معنى النقد اللغوى اصل للنقد الادبى يقال نقد الدراهم وانتقدها اذا ميز جيدها من ردئها فالاستعمال الادبي اذن استعمال مجازى . وكما ان الذى ينتقد الفضة والذهب يجب ان يكون خبيرا فكذلك من ينتقد الادب يجب ان يكون به وبمذاهبه بصيرا وكذلك من ينتقد الاخلاق او الافكار او السياسة او المجتمع .
قال ابن سلام ( طبقات الشعراء ) : وللشعر صناعة وثقافة يعرفها هل العلم كسائر اصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الاذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره ، من ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا حس ولا صفة ، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها ومنه البصر بغريب النخل ، والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده وتشابه لونه ومسه وذرعه حتى يضاف كل صنف منها الى بلده الذى خرج منه الخ كلامه ( 1 ) . .
واذا لم يكن الناقد الادبي خبيرا كما يجب ان يكون ، فقد يفهم النص على غير وجهه واذا فسدت مقدمات البحث فسدت على الغالب نتائجه وكثيرا ما نجد الذين شانهم كذلك يخطئون من وجوه
1 ) فقد يستعيرون فهم غيرهم فيسيرون على سننهم ويقولون بارائهم ويطمئنون بعد الى متجههم . وقد يكون السابقون على خطأ مبين في حكمهم ، 2 ) وقد لا يفهمون ما عناه الاولون فيحملون كلامهم ما لا
يحمله ويشملونه ما لا يشمله وكثيرا ما يصدر الخطأ عن تكبير الدائرة بأفهام قاصرة لا تحكم تقدير مواقع التقدم في طرق البحث .
3 ) وقد يعتمدون على الباحثين الغربيين في الادب العربي آخذين بأقوالهم كما يؤخذ الوحى الموحى وليست العصمة لشرقي ولا لغربي ولو كان عليما خبيرا ، وللمستشرقين فى فهم الادب العربى مزالق لسنا في مواطن اثباتها ( 2 ) وما اكثر ما يشكون للشك ويتوهمون للتوهم فيخلقون العثرات في السبيل اللاحب ويعلنون الظفر باليسير الواضح وللعربية ذوقها الدقيق الذى يحتاج الى مراس لا الى ترديد اقوال الناس او القادحين .
4) وقد يتخذون الادب العربي نفسه قدوة لهم فيسألون عن مثل جماله وألوانه واسراره في الادب العربى ولا يتساءلون عن مثل جمال الادب العربي وألوانه واسراره من الادب الغربى ليعرفوا خطاهم في التاسى والاقتداء ، فما كان الادب الا ابن بيئته والهامها وتجاربها ولا تستوي انغام البيان وانغام الكمان . ولذلك لا يسيغ الادب العربى مقاييس النقد الادبي الغربية دائما لان لفنونها امكنتها وازمنتها وتصويرها وتعبيرها . واول ما يحتاج اليه النقد ( الذاتية ) مقرونة بالاخلاص فإذا اختلفت طريقة للنقد عن طريقة فلكل ناقد وما يختار
فالناقد يجب ان يصدر عن رايه ذاته ويجب ان يكون هذا الرأى مستجمعا ما ينبغي ان يستجمعه حتى يتصدى لجرح النصوص وتعديلها وتقريظها وتحكيمها .
وقديما قال أبو الطيب
وكم من عئب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الافهام منه على قدر القرائح والعلوم
وحديثا قال امين الدين تقى الدين :
ان الجهول اذا قلدته قلما مثل الجبان اذا قلدته خذما
وقد يعجز الشاعر عن نقد الشعر والناثر عن نقد النثر فليس بالأمر اليسير ان يجتمع لامرىء عمق النظر ورقة الشعور ودقة الملاحظة
وسلامة الذوق وغزارة المعرفة والبعد عن الاهواء واذا لم يكن الناقد بعيدا عن هواه كان محاربا حاسدا لا مصلحا ناقدا ولانه مريض الخلق يشفى الطعن نفسه ويذهب غيظها وما اكثر من كان شأنهم كذلك ممن يريدون ان يرتفعوا بوضعهم من لا ذنب لهم الا الإحسان ويشتهروا ولو بقول السباب والافتراء والبهتان .
وقد يبتلى بهذا المرض مرض النقد بالافتراء اناس بلغوا مكانا عليا في مجتمعهم ، فيخدع باقوالهم من لم يعرف كيف صاروا الى ما هم فيه ، ولم يقف على ما يتجهون اليه وما ينطوون عليه من فساد المقاصد وسفساف المآرب .
