4 - نفسية سوية من خلال شعره :
نحن نعرف أن الشابى يعتز بطفولته ، ويحتفظ لها بذكريات جميلة وبمشاعر عذبة ، فيتغنى بها فى قصيدة " الجنة الضائعة " قيل وفاته بحوالى سنة ، بما لا أروع ولا أبدع . من ذلك :
قد كنت فى زمن الطفولة ، والسذاجة والطهور
أحيا كما تحيا البلابل ، والجداول ، والزهور
لا نحفل ، الدنيا تدور بأهلها ، أو لا تدور
كما انه يتحدث عن " الأم " فى شعره بما لا يدع ريبة أو حيرة ، أو شفقة ، حيث عاش حياة طبيعية مع " أمة " يجد فيها كل ما تبذله وما تقدمه " الأم " عن طواعية وتلقائية من محبة وعطف وحنان ورعاية وعناية ، وفناء في إسعاد ابنها ، حيث يقول فى قصيدة " قلب الأم " - وقبل وفاته بثلاث سنوات تقريبا - والتى استغرقت ست صفحات فى الديوان :
اعرفت هذا القلب في ظلماء هاتيك اللحود ؟
هو قلب أمك ، أمك السكرى بأحزان الوجود
هو ذلك القلب الذي مهما تقلبت الحياة
سيظل يعبد ذكرياتك : لا يمل ولا يميل
ويقول فى قصيدة " حرم الأمومة " - وقبل وفاته بحوالى شهرين -
حرم الحياة بطهرها وحنانها هل فوقه حرم أجل وأقدس ؟ !
بوركت يا حرم الأمومة والصبا كم فيك تكتمل الحياة ونقدس
كذلك نجد شعره فى رثاء والده ، وعمره عشرون سنة - قبل وفاته بخمس سنوات - فى قصيدته : " يا موت " يدلنا على الود المتبادل بينهما ، وعلى المحبة العميقة المقدسة بين " الابن وأبيه " الى درجة أنه رام الموت وتمناه بدل أن يعيش يتيما محروما من أبيه ، لأنه كل شئ فى حياته فهو : حبه ، وموطن سره ، وغابه ، ومحرابه وأغنيته ، وفجره ، وعمدته ومشورته فى كل أمر ، ودرعه الواقى كل شر ، وهو الوجه الذى لا يعبسه ولا يكدره الا رؤية ابنه حزينا .
يا موت ، قد مزقت صدرى وقصمت بالأارزاء ظهرى
وفجعتني فيمن أحب ومن اليه ابث سرى
وأعده : غابي ، ومحرابي ، وأغنيتي ، وفجرى
ورزاتني في عمدتي ، ومشورتي في كل أمرى
إن شرح هذا وتحليله يطول ، وهو فى نفس الوقت بين وواضح على أن علاقة " الشابى " بأبيه طبيعية ، تخلو من " العقد " ومن أنواع " الكبت " بل أنه يرى : " ما يشقى الذى يقضى الحياة بمثل أمره " !!
كذلك نجد نظرته الى " المرأة " - فى شعره - نظرة واعية ، فهو يحبها بقلبه وبفكره وبحواسه ، وبفنه . . فلا تعثر على معنى من معاني الاحتقار " أو سقطة من سقطات " رد الفعل " أو حركة أو اشارة تبين عن عقدة من " العقد " تجاهها لسبب من الاسباب - مثلما نجد عند بعض الكتاب والشعراء والفلاسفة ، قديما وحديثا ، ولن نتورط فنقول : لانه عرف " المرأة " معرفة نظرية مجردة ، قبل زواجه ، فأحب المرأة " المثال " وتغزل بها فى المرأة عموما . . لأن هذا القول يدحضه شعره ، حيث أنه فى قصائد كثيرة يتحدث عن نساء معينات ، لكل واحدة صفات وسوف اكتفى هنا بالاشارة إلى قصيدة " الساحرة " - ولعلني أرى فيها زوجته - كتبها بتاريخ 19 جويلية - يوليو 1932 وكانت وفاته يوم 9 أكتوبر 1934 يقول فيها :
راعها منه صمته ووجومه وشجاها شحوبه وسهومه
فأمرت كفا على شعره العارى برفق ، كأنها ستنيمه
وأطلت بوجهها الباسم الحلو على خده وقالت تلومه :
خل عبء الحياة عنك وهيا بمحيا ، كالصبح ، طلق أديمه . . .
