إن موضوع التربية الاشتراكية من المواضيع الاساسية لتوضيح الطريق نحو بناء مجتمع يسوده الرخاء والعدل . بل اكثر من ذلك ، فهو المحور التى تحوم حوله كل المواضيع الاخرى المتعلقة بالاشتراكية .
على انه لا يجوز الحديث عن مبادئ واساليب التربية الاشتراكية الا بعد توضيح المعالم الاساسية للاشتراكية التى ننشدها والاهداف التى نرمى اليها .
واول ما تمتاز به اشتراكيتنا هو نزعتها الانسانية والروحية . فهى تهدف الى السمو بالانسان الى المثل العليا وترفعه عن الحيوانية العمياء والانانية الحمقاء ، معتمدة فى ذلك على الايمان بالاخلاق والقضائل والعدل والسلام . كما تستمد مثلها الروحية من الاصول التى جاء بها الدين الحنيف الذى هو دين المحبة والعدل والمساواة .
وهي الى جانب ذلك وسيلة لا غاية فى حد ذاتها ، اذ هى تهدف الى تحقيق الحياة القومية السليمة ، وتمكين المواطن من تفتح ذاتيته ، باعتباره شخصا انسانا وكائنا اجتماعيا تتحد فى قراراته المسؤولية الوجودية والمسؤولية الاجتماعية .
وهى اذ تتخذ الانسان غاية ووسيلة فى آن واحد فهى ترى ان الانسان لا تتفتح نزعاته ولا يعطى طاقاته فى جو يعدو فيه الانسان على اخيه الانسان ويملؤه الحقد بين الافراد ، كما انها لا تببيح استخدام الانسان الحالى ضحية وقربانا فى سبيل مجتمع مقبل تتحقق فيه ملامح الغد المنشود .
وفى هذه النقطة بالذات يكمن الفارق بين الاشتراكية كما نفهمها والاشتراكية (( العلمية )) التى يقول بها الشيوعيون . والتى تهمل الانسان كغاية وتعتبر النظام الشيوعى هو الغاية .
ومن هنا تبرز ميزة اخرى من الميزات الاساسية لاشتراكيتنا ، وهى انها لا تدعو الى صراع الطبقات وانما تقوم على التآخى والمحبة والتعاون وعلى العاطفة الوطنية والوحدة القومية التى تذيب هذا الصراع .
والملاحظ انه مما يكذب التنبؤات الماركسية ويؤكد عدم حتمية صراع الطبقات ، تغير وتطور النظم الراسمالية نفسها ، تحت تاثير النظم الاشتراكية،
وانقلاب فى بنيتها ، بحيث لم تعد طبقة المالكين وحدها هى التى تستثمر الاموال وتستفيد من الارباح ، بل هناك طبقات اخرى تساهم فى الانتاج وفى جنى ثمراته كرجال الاعمال والمساهمين والفنيين والعملة وغيرهم .
ويستنتج من كل ما ذكر ان اشتراكيتنا تطورية ، وهذه الميزة لا تنزع عنها صفتها الثورية ، اذ من الخطأ الظن ان الثورة اما ان تكون صراعا عنيفا واما لا تكون . فالمهم ان يكون التطور فعلا ، وفق خطة مرسومة واضحة ، تهدف الى حلول جذرية واساسية لبناء المجتمع المنشود . والمهم ايضا ان تكون كل خطوة يقمع قطعها ممهدة للخطوة الموالية فى طريق الغاية المنشودة وضامنة لها .
وهاته الغاية هى اولا وبالذات بناء مجتمع يتحقق فيه عدم الاستغلال ونشر الرفاهية الشاملة . ويسوده الوئام والتضامن بين الفرد والمجتمع باعتباره خلية حية فى جسم حى تغذيه ويغذيها ،وذلك على اساس تغيير النفس النفسيات واقتلاع جذور التواكل والانانية الفردية وتعويض نزعة الشر بنزعة الخير فى الانسان وعلى اساس تبصير العقول بان المصلحة الآجلة فى انتهاج الاشتراكية لانها هى التى تضمن الازدهار الدائم للبلاد ، وتجنبها الوقوع فى الكوارث الاجتماعية ، نتيجة لتفاقم البؤس وانقسام الشعب الى طبقة المحظوظين وطبقة المملقين ، كما تضمن الحرية الحق والعدالة وفرحة الحياة للجميع .