فليس من اليسير وجود اوللائك النقاد الجبابرة الاعلام العقليين المخلصين فإذا وجدنا من سواهم اناسا لا نحصيهم عدا تنشر في الصحف او الكتب ملفقاتهم التى سموها نقدا فانهم بالاطفال العابثين اشبه منهم بالناقدين الصادقين . وكثيرا ما يلح الاطفال على ابائهم في طلب الاقلام والالواح ثم لا يكون عليهم جناح وهم يهرفون ولا يعرفون ويؤثرون في صفحاتهم ولا يسطرون . وانما اللوم على من يظن ان ما تركوه كتاب وما ادعوه جواب ولنقد الافتراء ضرر كبير وخطر عظيم في المجتمع لانه كثيرا ما يرهب ذووه بسلاطة اقلامهم من لا يقوى على الدفاع فيرتد مخذ ولا مدحورا .
اما ) النقد الصادق فإنه يفيد الادباء الناشئين ويفيد القراء المفيدين ويفيد الادب نفسه . فلننظر فى بيان ذلك .
اما انه يفيد الادباء فمن الوجوه الاتية :
أولها : ان يفسر آثارهم ويبين الاصول اللازمة لفهمها والوجوه التي تفهم عليها وهو بذلك ييسر قراءتها على الناس ويصل بينهم وبين الشعراء والكتاب الذهن قد لا يعرفون لو لا النقاد . وبهذا تتمكن منزلتهم من النفوس ويشتركون في بناء الحياة الاجتماعية مؤثرين ومتاثرين وكثيرا ما يكتب لهم بذلك الخلود وكثيرا ما نرى فى العصور الادبية كتابا وشعراء بقوا مغمورين احياء وامواتا حتى اتيح لهم النقد فطغوا على لجج الحياة ونشرت آثارهم واستانفوا عمرا جديدا خصبا خاليا من الافات ولا تزال متاحف الكتب ملأى بشكل نافع ينتظر المنصفين من النقاد ليدلوا عليه او يعنوا بنشره فينشر معه صاحبه .
ثانيها : ان النقد يقوم الادباء فهو الذى ينظر في مقدار ما وفقوا فى الوصف او القصص او المقال او الخطابة سواء أكان ذلك من حيث التعبير الصادق لذاته ام من حيث تأثيره فى الحياة والإحياء فإن كانوا مخطئين دلهم فيه الى الخطأ وشرع الصواب وان كانوا مصيبين روج لهم ووطد طريقتهم ورسم لهم مثلا كاملة واخذ بايديهم . لهذا كان النقد المنصف هدى ورشادا وكان خاضعا لا صول مقررة ترضى الناقد والكاتب في اغلب الاحيان .
ثالثها : انه يدل الادباء على رأى الناس فيهم ويلفتهم الى تقدير هؤلاء القراء ومراعاتهم حين الانشاء الادبى والى التخفيف من غلوائهم ليكونوا مع الناس في الف ونحوه ، فيتحقق بذلك التعاون الثقافي والتهذيبى ويدخل الادب الى الحياة ينير سبلها ويخفف من شقائها وينشر على الناس جمالها
والنقد الادبى يفيد القراء من عدة نواح
الاولى : انه يقرب اليهم الاثار الادبية كما مر ويساعدهم على فهمها وقدرها ... الخ
الثانية : ان النقد يرسم للقراء طرق القراءة النافعة لان الناقد يكون اكثر مرائة واعمق فهما واقدر على التفرقة بين انواع الادب وعلى تحليل نصوصه . الخ
الثالثة : ان النقد يساعد القراء على انتقاء الكتب التى تتصل بدراساتهم او تكون الذ لهم وانفع فيعرض عليهم خلاصات لها كافية ويبين لهم نهجها ونواحى الكمال او القصور فيها . الخ
والادب نفسه يفيد من النقد امورا هامة :
1 ) منها انه يقوى ويتقدم ما دام النقاد يتعقبون الادباء فيشتد التنافس بين هؤلاء . الخ .
2 ) والنقد الخالق لا يقف عند بيان المحاسن والمساوى وانما يتعدى ذلك الى اقتراح ما ينهض بالادب ويوسع في افاقه من فنون جديدة او اساليب ممتعة او افكار تخص الادب وتزيد ثروته . . الخ
3 ) والنقد يكثر انصار الادب ويبسط سلطانه على النفوس ويبين صلاته المتعددة بالزمان والمكان والافراد ويبين قيمته الفنية ويفسح له بين الفنون والعلوم . الخ ( 3 )
والنقد فى ادبنا العربى قديم عرفته الجاهلية وعرفه الاسلام ولو عاش طويلا مختلطا بالبلاغة وهى تسير فى طريقها الى مقاصدها .