لعلنا قد اتفقنا من خلال شعره - على احساسه السوى ، ووجدانه الانسانى و مشاعره " الطبيعية " - كفنان وشاعر فى نظرته الى ما ومن حوله - فلم نلحظ ضيقا أو تبرما أو شكوى من " أشياء " أو " تصرفات " أثارته ، أو تركته يحتفظ بذكريات مؤلمة أو مثبطة تجاه : طفولته ، أو علاقته بأبيه أو بأمه أو بمن عرفهن أو أحبهن من " الجنس الآخر " بما فى ذلك زوجته .
ولا أعتقد أن حديثه عن هؤلاء جميعا ، جاء مطابقا لما يجب أن يكون فى ذهنه وفي خياله وأحلامه من سمو وقدسية ونموذجية ومثالية ، وهو الشاعر الرومانتيكى . فصب تلك " الصور " أو " النماذج " فى هذه القوالب من النغم . . حيث تكون نظرة الشاعر باستمرار وتقديراته ميالة الى النموذج والمثال . . وبذلك فحسب يكون اقتناعه . . فعالم الخلق والابداع لديه يستتأثر به " المثال " فى الحسن والقبح " الفنيين " فهو يصور ما يجب أن يكون ، أو ما يجب أن لا يكون .
لهذا سوف تبقى معرفتنا أو اطلاعنا بمن أو بما حوله محدودة ، وواحدية المصدر - الذى هو شعره فقط - الأمر الذى يجعلنا غير مطمئنين الى تلك " الاستنتاجات " حتى تظهر مصادر أخرى مع شعره تؤكد لنا أو تضيف ما يمكن إضافته الى معاردنا عنه .
5 - مصادر شاعريته :
المؤثرات - وقد أقول المصادر - لشاعريته غير مكتملة الوضوح " علميا " أو " موضوعيا " بالاضافة الى انفراده بذلك عن أقرانه ومعاصرية و " اخوته " وقد كانت وسائل المعرفة والاطلاع لديهم أكثر تنوعا ، ولا أريد أن أتطرق هنا الى ما يسمى " الموهبة " أو " الالهام " . . إذ ليس ذلك أكثر من " استعداد " أو " ميل " ينمو بالرعاية والعناية ويخبو بالاهمال . . وأمام هذا " تتراجع كل
الأفكار التى تزعم أن الأديب إنسان ملهم ، توحى اليه الالهة (4) أو الشيطان (5) بشعره " .
إذن فما هى " الرعاية " أو " العناية " التى كان يلقاها " الشابى " والتي خلقت منه شاعرا عبقريا ، لأن بعضهم يوعز بشئ من شاعريته الى تأثير " الطبيعة " الجميلة فى تونس ، وهذا يسرى على غيره فلماذا لم يزهر شعرا ؟! وأخرون يضيفون الى ذلك "تأثره بأدب المهجر " وهذا - أيضا - شمل غيره فلماذا لم يثمر ادبا ؟ ! وعندئذ نقول كذلك : لكتابه " الخيال الشعرى عند العرب " اتصال بكتاب : " الغربال " لميخائيل نعيمة ، ولكننا نلحظ للشابى شخصيته وأصالته وتفرده مما يجب بحثه فى مكانه .
وهل نقول كذلك : إن " الألم " ساهم في خلق عبقريته الشعرية ، وأمدها بالعمق والتفرد والشفافية المتوغلة فى الصوفية أحيانا . فكانت بمقام " التعويض " او الدافع ويضيق المجال لو أشرنا الى نتائج النقاد والعلماء فى اتصال " العبقرية بالألم " ولكنى سأذكر مثالا واحدا له اتصال مباشر بالعبقرية والألم - وليس كدارس ملاحظ فى غيره من بعيد - ذلك هو الكاتب القصصي - المسرحى " انطون تشخوف " (1860-1904 )عانى " الألم " في نفسه وفي غيره - كان طبيبا ومات بداء الصدر - وانصرف للأدب والفن فترك تراثا ضخما ، ظهرت فيه عبقريته . . وقد عالج فى مسرحيه : " النورس " (1805 )" مشكلة العوامل التى تخلق الفنان الموهوب ، فكل من البطلين الشابين " كونستانتين " و " نينا " يحاول النجاح فى مضمار خاص من الفن . . هذا فى الكتابة ، وتلك فى التمثيل . . والأمر المهم فى نظر تشيخوف هو مثابرة " نينا " فى طريقها الى النجاح ، فهى تتحقق أخيرا من أن " الألم " هو الذي يخلق الفنان المبدع ، لأنه يكون عنده قدرة على الاحتمال تمكنه من متابعة سيره وتحقيق أهدافه . . " نقول " نينا " : " ان ما يهمنا سواء كنا كتابا أو ممثلين ليس هو الشهرة أو التألق أو تحقيق الأحلام ، وانما هو القدرة على التحمل . تعلم كيف تحمل صليبك وتحتفظ بايمانك " .
