الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

ندوة القراء، قراءة نثرية لقصائد مجلة الفكر

Share

قد نكون واقعيين غير خاضعين لانحرافات النظريات المجردة اذا اعتبرنا إن الشاعر هو صانع الجمال ومفجر رحيق الوجود المنعش فى إطار الالفاظ الساحرة والصور الخلاية والتراكيب الهادفة ، ونكون غير مدركين الى ما نحن فيه من اعتناق مجرد الى ابتسامة العاطفة ودغدغة الشعور حينما نريد ان نعتبر وان الشعر هو فقط - زينة وتحفة باذخة كآنية الورد - لان المنطق ولو كان شعريا يفرض أن ننساق اكثر مع الجمال الذى تنتعش به النفس مرتين الاولى فى اطار الجمال المجرد والثانية فى نطاق المنفعة التى يثمرها هذا الجمال ، وبالتالى فانه من المؤكد اننا منطقيا نشعر باحساس أقوى امام زهرة البرتقال منه أمام الوردة ولو انها احسن منظرا وازهى لونا ذلك ان النفع الذى ينجر لنا من زهرة البرتقال فى الثمرة التى ينتجها لا يحصل لنا من الوردة التى لا تمدنا بنفع واضح ثابت . من هنا تكون بداية الطموح لدى الشاعر الذى يريد ان يكون له دور وتأثير فعلى واضح فى المجتمع بل فى العصر الذى أصبحت للعلم فيه مكانة لا يستطيع ان ينازعه فيها الشعر أو أن ينكر له وجودها . وقد يخطئ الكثيرون حينما يعتقدون وانه لا يتماشى وهذا العلم حتى يتدخل في مفاهيمه باعتبار وان الشاعر صانع الجمال ، كأن العلم خال منه ، وكأن ليس جمال العلم هو من اسمى ما وجد من جمال . فالشاعر الذى استوحاه من شتى صور الحياة فى مختلف الازمنة والعصور قادر على ان يستلهم اليوم اعلى درجات من شتى الاكتشافات العلمية ، أو ليس من المنطق الثابت ان تسرى فى الشاعر رعشة الحساسية ولهفة الشعور أمام ادق الاختراعات العلمية مثلما تعتريه احد الخلجات واعنف صور الالهام أمام صرخة من صرخات الجمال البشرى والطبيعى . . . . الشعر يجب ان يكون موقفا انسانيا له طابعه الخاص الذى تؤثر فيه شخصية الشاعر وقد يكون موقفا ثوريا فى هذا العصر الذي أصبحت فيه الثورة اقليما يتعامل معه

