(( ما أزخر العالم الذى أحمله فى رأسى ! لكن كيف لى أن أتحرر منه وأحرره بدون ان أمزق نفسى ؟ لأمزقن نفسى ألف مرة أفضل لدى من أن أشده إلى أو أن أقبره . إنى هنا من أجل ذلك ، وانى مدرك له أعمق الادراك )) . ( يوميات كافكا - 21 جوان 1913 - ص 273 )
قرأت بعناية فى عدد فيفرى من مجلة (( الفكر )) الغراء مقال : (( هل من جديد فى التجديد )) الذى حبره السيد جمعة شيخة تحليلا للجزء الأول من قصتى (( الانسان الصفر )) ، المنشور فى عدد ديسمبر 1968 . وهو ، فى الحقيقة ، تحليل يتسم ، من جهة ، بالانتقاد والتهجم والبذاءة فى عدد من الالفاظ والتعابير ( والادب براء من كل هذا ) ومن جهة أخرى ، بشئ من الاجتهاد فى فك مضامين وشكل هذا الجزء فكا يشبه الموضوعية ، وله شكرى على موقفه الثانى وإن كنت لا أوافقه عليه .
وأريد أن أؤكد هنا انى لن أعود الى شرح ما جاء فى (( الحزب )) المنشور ، ذلك أنى قد بينت فى مقالى السابق : ( المغالطة ) وجهات نظرى فى عدد من القضايا الادبية الهامة التى هى ما زالت ، فى اعتقادى ، فى حاجة الى مزيد من النقاش العميق من قبل من يهمهم الفن القصصى والروائى لا من طرف من يشتم باسم الدين . . . وقبل الدخول فى النقاش فى موضوع (( التجديد )) وبسط وجهاتى نظرى فيه ، ما دام السيد جمعة شيخة قد صدره فى مقاله المذكور ، أريد أن أشير الى قضية أراها هامة طالما غابت عن الاذهان ، وهى علاقة النقد بالخلق .
أقول : إن للنقد موقفين اثنين لا ثالث لهما حيال الخلق :
1 ) إما أن يكون النقد لونا من التعليق على الخلق ، وذلك اعتمادا على القواعد
والقياسات والصيغ المقننة ، واستنادا الى سامى الاعمال الماضية وأرقاها ، وفى الطرائق المعهودة ، وباسم الدوق والمعقول و (( النزول الى مستوى القارى البسيط )) وبعنوان المعتقدات الدينية والاجتماعية والاخلاقية والفلسفية والنظريات النفسانية وغيرها والاختيارات السياسية ، فيكون هذا التعليق هامشيا أفقيا ، مسطحا ، يحوم حول الخلق ، ويدور فى حواشيه ، ويلاحقه فلا يصيبه ، ولا يظفر به . وبما أن النقد ونسغه تجاوز فى القراءة ، والفهم ، والتأويل والادراك ، والمشاعر ، والافكار ، فان هذا اللون من النقد يظل قاصرا ، بل عاجزا كل العجز عن فتح أقفال الخلق ، وفك ألغازه ، وهتك اسراره . ومتى كان هذا اللون مناقضا لمبدأ التجاوز ، متشبثا بالقواعد المقننة ، مخالفا لربط الاتصال المتين الصحيح بالخلق ، معتصما بالافكار المعروفه ، فانه سيؤول الى الاخفاق لا محالة . وان تاريخ هذا اللون من النقد فى الآداب والفنون حافل بالامثلة .
ومن نتائج هذا اللون من النقد اتخاذ احد موقفين كليين : الرفض أو القبول . وفى الرفض انكار ، واستنكار ، وجحود ، ومغالطة ، وتمويه ، وتهجم ، وعناد ، وصلف ، ومهاترة ، وعصا وفلقة ، وتشهير ، وتنديد ، وتحريش ، وغرور ، وسب ، ومركبات نفسانية ، واجتماعية ، وثقافية ، وأدبية ، وحتى لغوية . وفي القبول تبرير ، ومحاباة شفافة ، وعطف خائن ، وصدق زائف ، وتمجيد حقير ، ومجاملة لحظة ، وتضليل القارىء ، ومخاتلة الكاتب ، وعصبية أدبية لا جدوى وراءها .
ومهما يكن باع هذا اللون من النقد وقدرته وسلطان القائل به ، فانه لن يستطيع أن يفسخ البعد المتباعد الذى يفصل بينه وبين الخلق . ومن ذلك ، يتولد سوء الفهم ، وينجم عدم التفاهم ، ويستقر خطأ التأويل والظنون فى الاذهان . . .
