الشك أيضا هى ان قصائد " ألوار " تختلف اختلافا بينا عن اللغة السريالية البسيطة إذ أن هذه اللغة عنده أداة ذات تعقيد يعبر عن شئ أساسى بالنسبة لهذه الذاتية الضاربة أطنابها فى عصرنا " .
ومن ثم فان اللغة السريالية عند " بول ألوار " هي مجرد أداة تساعده على خلق جو شعرى ينطلق منه فيما بعد الى تقديم نظرة عميقة الى المجتمع والحياة فى حين ان اغلب السرياليين الآخرين يجعلون من الكتابة العفوية غاية فى حد ذاتها .
ونحن اذا نظرنا إلى لغة ابراهيم بن مراد نجدها تدور حول نفسها لتأكل من ذاتها ويغذى بعضها البعض . . . كل كلمة تحتك بما يسبقها أو يأتى بعدها من حروف وكلمات فتقفز امام عينى القارىء نتيجة لهذا الاحتكاك صور متحركة تجلب انتباهه وتشده الى وقائع القصة . . . الشرارة تنقلب فى مثل لمح البصر الى نور ساطع كنور الشماريخ الملونة . . . وحبة الرمل الصغيرة تعظم فجأة وتصير جبلا شامخا قائم الذات . . . ويجد القارىء نفسه ازاء شريط ساحر ليس هو فى حقيقة الامر غير نسخة مطابقة للاصل من شريط الاحلام التى تتوارد على ذهن المرء اثناء نومه أو حتى فى يقظته فى كثير من الاحيان . . .
فقراءة القصة تنقلب هنا الى شبه اغفاءة خفيفة او جولة فى عالم سحرى يشيده الخيال ويهدمه فى كل لحظة ليعيد تشييده من جديد . . . لكن حسب تصميم أدق وهندسة أروع . . . والكاتب فوق كل ذلك لا يعتمد على ما يشاهد بالعين من الاشياء وانما يأبى الا أن يتطرق الى داخلها ليصفها من الاعماق اعتقادا منه أن ما تشاهده العين خرافة كاذبة تسوقها الحواس للعقل وان حقيقة الشئ السرمدية لا يتوصل اليها الا عن طريق الخيال وهنا يلتقى ابراهيم بن مراد بميخائيل نعيمة الذي طالما أعجب به فخص " مدينته الفاضلة " بمقال طريف نشر سابقا بهذه المجلة . . .
الخيال اذن أداة لسبر أغوار الاشياء والتطرق إلى أعماقها . . . فكلما ارتسمت صورة على شاشة مخيلة الكاتب انطلق منها الى رسم صورة أخرى تكون هى بدورها منطلقا الى خلق صورة ثالثة ثم رابعة وخامسة . . . وهكذا يتبلور الشريط ويبرز للعيان . . . فاذا حدثك الكاتب عن " عين ضيقة " خالها " حدقة ابرة " ثم تصور نفسه " جملا يريد المروق منها " واذا انطبعت على صفحة مخيلته صورة " موجة تتدحرج من أعلى القمر " تذكر " حلم الحوتة
ذات السيف بأن تقلب السفينة " كما يقوده هذا الى ذكر حكاية يونس وهو يعيش فى " جوف السمكة " ويستبد به الخيال أحيانا الى حد ان يرى " قطرة المطر " نهرا كبيرا ذا مياه صاخبة . اما الدموع فانها تذكره بــ " نقط شهباء على جلد عنزته الاجرب " و بــ " ذبان أخضر حائم حوله ينذر بالنهاية " . . . ويذوب الزمن ذوبانا غريبا وتتحرر الحادثة من ربقة الماضى وقيد الحاضر وأوهام المستقبل فلا " قبل " ولا " بعد " بل تتداخل الاحداث التاريخية وتتفاعل فيما بينها ويلتقى انشتاين بحنبعل والكاهنة ويستمع ثلاثتهم الى صليحة تغنى : " يا خيل سالم باش روحتولى " وتلوح مدينة سدوم ومدينا النحاس ويتعانق دون كيشوت وعنترة العبسى و " تضحك الأسطورة منهما " و " يبكى التاريخ " لانه قد وقع تجاوزه بكثير . . . ثم ينتقل الكاتب بنا من مدينة النحاس الى نهج القصبة حيث " بيع الشوشو " وهكذا تلتحم الازمنة والأمكنة فى شبه تجربة كيميائية لا اهمية لنجاحها او فشلها بالنسبة للكاتب .
ولنلخص الفن القصصى عند ابراهيم بن مراد ولنذكر اهم الاسس التى يقوم عليها وهى فى نظرى كما يلى :
1) اعتماد على الخيال كأداة لسبر أغوار الاشياء للتخلص من الاوصاف العادية التى تنقلها العين . وهذه الطريقة نجدها بكثرة عند رواد القصة التجريبية البولونية ومن بينهم Adolf Rudnicki صاحب " بائع لودز " ( ولا أظن ان بن مراد قد أطلع على بعض ما كتب هذا القصاص لان كتبه مع الأسف لم يصل منها شئ الى تونس ) .