ونلاحظ هنا ليس المقصود بالألم - فقط - ما كان سببه المرض والعاهات ، بل هو كل ما يثير ثورة فى النفس فيتحرك " الانسان " أو يستعد - فكريا
ووجدانيا - ليبدع وينشئ أو يغير ما كان راكدا وجامدا . وقد يكون " تطهيرا " - كما أشار ارسطو - ذلك الأثر الفني لمبدعه أو لمتلقيه .
6 - نقمته وتمرده :
ما تقدم يطرح من جديد : قضية نقمة الشابى وتمرده :
يا ربة الشعر والأحلام غنينى فقد سئمت وجوم الكون من حين
على الحياة انا ابكى لشقوتها فمن إذا مت يبكبها ويبكينى ؟
يا ربة الشعر ، غنيني ، فقد ضجرت نفسي من الناس أبناء الشياطين
وهكذا هرب الى " الطبيعة " لأن الواقع البشرى البائس لبنى قومه يضيق عن أحلامه وأفكاره وأمانيه ، شأنه شأن الرومانتيكيين :
يا لها من معيشة فى صميم الغاب تضحى بين الطيور وتمسى !
يا لها من معيشة ، لم تدنسها نفوس الورى بخبث ورجس
كان فى كوخه الجميل مقيما يسأل الكون فى خشوع وهمس
عن مصب الحياة ، أين مداه ؟ وصميم الوجود ، أيان يرسى ؟
وقد رأى نفسه " النبى المجهول " فوقف خطيبا - يذكرنا بالحجاج بن يوسف فى أهل العراق -
أيها الشعب ! لبتني كنت حطابا فأهوى على الجذوع بفأسى !
ليتنى كنت كالسيول إذا سالت تهد القبور رمسا برمس !
ليتنىكنت كالرياح ، فاطوى كل ما يخنق الزهور بنحسى!
لأنهم " لم يفهموا أناشيده ولا معاني بؤسه " .
لكن حبه لشعبه ولأمته ووطنه ، ثم احساسه العميق بالحقيقة ، وما لذلك من تأثير على قلبه ووجدانه . . نثر أمامنا وأمام نفسه المتألمة الأسباب " التى احدثت تلك بينه وبين شعبه - حتى يبرئ نفسه من الحقد والضغينة وتبقى النقمة قائمة - فخطب وقد تأسى لنفسه وتألم متفردا :
ايها الشعب ! أنت طفل صغير لاعب بالتراب والليل مغس!
انت في الكون قوة لم تسسها فكرة عبقرية ، ذات بأس
أنت فى الكون قوة كبلتها ظلمات العصور من أمس أمس . .
والشقى الشقى من كان مثلى فى حساسيتي ورقة نفسى
لقد كانت له الثقة بالشعب ، فكتب سنة 1933 - وقبل وفاته بسنة تقريبا قصيدة " ارادة الحياة " وهي أروع ما كتب الشابي :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلى ولا بد للقيد أن ينكسر
" إذا طمحت للحياة النفوس فلا بد أن يستجيب القدر ! "
7 - احساس بالبيئة والعصر . . وظهور " الفردية " :
لقد كان الشابى معبرا عن عصره ومتفاعلا معه ، ومع بيئته ، فرصد عن قرب : الظلم والتضليل اللذين كانا يحكمان شعبه ، ويرهقان وجوده : الاستعمال الفرنسى والرجعية - ومن ارتبطت مصالحه بهما - فنشرا الجهل والمرض والفقر . . وعندئذ لا بد من ظهور " العبقريات الفردية " وقد تجمع فيها أو نما ما افتقد أو اخمد - لملابسات وظروف - فى الآخرين . . ذلك لأنه أوان ظهورها ، فكان " الشابى " عبقرية فردية فى مجاله - مثلما وجدت عبقربات فردية ، أخرى فى مجالاتها - وحينئذ تجد هذه الفردية فرصتها فى الالتفاف حولها - أو الخروج عليها - وهكذا تكتسب " المحورية " فى قرارة نفسها ولدي الآخرين .