وبالاضافة الى ذلك ، فان هذا اللون من النقد هو (( مدرسى )) فى وسائله ، ونظرته ، ومنزعه . أعنى بذلك انه يطالب الأثر الادبى أو الفنى ان يخضع له ، فيكون فى مستوى ذوقه ، وفى درجة ادراكه ، وفى حيز متناول يده ، لترضى عنه نفسه ، ويطمئن له قلبه ، ويركن اليه عقله ، وهو يطالب الأثر أيضا بأن يجد فى صلبه وإطاره القواعد المقننة مطبقة بحذافيرها اذ يراها غالبا صفوة تجارب جمالية سرمدية صالحة لكل زمان ومكان ؛ وعلى هذا الاساس ، يريد هذا اللون من النقد أن يتخذ من ذلك الأثر الادبى او الفنى قاعدة مدرسية لتربية من يروم الخلق جيلا إثر جيل .
والمعلوم ان القواعد أرائك مريحة ! . .
2) وإما ان يكون النقد فى الخلق دخولا واقتحاما ، والى صلبه تسللا ، والى صناعته تسربا ونفاذا ، وفى أغواره غوصا وانغماسا ، ولمضامينه فضا واستكشافا ، ولاشكاله تحييرا وتحريكا وإبرازا ، ولغوامضه استجلاء وتبيانا ، ولأسراره فضحا ، ولحجبه تمزيقا ، ولاقنعته كسرا ، وبمكنونانته بوحا فروحا ، حتى لا يمكث بعد السبر بله العزق شئ .
ولهذا اللون من النقد النافذ الى الاعماق مناهج حركية يجد القائل بهذا اللون فى صلب الأثر الادبى او الفنى المدروس نفسه .
فلو درست (( رسالة الغفران )) مثلا لصاحبت أبا العلاء ( او الشخصية التى رسمها مشابهه له ) فى مغامرته عبر الآخرة ، ولكنت مواسيا له فى محنه وخطوبه ، رفيقا به فى تعثره وتردده ، مترجما عنه فى حزنه واضطرابه ، منفسا عليه كربة الشك ، مسدلا على صدره برد اليقين ، واصفا معه أهل النار ، ذاكرا معه أهل الجنة ، مساعدا إياه فى الحصول على الشفاعة ، فرحا لفرحه .
ولو درست شموس (( فان فوق )) فى لوحاته المشرقة المشنجة ، لادركت منابع النور فى صدر هذا الفنان ؛ ولو درست (( فرنيكا )) لثرت مع (( بيكاسو )) على القمع والظلم فى سبيل الحرية ، ولو درست (( معمارية لوكر بوزيى )) لبلغت ما يدركه من خلال قولته الشهيرة (( إنا نريد ان نبنى المدنية السعيدة الضاحكة )) .
وتأتى بعد ذلك الحواشى والهوامش والتذييلات ...
ويكون نقدى كما يقول الفيلسوف الناقد الفرنسى (( مرلوبونتى )) (( فينو مينولوجيا )) : كما فعل (( موريس بلانشو )) حين دخل عالم (( أناشيد مالدورور وكما فعل (( غايطان بيكون )) حين اقتحم وخاض فى (( الزمان الضائع )) فى رواية (( بروست )) ، وكما استخرج الطبيعة (( غسطون باشلار )) من النار مثلا ، وكما عصر (( بان كوت )) شكسبير . . .
ومن نتائج هذا اللون من النقد السابر للأعماق الادبية والفنية ، ان الناقد لا يستطيع أن يطالب بما ليس بموجود بين يديه ، اللهم اذا تطاول على المؤلف ، واحتقر صناعته مهما كانت قيمتها ؛ اذ انه - كما قلنا سابقا - يعيش كليا ضمن الأثر ، فيتجاوب معه ، ويحاوره ، ويناقش بالتالى باعثه ؛ إذ ان شخصيته - عكس التلاشى والذوبان - تنصهر فى ذلك الاثر لاستخراجه وابرازه . وعلى قدر العمق تكون الدراية ، اى على قدر الانغماس فى الذاتية تكون النظرة
أصفى وأحل وأدق ؛ إذ انه لن يستطيع ترويض (( الجديد )) ودوجنة (( الغرابة )) وتشريع (( البدعة )) ومعرفة قماش (( الاتقان )) الا اذا استعمل الناقد مفاتيح المؤلف لفتح أقفال أثره .
