بالرغم من ايماننا بان الناس - كل الناس تقريبا - أعداء لما جهلوا وأحلاف لما ألفوا فان أحدا لا ينكر ان النهضة الادبية فى بلادنا وفي الظروف الراهنة هى فى حاجة ملحة الى انقلاب أدبى جذرى - بدأت تظهر بوادره ولا ينتهى الى تحقيق انتصارات تعبر عن مشاغل جيل مثقف طموح الا اذا تمكن من القضاء على الشعارات التى وضعناها بأنفسنا حجر عثرة فى طريق تركيز أصالتنا الفنية التى من الضرورى أن تستمد اشكالها ومضامينها من مقوماتنا الوجدانية والاجتماعية المتطورة . . نحن لا ندعو الى اثارة خصومات جديدة ولا نهدف الى الانعطاف بالتآليف الادبية الى زوايا التشتت أو تفريقها الى نزعات نعلم حتما انها لا تطلع علينا بقضايا جديدة أو عناصر فكرية مستحدثة بل أقدس وأقصى ما ننزع اليه هو الصمود فى وجه تيار قديم جرف معه الكثير من طاقاتنا الفكرية الى بيادر الجمود والجفاف الروتينى الممل . .
على هذا الاساس وبالاعتماد على حقيقة أدبية وجدت لها الى عالم المسرح منفذا جديدا وقع عليه بامضاءه كل انسان فى صراع مع النفس الامارة بالسوء ، كان بروز مسرحية - صاحب الحمار - حدثا أدبيا حفز عددا من رجالات الفكر والفن فى الساحل الى تنظيم ندوة بمدينة المنستير أشرف عليها الاستاذ محمد مزالى مؤسس مجلة الفكر ومديرها - ورأينا من الضرورى أن نستعرض ما جاء فى كلمته التى تحدث فيها عن المؤلف وعن محتوى المسرحية والحرك النقدية باعتبارها خواطر لها من الاهمية ما يجعلها تسلط اضواء لا على هذا الانتاج وحده بل وحتى على الحركة الادبية الراهنة وما يجب أن تقوم به لتعكس ارادة رجالات الفكر للخلق والابتكار والسمو بالانتاج الى مصاف الآداب العالمية العميقة وهذا يتوقف بالطبع كما يقول الاستاذ مزالى على حماس الشباب
ونضالهم الفكرى . . ان ما جاء فى مسرحية - صاحب الحمار - من طموح وعزيمة التحدى والخلق يدخل فى الثورة الثقافية ومحبة الوطن والاخلاص للقيم فعسى أن يقتبس شباب اليوم من هذا الانتاج العظيم ما يمكنه من انطلاقة جدية جديدة ، وقال لسيد محمد مزالى انى اعجبت بهذه المسرحية ويلذلى أن اتوجه بتحياتى واعجابى الى المؤلف الذى اعتبره أملا من آمال الادب التونسى وممن نرجو أن ينهض على أيديهم هذا الادب نهضة صحيحة نظرا لقدرته على التعبير وبراعته فى التصوير وما نجده فى كتاباته من اتجاه صحيح أصيل . فالمدنى يؤمن بكونه تونسيا ويعتز بتونسيته وبالرغم من أن هذه الصفة تبدو بسيطة الا أنها خطيرة الى درجة ما باعتبار أن الكاتب يؤمن بأنه يجب أن يكون لتونس أدب وأدباء وعز الدين المدنى يحاول أن يركز ادبه ليجعله فى مصاف الآداب العريقة وهذا لا يمنعه كما لا يمنع غيره من الاقتباس من الآداب الاخرى واذا كان المدني صمد صمودا جسمه فى قوله : " لنكتب ، لنكتب " عندما أصابته ويلات النقد فان الواقع يجعلنا نتأكد أن الكاتب يكتب والناقد ينقد كما يشاء ولكن التاريخ يغربل فالمدنى لا يعتبر أن الرد هو الاساس لان الكتابة وحدها هى اكبر ضمان لنجاحه ونجاح الادب التونسى . . والمدنى شاب يتطور مع الاحداث والدليل على هذا المسرحية التى الفها وانتقده عليها " ثور يون " متحجرون ورجعيون فى حين أن الواقع يفرض أن يكون الاصغاء الى المستقبل وحده ضمان الخلود والنجاح فمن المستحيل أن يحكم الانسان على الانتاج بمقاييس متحجرة لان الاعتزاز بالرأى لا يكون له قيمة الا اذا ترك صاحبه المجال الى امكانية الاصغاء إلى همسات الواقع وتطور الاحداث ولا ننسى أن التحجر والتشبت بالرأى أوقع لا الادباء فقط بل وحتى العلماء فى غلط فادح . .