والقيادة الفردية أو الانقياد للفردية ، ظاهرة عرفها الانسان منذ شروعه فى البحث عن " إله " يحتمى به ، ويقدم اليه القرابين ، متى رأى فيه جانبا من جوانب القوة أو العظمة أو عجز عن تصوره أو الاحاطة به ، لأن " البطولة - الفردية - مهما يتنوع مدلولها فانها لا يمكن أن تتفق مع الحتمية العلمية " هى بعد ذلك تشد الأنظار والقلوب والعقول - احيانا - اليها وتسد المعالم والطرق عن اكتشاف آخرين ، وقد تنتهى ظروفها قبلها ، لكنها تبقى قائمة مسيطرة على تفكيرنا وسلوكنا ، مع تطور الزمن وتقدمه ، وتغيره ، وقد تصبح من " الثوابت " لكل عصر ، لأن المطلق " و " المثال و"الفرد " يشد انتباهنا أكثر من غيره ! . ولأننا عندما نحاول بحث الظاهرة - نخرج بها عن إطارها الحقيقى ، ونعطيها تعميمات تنسينا الدقة معها ، ونتخاذل فى البحث عن الجذور . متسرعين الى السطح ، فتكون المفاهيم أو " النتائج " ذاتية تأثرية ، ولذلك نبقى " الظاهرة " باستمرار تملأ علينا حياتنا ، لأنها لم تستوف حقها ، بحثا وموضوعية .
ومن هناك يكثر تعدد أو تعاقب الباحثين - وبتسمية أدق - المتكلمين عن تلك الظاهرة مع عدم التوصل الى نتائج جديدة أو هي ذات أهمية .
8 - خاتمة : فى منهج لدراسة " المبدع " :
رأيت أن أختم ملاحظاتى بالاشارة إلى مذهب " سانت بيف " " 1804 - 1869" فى النقد أو البحث الادبى ، حيث " .. دعا إلى دراسة علمية تقوم على بحوث تفصيلية لعلاقاتهم بأوطانهم وأممهم ، وعصورهم ، وآبائهم ، وأمهاتهم ، وأسرهم ، وتربياتهم ، وأمزجتهم ، وثقافاتهم ، وتكويناتهم المادية والجسمية ، وخواصهم النفسية والعقلية ، وعلاقاتهم بأصدقائهم ومعارفهم ، مع التعرف على كل ما يتصل بهم من عادات وأفكار ومبادئ ومع محاولة تبين فترات نجاحهم واخفاقهم ، وجوانب ضعفهم وكل ما اضطربوا فيه طوال حياتهم فى الغدو الرواح وفي الصباح والمساء " :
ولقد حدد " سانت بيف " منهجه بقوله : " . . والمسألة الجوهرية . . هي الاحاطة بالانسان وتحليله فى اللحظة التى تظافرت فيها عبقريته وثقافته وكل ظروف الاخرى ، فجعلته ينتج كتابه القيم ، فاذا فهمت الشاعر في هذه اللحظة ، واذا حللت هذه العقدة التى فيها يتجمع كل شئ فى نفسه ، واذا وجدت مفتاح هذه الحلقة الغامضة التى تربط وجوده الثاني المشع المتألق الجليل بوجوده الأول الغامض المنزوى المتوارى الذى قد يريد الشاعر محو ذكراه ، آنذاك يمكن أن يقال انك نفذت الى جوانب شاعرك وانك على علم به . "
ويقول عنه الدكتور غنيمي هلال فى كتابه الرومانيكية " : " وسانت بيف يعتمد على ملحوظاته الدقيقة فى حياة الانسان ليفسر بها انتاجه ، ويبين أى نوع من الناس هو ، وأثر حالته الطبيعية أو المرضية ، ودلالة الصور التى يستعملها على استخدامه لحواسه وقواه . . فالنقد على حد تعبيره : " يعلم الآخرين كيف يقرأون ؟ " ثم على النقد بعد ذلك أن يتجاوز القيم الجمالية الى بيان روح العصر من خلال نفسية المؤلف " . وقد تردد كثيرا فى شعر الشابى (1909-1934 )ذكر المرض والموت والحب والحياة . . لكنه أتى فى أوانه ومات فى أوانه بعد أن قال كلمته - وعمر الانسان لا يقاس بالسنوات ، بل بأشياء أخرى كثيرة - :
اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلى ولا بد للقيد ان ينكسر
***
إن ذا عصر ظلمة غير اني من وراء الظلام شمت صباحه