وكيف يكون عكس ذلك ، بينما الخلق سابق ، والنقد لاحق ؟ ولو كان النقد أولا والخلق ثانيا - كما يفعل اصحابنا فى مجلاتنا وصحفنا - لآل الخلق الى ضرب من الجمود والركود والتعليمية !!! وذاك ليس بأدب ! ...
وللزيادة فى توضيح التباين بين هذين اللونين من النقد ، أقول : إن الاول - وهو ما وصفته بالتعليق - هو بمثابة نظرة عالم الآثار الذى يقنع بملاحظة ما برز فى مستوى سطح الارض من المعالم الدارسة ، واعتمادا على ذلك يشرع فى التأويل والتفلسف . . . بينما الثانى - وهو ما نعته بالتعميق - هو عبارة عن نظرة عالم الآثار - المدرك لعمله - الذى يحفر الارض ليستخرج منها ما دفنه الدهر من المدن والمعابد والمسارح والاعمال الفنية . . .
وبعد ، انتقالا من مجال النقد الى ميدان النظريات الجمالية فى الخلق ، أقول : إن القضية التى بسطها السيد جمعة شيخة فى هذا السؤال : (( هل من تجديد فى التجديد )) هى قضية لا أصل لها . لانها فى الحقيقة ليست قضية (( التجديد )) و(( تجديد التجديد )) والمعارك الدائرة بين (( الجديد والقديم )) وبين (( التجديد والتقليد )) ؛ وانما هى قضية تنحصر ، فى رأيى ، فى نظرة الكاتب الى الحياة والى الموت والى الكون ، وعلاقته بنفسه ، وبالآخر ، وبالواقع ، من خلال ما يقدمه لنا من ادب ادبى ؛ هذا الكاتب الذى تفتحت بصيرته ، واينع وجدانه ، وقام وعبه إثر الاستقلال السياسى فى بلادنا ، وفي غمرة الكفاح من أجل دعم الاقتصاد وتنظيف المجتمع ، وبناء الشعب على أسس المعرفة والعلم والحرية والاشتراكية لا على كلمات سفيهة مثل (( التجديد والتقليد )) .
وهذا الكاتب هو من الجيل الحاضر الذى يؤمن بأن للكلمة فعالية فى بناء الغد وبان للحرف جدوى فى توطيد أركان الشعب وبان للكتابة معنى والف معنى فى تشييد صرح الاشتراكية فى بلادنا .
ولقد قال كاتب هذه السطور فى مقال له قديم : ان عمل الكاتب ولاسيما الكاتب القصصى لا يقل قيمة وتأثيرا فى المجتمع من عمل المهندس فى مصانع الحديد والفولاذ .
وان الكاتب ليذكر بهذه الجملة لا للتعريف بافكاره ، بل لانه يعتبر نفسه
واحدا من الجيل الحاضر من الكتاب ، الواعى (( الوعى التاريخى )) الحاد بعصره ، وبماضيه ، وبمصيره ، وبانه رائد بكلمته ، فعال بحرفه ، مسؤول كل المسؤوليه عن الحاضر ، حتى يكون قد ساهم فى الخروج من دروب التخلف فى شتى أنواعه وأشكاله .
وبحكم الظرف التاريخى ، والتكوين الثقافى ، والتحمل ، والانتاج ، كانت نظرة هذا الجيل مخالفة كثيرا ولا مناقضة لنظرة الجبل السابق الى ما حواليه ، والى الواقع ، والى الآخر ، وبالتالى الى الفن والادب والفكر .
وهدا الاختلاف الكبير بين النظرتين أمر طبيعى يدركه كل من له عقل سليم من الظنون ! . . .
فرسوم (( نجيب بلخوجة )) مثلا تختلف كثيرا عن لوحات القائلين بالفوكلور ، ومجلة الفكر فى سنواتها الاخيرة تختلف كثيرا عن سنواتها الأولى ، ومجله قصص تختلف كثيرا عما نشر من القصص فى (( الثريا )) و (( المباحث )) و (( مجله العالم الادبى )) ، ويزيد هذا الاختلاف عمقا كلما زادت المسافة الزمانية .