ففي الجاهلية نجد ادبا قويا جميلا ارقاه الشعر يصور بيئته واهلها اجمل تصوير ويعبر عن خلجات النفوس ونبضات القلوب وهمسات الضمائر ولمحات الامانى بل قد نجد فى الشعر الجاهلى من الصور الممتعة ما هو اجمل من بيئته القاحلة يدرك ذلك كل من زار البيئة العربية وعرف من قبل او من بعد الشعر العربى المتين .
ففي بيئة الفيافي والشيح والقيصوم انتهى الشعر الى انسجام وائتلاف كما فى المقدمات وشعر عشرات من نابغى الجاهلية الذين ادركوا الاسلام او يدركوه . وما كان هذا النضج والإنسجام والائتلاف الا بعد شعور صادق ، ولقد كان يبدو النقد في اسواق للبلاغة وغيرها يقيمها العرب فيتقدم لنيل شهادتها من يثق بنفسه كل الوثوق فيعد قصيدته - او اطروحته - وكان النابغة الذبياني محكما تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه اشعارها ولسنا ندعي بهذا بلوغ النقد غايته ولكنه كان دعوة للتكامل الادبى .
وكان النقد الادبى من اهم العوامل فى ايجاد علم البلاغة وذلك ان الملاحظات والاحكام النقدية اقامت جماعة من العلماء فأحالوها قوانين واصولا ودونوها في فصول مختلطة بالنقد حينا ومنفصلة اخيرا .
حتى كانت اساسا صالحا لتكوين قواعد بلاغية قامت بوظيفتها فيما مضى ، وهي الآن آخذة في الاكتمال لعلها تنهض بالواجب عليها منذ الآن .
ومن يقرأ المؤلفين في هذا الباب من عهد الجاحظ المتوفى سنة 255 ه . وابن المعتز 296 ه . وقدامة 310 ه . والعسكرى 359 ه . وعبد القاهر الجرجانى 471 ه . والثعالبي 419 ه . وابن رشيق 463 ه الى الزمخشرى 538 ه . والسكاكي 626 ه يتراءى له ما قلنا من ان النقد كان عاملا هاما في هذا التقنين البياني ، وان هذين العلمين - او الفنين - قد عاشا مختلطين لم ينفصلا الا بعد جهد عنيف . وهذا الاختلاط بين مسائلهما طبعي ما دام موضوعهما واحدا هو النصوص الادبية من حيث توافر الجمال والتاثير فالبلاغة ترشدنا بقواعدها الى الطرق والوسائل التى تجعل كلامنا نافعا مؤثرا . والنقد يضع لنا المقاييس العامة التى نقدر بها ما فى الكلام من فائدة او قوة او جمال ( 4 )
ولقد كان للنضال الادبى بين الاسلام وشعرائه كحسان وابن رواحة والشرك وشعرائه ولمباحث اعجاز القرءان ولا ثار كبار الشعراء والكتاب الذين لفتوا الجمهور اليهم كان لذلك اثر عظيم في وضع قواعد النقد الادبي من ذلك ما نشاهده فى طبقات الشعراء لابن سلام من نفاذ بصر ودقة ملاحظة على الرغم من انه من علماء اواخر القرن الثاني واوائل القرن الثالث .
وقد استقرت طريقة المتقدمين في النقد على ما يتصل بالالفاظ والمعاني . فاسمع الجاحظ مثلا ينتقد بيتين من الشعر انتقادا لفظيا
لا تحسبن الموت موت البلى وانما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا افظع من ذاك لذل السؤال
وما نحسب الجاحظ لا يكترث بالمعاني ولكنه ياخذها مأخذ الألفاظ
واذا وثبنا الى عصر ابن الاثير ( 558 - 627 ) وقرأنا فى كتابه المثل السائر قوله فى الالفاظ : فاعلم ان الالفاظ تجرى من السمع مجرى الاشخاص من البصر . فالالفاظ الجزلة تتخيل فى السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار ، والالفاظ الرقيقة تتخيل كاشخاص ذوى دماثة ولين واخلاق ولطافة مزاج " .
اذا قرأنا هذه الفقرات وغيرها من كتاب المثل السائر كالفقرة المتعلقة بخصائص بعض الصيغ أو الفقرة المتعلقة بالابداع فى المعانى ندرك ان من المتقدمين من كانت لهم فى النصوص الادبية نظرات صادقات وملاحظات مصيبات واحساس عميق فى ألفاظها ومعانيها وما اكثر ما نجد ذلك كله منثورا فى كتب الادب شعره ونثره وقد تجد بعضها ما يرتقى فيبلغ درجة القاعدة او السنة التى تطبق فلا تخطي وتحكم فلا يعترض على صوابها .
وبعد . فإن الموضوع يتطلب المزيد من البحث واستكشاف الكثير من العناصر وعلى الناقد ان يكون بصيرا حتى لا ينقض حكمه .