2 ) جعل كل صورة يرسمها الكاتب مطية للوصول الى صورة أخرى لها علاقة بالاولى .
3) انتهاز فرصة استعماله لبعض الكلمات لذكر أساطير وأحداث تاريخية كثيرا ما يتصرف فيها الكاتب ويقدمها فى صيغ جديدة .
ونتيجة لهذه العمليات الثلاث تكون القصة شبيهة بشريط سينمائى من الصور واللوحات والأساطير . . .
والجدير بالملاحظة ان ابراهيم بن مراد قد استخدم فى قصصه الاخيرة الثلاث اى " الوجه الآخر للحكاية " و " حكاية أم مازن " و " دمعة على جبين الأرض " نفس الشكل تقريبا إذ عمد الى تقسيم كل من هذه القصص ا شطرين كل شرط منهما يحمل عنوانا خاصا . . . كما ان الجزء الثانى من كل قصة يأتى عادة فى شكل حوار بلا نهاية والغرض من هذا الحوار فى نظرى هو
التخلص من الحل الذي يفرضه غالبا الشكل الكلاسيكى مع الملاحظ ان تجزئة القصة الى فقرات أو فصول مرقمة هي من فنيات المذكرات واليوميات ولقد استخدم هذا الشكل الخارجي على الدوعاجى فى كثير من قصصه الا انه ان نجح فى " الوجه الآخر للحكاية " نجده مفتعلا أو يكاد فى " دمعة على جبين الأرض " حيث او القصة تنتهى بنفس الحادثة أو على الأصح بنفس الصورة التى تبدأ بها ومن ثم فان الشكل الحقيقى لهذه القصة هو الشكل الدائرى الذى استعمل مثله الدوعاجى فى قصته " سر الغرفة السابعة " تقريبا . . . ولذا فان تقسيم القصة الى " فاصلة أولى " و " فاصلة ثانية " يمكن الاستغناء عنه تماما . . .
الا ان ابراهيم بن مراد جنوح فى بعض الاحيان الى استعمال الرمز بل ويبالغ فى استعماله الى حد الابهام فهل من السهل مثلا على القارىء مهما كان مستواه الثقافى أن يفهم ان الصراصير التى يحدثنا عنها فى " الوجه الآخر للحكاية " هي جيوش مسوليني ؟ أضف الى ذلك ان الحكاية كلها تافهة ولا نرى أى مبرر لاختيارها إذ تتلخص فى أن رجلا قدم الى صحراء تونس خلال الحرب العالمية الثانية هاربا من جيوش " مسوليني " التى حالت بينه وبين حبيبته كلوديا فيمضى فى هذيان قصده الكاتب حسبما يبدو ثم يأتى الى عين المكان بعد عدة سنوات ، ستة مسافرين فتتداخل الأزمنة ويسمع هؤلاء الرجال حديث البطل وهذيانه على الرغم من انه قد استحال الى عظام نخرة ملقاة فى قعر جب غار ماؤه . . . فالأحداث ملفقة تلفيقا مقصودا إذ أن الغرض من الهذيان هو التلميح الى بعض القضايا الاجتماعية التى لم أتمكن شخصيا من الوقوف عندها . . . الأمر الذى يجعل هذه القصة دون مستوى " دمعة فوق جبين الأرض " حيث يتقلص الرمز تماما . . . الا ان نقطة الضعف الكبيرة التى تضمنتها قصص ابراهيم بن مراد هى عدم بحثه عن حقائق فى مستوى تحليل النفس لان تيار اللاوعى لا يمكن ان يستعمل بطريقة مجانية بحتة بل الغرض منه هو سبر أغوار النفس عند الاشخاص واستجلاء حقائق مدفونة فى لاوعيهم لا تقدر على الالمام بها بقية الأدوات الكلاسيكية . . . وهذا الاتجاه نجده اليوم عند أغلب كتاب القصة والرواية في فرنسا من ابناء الجيل الجديد الذين يركزون انتاجهم على البحث عن حقائق فى مستوى تحليل النفس (niveau psychanalytique) بالاضافة الى تأثرهم بـ " بروست " و رواد " الرواية الجديدة " ومن بين هؤلاء الشبان ميشال بولاك (Michel Poalc) صاحب " لماذا تركتني . . . انزل من بطنك يا أماه " وبول سودى ( Poul Soudet ) صاحب " امتحان الممر " وبيار سكوندورفير ( Pierre Schoendoerffer ) مؤلف " الوداع للملك " . . .
ومهما يكن من أمر فان المحاولات القصصية التى قام بها ابراهيم بن مراد الى حد الآن تبشر بكل خير . . . م . ص . ع .