ومن أهم مميزات هذا الاختلاف بين النظرتين : ان الجيل الحاضر من الكتاب يتوق الى بناء الغد اعتمادا على عصره وحوارا مع ماضيه ، ومنقذا منه ما يجديه شى يومه وفى غده ، ومناقشا إياه على أساس (( المعاصرة )) لا معجبا به لانه ازدهر فى زمان ما ومكان ما ، ومحاسبا إياه أشد المحاسبة على تدهوره ولا مقدسا إياه لانه كان عصارة الحضارة العالمية ولا مغرورا به . بينما تتجسم نظرة الاجيال السابقة منذ مطلع القرن العشرين تقريبا الى الاعوام الستين فى انها كانت تريد بناء المستقبل فى صورة الماضى المجيد التليد ، وان يتسلط الماضى على المضارع ، فيحكم فيه اى بتعبير عبد الله العروى صاحب الايديولوجية العربية : ان تعيش مستقبلها فى حالتها الماضية المفقودة !
فكيف اذن نتفق النظرتان ، أيضع الجيل الحاضر على عينية منظار الماضى الذى هو منظار الاجيال السابقة ليرى المستقبل ؟
ومن هذا الاختلاف الجوهرى بين النظرتين ، أراد الجيل الحاضر ان يراجع قيم الاجيال السابقه وان يعيد النظر فى مفاهيمها الفكرية والادبية والفنية وقد رأى ان بلادا عظيمة اليوم قد شيدت صرحها بدون ماض ! . . وقد رأى عاصمة بلاد تبنى فى جهة كانت الادغال تعمها غير آهلة ولا مستعدة للعمران ! .. وقد رأى العلم يطغى على كل شئ حتى على زرع القلوب والحلوق والعيون ! ...
وتساءل هذا الجيل الحائر أمام انتفاضات أوروبا واكتشافات أمريكا وقهر العرب من طرف اسرائيل والزنوج من طرف العنصريين واخضاع البلاد المتخلفة لقرارات الدول العظمى ، تساءل :
كيف يكون الكاتب مضارعا لعصره ؟ - كيف يصنع التاريخ ؟ - كيف يشيد مستقبله ومصيره ؟
- وماذا يقدم من زاد فكرى وايراد علمى لهذا العالم وفى هذا الثلث الثالث من القرن العشرين حتى يكون بلده ندا للبلدان الاخرى ؟
فهذا البلد يصنع الصواريخ والجرارات والعدادات الالكترونية ، وبلدى ما زال بحث عن صنع شفرات الحلاقة ! كيف الخلاص ؟ وكيف اللحاق ؟ وكيف المصير ؟
وهذا الكاتب الاجنبى يخلق تيارا فكريا عظيما يبدل بها مفاهيم الناس فى حياتهم ببلاده ، وهذا الكاتب القومى ما زال يردد على مسامع الناس شعر السليك بن السلكة واصحاب المعلقات والعذريين ويقرأ أمثال المنفلوطى والرافعى وجبران خليل جبران ويحتج فى النحو والصرف باسم الكوفيين والبصريين ، وبين هذا الجيل وهؤلاء قرون ودهور ! وما زال يتخبط فى معارك الريح الفارغة التى لا أصل لها . فكيف الخلق اذن ؟ وكيف تكون كلمتنا العربية مسؤولة عن عصرنا ؟
تلك هى المسألة كما قال هملت !
الخلق انفجار ذاتى تلقائى مجانى محض لا علة له ولا سبب . التساؤل دافعه اللاواعى ، والحمرة امام الواقع والحياة محركه اللاشعورى ، والدهشة امام الاحداث والموت والناس دعامته الداخلة فى الاعماق .
والخلق حرية لا تعرف الحدود ولا تعترف بالقيود ، وتتمرد على القوانين ، وتثور على التتلمذ ، وتقاوم التمذهب ، وتغزو المجهول حتى تكاد تكون فوضوية متى كبتت وعقلت وتجمدت صارت ممسوخة مشوهة حقيرة مبتذلة كالعاهر فى خدمة الجنود .
والخلق ينطلق من الواقع فيعتمده ، ويقفز من الدنيا فيرتكز عليه ، ويثب من الحياة المتحركة دوما ، المتقدمة دوما ، المتطورة دوما ، متى وقفت لحظة مات الخلق .
والخلق هو الزمان بأوصاله الثلاثة متجمعة ، متكثفة ، متعاصرة ، متلحم بها ، منصهر فيها ، مترجم عنها ، وقائل بها متى انصرمت تمزق الخلق وتدهور واغتيل .