ان من انتقد المدنى اما انسان متعصب للماضى متشبث بالتاريخ وحده أو شخص يدعى التقدمية ولكنه فى بحثه عن المستقبل الخلاق يسلك منهجا متعصبا ويلتزم التزاما اعمى ويحصر نفسه فى دائرة مغلقة وان ما يدفع الى مثل هذا القول ليست العلاقات الشخصية بل المسرحية التى تعتبر احدثا هاما فى درب الأدب الطويل . . .
- ثورة صاحب الحمار - تضع مشاكل كثيرة ولكن ليس هناك اى مجال للمقارنة بين ما جاء فى احداثها وبين الواقع القومى لان أقوى معيار لنجاح الاثر الادبى هو ان يدفعنا ويحفزنا على التفكير والتساؤلات والحيرة فى بعض الاحيان ويزيل عنا شيئا من الرتابة . . من بين قضايا المسرحية قضية الثورة وابعادها فهى حلم الشخص العملاق وطموحه وهى طموح الانسان البسيط
الذى زوده الله بالعقل ولكنه فى حدوده ظل منجذبا الى الارض فالمهم ليس هو الثورة لان وراء كل ثورة انسانا يكون مصيرها مرتبطا به ومشروطا بمستواه وامكانياته . والانسان هو الذى يصنع التاريخ ويعبد له الطريق أو يسدها فى وجهه . . فلماذا خاب صاحب الحمار ؟ لان نفسه كانت صغيرة لم تصمد أمام الاغراءات بكل أنواعها ولانه لم يستطع التغلب على مشاكل النصر ولانه ربط مصير الثورة بميوله وبشهواته ولانه اهمل التعاون مع الآخرين ولم يكن قدوة لغيره . وان المسرحية تصور لنا اذن عظمة الانسان وحقارته أمام المطلق وهى لن تنتهى ما دام هناك بشر فهى تظهر فى مظهر التراجيديا ولكنها تصور طموح . الانسان وعذابه واحقاده وتصور كذلك امكانية تحسين الانسان بمقتضى عمله الذاتى والاخلاقي فعليه اذن أن يرفع مستواه فيسيطر على الكون اذا هو سيطر على نفسه . . .
هذه هى مسرحية صاحب لحمار عبر بها الكاتب عن افكار عصرية ومشاكل العالم الثالث ومشاغل الشباب الثائر النازع الى عالم مثالى .
بقى أن أقول بعد هذا الاستعراض لاهم ما جاء فى حديث الاستاذ مزالى عن - صاحب الحمار - ان الادب التونسى اليوم فى حاجة ملحة ، زيادة على الانقلاب الجذرى ، الى مدرسة أدبية تغرس الكرامة والعزة وتعمق المفاهيم الانسانية فى اذهان الشباب وتكون ملتقى لمحتويات الادب السامى الذى انطلقت منه هذه المسرحية وميدانا خصبا لانتاج يقف بالمرصاد فى وجه الذين حاولوا ويحاولون التنقيص من قيمة الادب وأهميته عندنا وهم ينتمون الى حضارتنا ذلك أن الثورة المباركة التى قام بها عدد من شبابنا على القوالب المألوفة والآراء المعهودة سيكون مصيرها حتما وبارادة الله وعزيمة المفكرين الخير كل الخير ما دام مصير هؤلاء - الثائرين - يهدف الى الخير لان مصير الثورة مرتبط بمصير الثائر الانسان كما أشرنا فى البداية وكما قال لسيد محمد مزالى .
