الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

ندوة القراء, ما اتعب الانبياء غير هؤلاء،

Share

ان الشاعر نبى كل عصر ! الاستاذ ع . د .

لقد كان نبه فاليرى فى كتاب له الى أنه من الخطا بل من الجرم مطالبة الشاعر بشرح شعره . ولعله لو بقى الى أيامنا هذه وقرأ مثلما قرأنا بعناية على سبيل المثال ما كتب الاستاذ على دب فى عدد " الفكر " الأخير ) 1 ( لرأى من الطبيعى جدا أن يقوم الشعراء أنفسهم بدراسات نقدية لانتاجهم ، بل لهب ينبه الى ذلك ويحث عليه .

ولكن مزية هذا النموذج من المعلقين المتعلقين بفضاء النصوص الادبية الهاربين الى سماوات البعيدة الفارين من مواجهتها المتهيبين اقتحامها وقد أخذوا على أنفسهم مسؤوليته وتورطوا فيها ، أنهم وقفوا موقفا ، إذ حاولوا الخروج من صمتهم واعراضهم وبرودهم ، وكسر جدار اللامبالاة التى اعتاد أن يتوقع داخلها الناس ممن يصابحنا ويماسينا ، لقد راموا الكلام ، وفى البدء كانت الكلمة . . .

وإن مجرد الموقف ، أى موقف كان ، لينبئ عن حضور واهتمام ، وشئ من الوعى والادراك ، وينم على اعتبار للآخر وبالتالى اعتراف له بالكينونة وسعى ضمنى إلى ربط وشائج الوصل معه . وما أنبلها غاية ! فطوبى لأستاذنا ومرحي به اذ امسك القلم وكتب ، وخاصة وانه بذلك يستجيب الى نداء تضمنه النص متمثل فى فراغ تركته للقارئ كى يملأه ، وان كنت انتظر الالتقاء معه فى هذا الفراغ على صعيد الخلق ، والاستجابات العميقة .

ومن هنا أتطرق إلى طبيعة الموقف الذى وقفه الاستاذ فأحاول فحصه والكشف عما يمكن أن يتفق الجميع على خطله . ولولا اعتقادى أن السيد على دب يمثل صنفا من القراء المثقفين وأشباه المثقفين واليدباء وانصافهم ممن

" ما زالت قلوبهم تنبض

وما زالوا يعيشون

وقد حسبناهم غابوا

وتابوا . "

وممن تتأكد معالجتهم ، ويتحتم ربط الحوار معهم ، وإن كان فى بعض الأحيان لاغيا ، ولولا افتراضى إخلاصه وحسن نيته ، رغم كل شئ ، لما تجشمت الرد عليه ولو بكلمة ، ولاكتفيت بمتاعب الخلق ، إذ ليس أعقم وأفلس فى ظروفنا هذه من " تعليق " ورد على تعليق ، ورد على رد ، وهكذا دواليك نبقى فى مستوى الكلام كبعض أسلافنا

لقد ارتفع مستوى هذا الشعب ، وإن نسبيا ، ولم يعد ينطلى عليه الكلام فليرتفع مستوى تفكيرنا وتعبيرنا ومواقفنا ، ولنتقدم فى قضايا ومشاغلنا أيها المقدمون على إمساك القلم !

لعل أكبر معضلة يمكن أن تواجه أى تفكير جديد ، وتتصدى بضراوة لكل تعبير يروم الانعتاق والتحرر والمساهمة ، وتتعب كل من يهتدى الى استعمال حواسه وإحساساته الخاصة في إدراكه للكون ورويته له ومعاملاته معه هي معضلة الأشياء الحاصلة الجاهزة " الصادرة عن " المعلم الأول " بجميع ما يتراكم وراءها من مسبقات ومستوردات . وهى التى ستكون جدارا سميكا مثلما هو الحال ، بين الناقد أو القارىء وبين النص الذي أمامه .