والخلق والواقع واحد ، والخلق والزمان واحد ، والخلق والانسان واحد ، والخلق والحضارة واحد ؛ متى انفصل الاول عن الثانى جاء الانحطاط والتدهور والجهالة ، ومتى التأمل وتوحدا اقبل الازدهار والرفاه . والخلق فى العصر العباسى تزوج بالانسان ، وذاب فى الواقع ، وتأطر فى الكون ، وتمخض فى الحضارة ، فنطق الخلق العربى الاسلامى فى القرن الرابع باسم الحضارة العالمية ، ونطقت الحضارة العالمية باسمه فكان صلبها ، وكان جوهرها ، وكان قلبها النايض ، وكان فكرها الوقاد ، وكان هاديها ومرشدها .
والخلق فى مجال التنفيذ عمل شائق شاق ، معركة دائرة بينه وبين منفذه . اما ان يروضه وإما أن يأكله كعمل المتصوفة فى قهر النفس .
والخلق تجاوز أبدى . لانه يتضمن الحيرة فى أعماقه . والحيرة فى هذا المعنى أخذ ورد ، وقلق مستمر ، وجدلية سجال . فان هو تمكن من الحاضر ، فلأنه منطلق حتما نحو المستقبل .
والخلق رادار المستقبل .
ولقد اختار الجيل الحاضر من الكتاب والفنانين برووية ووعى ان يكون الخلق - بوجه عام - سائرا فى تنفيذه فى طريق ثالثة ،
- غير الطريق الاولى التى مشى فيها الاجداد ومن بعدهم من أرادوا احياء الأموات .
- وغير الطريق الثانية التى يسير فيها العالم الغربى اليوم . - بل فى درب ثالث يبعده باجتهاده وجهده اعتمادا على ما ينقذه من متاحف الماضى وما يقتبسه من نبراس الغرب اليوم من علوم انسانية وفلسفه وآداب وفنون ، وذلك تماشيا مع مقتضيات المعاصرة لا مع متطلبات الماضى .
وبعد ، أقول للسيد جمعة شيخة أنك تتوهم اذا فكرت فى ان قصتى كانت نتاج السهولة . ومن يخالفك فى الطريقة وفى الرأى وفى الصناعة ليس معناه انه يجهل طريقتك ورأيك وصناعتك وليس معناه انه أقل من طريقتك وزنا ومن رأيك قيمة ومن صناعتك ابداعا وهذا معنى أساسى من معانى الحرية لا يجهله أستاذ ومرب !
أما (( الافكار المبتذلة )) فان بوسعك ان تجدها فى (( الجمهورية )) وفى (( ابن رشد )) وفى (( مفكرى الصين )) وفى (( المنزلة الانسانية )) . ولا تنتظر من الكاتب ان يقول لك شيئا جديدا بل ترقب منه ان يقدم لك فنا حديثا .
وأما اللغة ، فأنت غير عليم بها . فعد إن شئت الى كتبها القديمة العربية الاصيله وارجع الى مصنفاتها الغربية الحديثة . . . وانه لمن العيب الا يحسن استاذ فقه اللغة العربية وعلم اللغة الحديث . فكيف يكون الحمل الذى هو بصدد تكوينه بالعربية ؟
واما اخضاع النص لفهمك لا فهمك للنص فهذا من غريب القراءة والتأويل والشرح . فلو انك لم تطالب بأشياء هى خارجة عن النص - اى انك تجبرت برأيك - لادركت الكثير .
وإما كلامك الذى يتصف بعضه بالبذاءة فان الكاتب قد سكت عنه وليس معنى ذلك انه راض . وانما فى وسعه ان يستعمل (( العين بالعين والبادىء أظلم )) لكنه فى رده عليك يحترم الكلمة فلا يلوثها وان فعل ذلك أستاذ مرب ، كما يحترم القراء الذين لا يريد الكاتب منهم ان يقرأوا الكلمات السفيهة ، ولأن الكاتب مشغول عن المهاترات التى ليس لها علاقة بالكتابة والادب والفكر ، وإنما بالجهل الاظلم الأسحم .
ما زلت اطرح قضية النقد والنقاد الاكفاء المسؤولين فى بلادنا ، هؤلاء (( النقاد )) الدين لا اتحرج بوصفهم : (( بأنهم يتعلمون الحجامة فى رؤوس اليتامى )) ! . . .
ولو بذل الكتاب على اختلاف مشاربهم عشر ما ينفقه الساسة والزعماء من التفكير والعمل لما قرأنا للسيد جمعة شيخة شيئا .
ع. م.