كل تواق الى التطور وربما مناخا دافئا تتحول فيه الرغبات الى حقائق وجودية واجتماعية تضمن سلامة الحركات التقدمية ولا تحجب رغبات الانطلاقة وربما الهروب من الظروف التى ليس لوجودها أى مبرر واضح . غير ان ما نؤمن به هو ان الثورة على الماضى او انتاج الماضى الشعرى الذى انتجته قرائح يعتبرها شباب اليوم من الماضى لا يمكن ان تتخذ صبغة جماعية وقرارا نهائيا كان تقرر اخذ المستعمر والقائه فى البحر لان الماضى الذى نعيشه من خلال اثاره ليس مستعمرا وانما هو كائن حضارى وربما هو تراث وقد يكون تاريخا أو جزءا من التاريخ الذى لا نستطيع القضاء عليه بل ولا يمكن القضاء عليه لانه يمثل الدوام والخلود والمجد لروح الامة وحضارة العصر وصيرورة الكيان . عاودتنى هذه الخواطر حول الشعر والشعراء وانا اتصفح العدد الأول من مجلة الفكر فى سنتها الثامنة عشر واطالع هذا المزج المنعش بين انتاج من يمكن ان نعتبرهم يمثلون جيلين او صنفين من الشعراء يكتبون نوعين او انواعا من الشعر ذلك انه سبق لمجلة الفكر ان نشرت وبصفة عفوية على ما اعتقد لونا واحدا من القصائد تمثل اتجاها واحدا يحمل اصحابها فكرة واحدة قوامها الثورة ليس الا على كل شكل شعرى لا يتماشى فى رايهم والشكل الذي اعتبروه وحده الكفيل بمسايرة المجتمع والتعبير عن التطور والمترجم عن الثورة الحق . . . اننى لا اريد ان ابحث فى العمل الشعرى والفنى بصفة عامة عن الخصائص التى استطيع ان احكم بها على الشعراء والفنانين بانهم مجددون و مقلدون ، تقدميون أو رجعيون بقدر ما الهث للبحث عن الخصائص التى تمنح هذا الشعر او ذاك صفات الخلود عبر تطور المجتمعات ومرور الزمن وتبدل الاحوال وهذا الشئ لا يمكن ان يكون غير (( المطلق )) اذا جاز ان نعتبره غير خاضع لزمان او مكان او اشخاص بل يظل ثابتا خالدا عبر مرور الزمن انطلاقا من واقع معين يترفع عن المصطلحات والعبارات فى مفاهيم مركزة للشعر والشعراء عبر عنها الاستاذ محمد مزالى فى افتتاحية عدد أكتوبر 1972 لمجلة الفكر حينما لاحظ ان الشعر ( عمل وخلق وتوهج عاطفة وطاقة متدفقة ) . وقد انعكست هذه المضامين فى الكثير من الاثار الشعرية وخاصة منها قصائد العدد الماضى من مجلة الفكر التى اعتقد انها لم تتخذ اى منهج لاختيار النماذج المنشورة . وانى وان كنت احبذ لو يقع ترتيب المواد فى المستقبل اعتمادا على اعتبارات فنية دون ان تكون هناك اعتبارات لاهمية البحث أو مكانة الكاتب مثلما يقع عادة ، اعتقد وان تصدير العدد بقصيدة الشاعر احمد اللغمانى (( سى الحبيب )) طبيعى اذ انها من أجمل القصائد التى تغنى بها اللغمانى فى اعياد ميلاد الرئيس الحبيب بورقيبة وهى

القيت بهذه المناسبة يوم 3 أوت 1972 وليس يوم 3 سبتمبر مثلما وقعت الاشارة إلى ذلك . . . كنا دائما نتوقع الكثير من الشاعر الذى لم يخيب ظننا مطلقا فهذه القصيدة تقدم لنا اصدق الرؤى فى مزج رائع بين الموسيقى والمضمون بعيدا عن الخطابة والنظم والتقرير مما جعل تأثيرها أقوى على النفوس ويبلغ القمة عند القائها ذلك ان لفظة سى الحبيب التى يلهج بها الكل بطابعها الشعبى القريب من النفوس (( تعنى ان الكريم من المعدن عن كل زخرف مستغن )) :

ونجد اثر ذلك قصيدة مصطفى الحبيب البحرى الذى يقدم لنا فيها رؤية خاصة للقرية فى مضمون تقليدى نظر اليه من زاوية جمالية اعتمدت بناء موسيقيا وتصويريا مرحا يبعث الشوق فى النفس لمواصلة قراءة القصيدة وحتى زيارة جزيرة قرقنة وربما الهروب من المدينة بعيدا عن الزيف والاستقرار في القرية التى تحافظ على نضارة الروح .

وننتقل الى جعفر ماجد فى (( مفكرة أندلسية )) وهي قصيدة لا تقل أهمية عن سابقاتها التي قرأناها للشاعر من حيث المستوى الفنى وخاصة الابداع التجريبى ، فالمقاطع الاربعة التى تتكون منها هذه القصيدة والمكتوبة بالشكل التقليدى الذى عودنا به ماجد والذى من حقه وحق كل شاعر أن يختاره لنفسه حسب التجربة التى يطرقها ويعيشها جاءت غنائية كئيبة فى بناء فنى متين العلاقة واللغة . انها دمعة اخرى من دموع الحساسية وهى رثاء آخر للاندلس . ولعل من أجمل ما فى هذه المفكرة هذا المزج بين الماضى والحاضر وبالتالى الاشارة الى ان دار لقمان لم تزل على حالها عند العرب فهل سيكون لصوت الاندلس الدامى المنبه أى تأثير او اثر ؟ .