فالفهم وهو يمثل حجر الأساس في كل عمل نقدى يصبح صعبا إن لم نقل مستحيلا كلما قام ذلك الجدار . وإذ يعسر الفهم يصيح الناقد فى النص أو فى وجه صاحبه : " أنا أكره عالمك هذا " .

ومن الموسف حقا أن لا يعرف الانسان قدره ، فيظن ، بمجرد انتصابه للتدريس ، أو تمكنه من تحرير إنشاء جميل ، أو تحبيره لمقالة ينشرها ويبقى

يعيش على ذكراها ، أو حتى تسويده عام الفيل لصفحات كتاب ساعد الحظ على طبعه ، أنه انخرط فى سلك الأدباء والباحثين وأصبحت له الكلمة الآمرة الناهية المتسلطة .

إن هذا شئ ومحنة الخلق والكتابة شئ آخر يا حبيبي

ومن الجور أن يقدم أحدنا على نقد لوحة من لوحات البشير بن سلامة أو قصة من قصص عز الدين المدني ورفاقه ، وكل " بافاجه " ما قال بلزاك وزولا وفلوبير وجويس وتيمور ومحفوظ وخريف أو ما قيل عنهم

كما انه من العسف وخسارة الوقت أن يتصدى أحدنا لنقد نص شعري فى " غير العمودى والحر " انطلاقا من معطيات خارجة عن طبيعته ، وراجعة الى أفلاطون وأرسطو وقس بن ساعدة وحافظ إبراهيم وميخائيل نعيمة وطه حسين ونزار قبانى ومجلة شعر وغيرهم

فلا بد من الدخول لكل دار بمفتاحها حتى يتيسر لنا اكتشافها والتواجد معها ثم الحكم فيها ، فنتجنب بذلك الأحكام الارتجالية الفوقية الهوائية العاطفية الجائزة ، ونكون قد مهدنا لها بدخول الى العمل الشعرى فى عالمه ومحاولة لامتلاكه . ومن ترى يجد فى نفسه على أن يتحدث عن قصيدة ما قبل أن يمتلكها ويعايشها فى عالمها غير السيد على دب ؟ والدليل على ذلك انه بعد عرض قائمة من الافكار النقدية العربية والاجنبية القديمة والحديثة قال " كانت هاته الأفكار تعج فى رأسى وأمامي كوكتال . . هذا الكوكتال الغريب . . " ومن حسن الطالع أن كان غريبا ، لا يخضع لما جاء فى تلك القائمة .

لقد ساد المفهوم الأكاديمي التهويل للأدب والفن والحياة عند البعض حتى حجب عنهم كل مفهوم . فهم باسم الرصانة والاستقامة والبر والتقوى يفرضون على النشاط الفكرى أن ينحصر فى معالجة الجانب المضئ من الحياة ، وإهمال الوجه الذى ما زال بكرا رغم ظلمته مع أن فلسفة الجمال الحديثة أكدت أن الأدب والفن لا يستمدان روعتهما من روعة المواضيع التى يطرقانها . ولقد كانت اشعار بودلير ونخص منها قصيدة " الجيفة " مصداقا عمليا لذلك

وإنه لبالامكان أن يكتب الشاعر فى هذا العصر ألف قصيدة عن الزهور

والأطيار والبساتين والقدود والنهود على الخبب أو الرجز أو الطويل أو غيره فيلبى العادات السمعية والبصرية والفكرية والعاطفية للجماهير الشاذجة فترضى عنه ، لكنه يبقى دون الخلق فى أعمق مستوياته ، وهي بعث الأشياء من صفر ، والارتفاع بالعادى البسيط منها الى مستوى الشعر . وإنها لعين الصعوبة ! صعوبة الفن !

وقد ذهب بهم الخلط بين الدين والفن وتسليط ذاك على هذا الى أن جعلوا للشعر قاموسا لغويا خاصا ، وللنشر قاموسا آخر ، ومن اللغة جعلوا محظورا ومباحا فى حين أن كل كلمة قابلة مبدئيا لأن تصبح شعرية . وتبقى القضية قضية شاعر . ونتج عن ذلك كله أن ظل جزء من العالم منسيا ، محروما من حقوقه فى التعبير عنه ، والناس محرومون من لذة الاستمتاع بعظمة تفاهته وانسجام فوضاه ، ووحدة تشتته ، وجمال قبحه ، ونقاوة عفنه ، حتى جاء هذا العصر بعنفه وجنسه ورقمه وسرعته وضجيجه وإيديولوجياته وشتى متناقضاته ومربع إرهاصاته ومزعج أحلامه ومتباين عوالمه فكان من المفروض أن تتبدل زوايا الرؤية لدى الشعراء وان يقفوا مواقف قد يعبرون عنها بصور وتعابير كجرب الدجاج ونهيقه ونباح القطط وزقزقة الكلاب ، ومواء الحجر . وقد يرد فى ذلك من الالفاظ ما يظنه البعض عاميا وهو فصيح . وقد ترد ألفاظ عامية مقصودة ، لانعدام بديلها فى الفصحى ، ولطاقاتها الموسيقية أو المعنوية أو الرمزية ، مما يحتم إثراء اللغة بها ، وهل الشعر الجديد إلا منقذا للعربية التى أكلتها القوالب الجاهزة ٢٠ وهل أن السيد على دب ، وهو يترحم عليها وينعي حظها ، قد ركب جملا عربية سليمة صحيحة ؟

وكان ظني أن تلك النغمة قد تأدب أصحابها ، وفهموا أقدارهم ، فبلعوا ألسنتهم ونقوا لغتهم ، أو على الأقل طوروا أساليب " هجومهم " غير أنه ما راعنى إلا وأنا إزاء " حجة مجانية . . . جيش من المرتزقة . . انهزم المرتزقة . . . بدعة جديدة . . هراء وتلفيق . . الخ " فأتذكر تاريخا كاملا !

وبعد : فهل سأضطر الى الدخول فى تفاصيل أخرى هى من مشمولات نظر المختصين او الى إعادة ما سبق أن قلته فى كتابات لا افترض أن الأستاذ قد تفضل بقراءتها ، ومقاله شاهد عليه

ثم ، ما رأيه

- ما دام مطلعا على مجلتى " حوار " و " شعر الشرقيتين ولعله أيضا من قراء " أنفاس " المغربية و " مواقف " اللبنانية و " فاليرى 68 المصرية ، ويريد ان يسجل " بأمانة " ) ؟ ؟ ) ان الانماط التى جاء بها الشعراء هناك امتازت عن أنماطنا بأشياء منها " تجانس التفعيلة " ، لو يقوم بمقارنة مركزة دقيقة نزيهة بين نص حقيقي من " غير العمودى والحر " أية قصيدة نثرية لشاعر من شعراء قصيدة النثر ، ان جازت تسميتهم بذلك .

- لو يطالع أو يراجع بيان السريالية ويتأكد من مفهومها ويقرأ لروادها . - لو يتحقق مما قصد " أجدادنا " بقولهم : " أعذب الشعر أكذبه " - لو يراجع تعريفه للشعور والخيال والعقل ، ومفهومه للشعر والشاعر وللبناء والتهديم ، مراجعة يعتمد فيها على نفسه - لو يشرح للقراء كلمات وعبارات كبيرة استعملها حسب ما يبدو لى فى غير محلها ومنها : التجربة الصادقة ، الاحساس الفني ، القراء ، القراءة الخيال الواعي ، دنيا المجاهل ، الادب للشعب ، كوكتال

وأخيرا :

" تحياتى سيدى وبعد :

فان قطار القلعة الجرداء

عربه هرمه

هرمة سوداء

سوداء وسخه

وسخه ضيقه . . . "

اشترك في نشرتنا البريدية