اما نور الدين صمود فانه يقدم لنا تجربة خفيفة جديدة (( اغنية زوجة ملاح )) فى أربعة مقاطع نجد أن العلاقة بين الثلاثة الاولى منها متينة متسلسلة فى حين ينعزل المقطع الاخير ليكون شبه استنتاج لما جاء فى الاول وربما نوعا من الالتزام لتمجيد العمال انطلاقا من الحلم الغنائى الذى جسمته زوجة الملاح فى المعانى الصادقة التى خصت بها زوجها ، فهل من السهل ان تتنازل عن الانانية المفرطة الفطرية التى نعرفها عند المرأة لتمجد سواعد الاخرين وقلوبهم فى هذا الظرف بالذات ؟ . . . . ومن ديوان ادب وطرب وهو رابع مجموعة شعرية يخرجها منور صمادح فى اقل من سنة ، نشرت المجلة قصيدة ((سلوان )) وهى على ما يبدو خيامية المعانى والنفس فى بعض الاحيان وهى أيضا تعود بنا كذلك الى مستوى الفهم القديم للشعر الروماطيقى الكئيب والجميل فى نفس الوقت والذى يترجم عن الالم والحرمان والصبر ، الا ان

اسلوبها الشيق وصياغة تراكيبها لا تجعل القارئ ينصرف عنها قبل ان يعيد قراءتها مرتين على الاقل ولعل من اجمل قصائد هذا العدد (( رسالة الى امراتين )) لمحمد الشابى الذى يمكن ان نعتبره اقدر شاعر شاب استطاع بسهولة ومقدرة ان يتخلص من اشكال التقارير الشعرية وان يجتاز بكل دقة حلقة الثورية الغنائية المغلقة مع المحافظة على جمال الاسلوب وسمو المضمون وهذه القصيدة لا تتطلب منا جهدا كبيرا للقراءة التى يجب ان تكون متسلسلة نظرا لارتباط الصور بها وهي صور انطلقت منذ البداية من نفحة شعور غنائية زادت هذا العمل الفنى تأثيرا حادا فى النفوس لا شك انه سيعينها على تحويل هذا الاحساس الى واقع شبيه بالواقع الذى اعطى منه محمد الشابى لقصيدته صيغتها الموضوعية

واذا تعمقنا فى قراءة قصيدة (( الوجدان الجديد )) لحسين رشيد خريس لاحظنا انها اقوى القصائد التى امتزج فيها اسلوب الخطابة بمتانة الهيكل الشعرى الذى انحصرت فيه هذه الخواطر المتفاعلة . على ان رقة التعابير والمعانى تشعر القارىء بانه أمام قصيدة تجسد تجربة ذاتية صادقة افضت عليها مسحة من الحودة الكلاسيكية والصناعة التقليدية .

ثم ان هناك قصيدتين لابى وجدان الصادق شرف وحميده الصولى ، كانت ارضية الاولى العودة الى المدارس فى غرة أكتوبر بعدما كانت لموسمى 69/68 فى 16 سبتمبر ؛ وهى من القصائد التقريرية الملتزمة والتى تأخذ شكلا وصفيا فى بعض المقاطع فى مزج بين امتداد الحلم فى اللهو والصيف والعطلة تارة وانتظار الجديد الضرورى للعودة الى المدرسه تارة اخرى . اما قصيدة الصولى فقد جاءت قوية التراكيب صلبة الالفاظ اخفت فى اطار قوتها الافكار المعروفة والمضامين المتداولة والتى طرقها الشاعر مستعملا فى ذلك خطا عموديا كلاسيكيا دون استعمال الوسائط التعبيرية من قصصية ورمزية على اننا نشتم فى هذه الابيات رائحة نفس شعرى نعرف له طعاما عند فطاحل الشعراء وهو امر طبيعى لدى من طرق مثل هذا الموضوع بمثل هذه الطريقة خاصة فى بداية الطريق

هكذا نلاحظ ان هذه القصائد فيها الكثير من الابداع ومن الجمال يدفعنا الى التأكيد حول جدية مناهجها وتقديرنا لها ولاصحابها الذين رغم اختلاف الابعاد الذاتية التى يستلهمون منها فنهم الشعرى نجد انه عند كل منهم تتقد شرارة الاحساس لتجتاز كثافة الوجود وتعصر قضايا الانسان والعصر فى افكار وبناءات جاءت بالرغم من تفاوتها ناصعة مركزة .

اشترك في نشرتنا البريدية