تلك هى مبادئ اشتراكيتنا واهدافها ، وقع ايجازها للتخلص الى اساليب التربية التى من شانها ضمان بناء مجتمع تسوده الحرية والتقدم وترفرف عليه العدالة والمساواة .
وبما ان هدف الاشتراكية هو الانسان الذى هو فى آن واحد وسيلتها تكون التربية أساس كل عمل اشتراكى .
واول ما يجب ان يربى عليه الطفل منذ نشأته احترام القيم والمثل العليا فى الحياة والسلوك وبالتالى اباء الانحراف والاعوجاج والسعى الى الاستقامة والصلاح . وذلك يعتمد على اساس الثقة بالطبيعة الانسانية التى هى خيرة طيبة . فلدى كل طفل نزعة الى الخير فى الامكان تغذيتها وتقويتها على حساب نزعته الى الشر ، بفضل فتح المجال لانطلاقها الحر ضمن جو تربوى سليم وجو اجتماعى صالح .
ولوازع الشعور بالكرامة دور اساسى فى التربية وبالخصوص فى الثورة على الاوضاع الفاسدة واصلاحها . وهذا ما تؤكده
النظرة البورقيية فى الحياة والطريقة البورقيية فى النضال من أجل استئصال رواسب الخنوع والخضوع من النفس والسعى الى الحرية والتقدم . فسواء ابان المعركة التحريرية او ابان معركة البناء والتشييد فان هذا المحرك العاطفى لا يزال هو الدافع الاساسى ، لكل عمل نورى ولكل بذل وتضحية من اجل تحقيق اسمى غاية يسعى اليها الانسان وهى السعادة لا لشخصه فحسب بل لغيره ايضا باعتبار روح التضامن والانسجام التى يجب ان تسود المجتمع .
فالتربية الاشتراكية حينئذ هى اولا وبالذات تربية روحية وسلوكية قوامها الاخلاق . وهى لا تعنى مجرد الابتعاد عن بعض الاثام والشرور تقاء للعقاب وسعبا وراء الثواب ، وانما تعنى ايضا وخاصة معنى ايجابيا ، وهو العمل فى سبيل الاخرين والجهد فى خدمة المجموع .
وهى لا تتحقق بمجرد تلقين دروس فى الاخلاق وتلقين بعض المبادئ بصفة تقترب من المديح والوعظ ، بل اكثر من ذلك فهى هز للمشاعر امام التواكل والرضاء بالضيم وتوجيه الى السلوك والعمل الذى يرضى الضمير .
ولا شئ يرضى الضمير اكثر من البذل والتضحية مع الغير لفائدة الجميع ، عملا بالقول المأثور (( عش لغيرك )) .
ولذا فان من اوكد ما يجب غرسه فى المواطن ، وعلى وجه الخصوص فى الطفل منذ نشأته نبذ الانانية الفردية وتعويضها بروح العمل والتعاون الجماعى ، يجب ان لا تعنى المدرسة بالذكاء والمعرفة والذاكرة والفضائل الشخصية فحسب ، وتكافئ عليها ، بل يجب ايضا الى جانب ذلك ان تعود التلميذ على العمل الجماعى والتعاون والتضامن فى مختلف النشاطات والمناسبات .
ومن اهم الوسائل وانجعها لغرس روح العمل الجماعى تكوين التعاضديات المدرسية بانواعها للانتاج اليدوى او للبيع او للاستهلاك وخاصة استهلاك الادوات المدرسية .
كما انه من الواجب تشريك التلامذة فى الحملات القومية لفائدة التضامن الاجتماعى او فى ما يتقرر اجراؤه فى المدرسة بالذات من عمل جماعى لتجميلها مثلا او لانجاز مشروع من المشاريع كالمساهمة فى شراء بعض الوسائل الترفيهية .
وهكذا يتربى الطفل منذ نشأته على العمل مع الغير الى جانب ما يلقن من دروس فى التربية القومية والاخلاقية والدينية التى توجهه الى معرفة واقع
بلاده وحاجيات مجتمعه ، ذلك الواقع وتلك الحاجيات التى يجب التوسع فى معرفتهما والتعمق فيهما اثناء التعلم الثانوى والعالى حتى يهئ الجيل الصاعد تهيئة ملائمة للقيام بدوره فى المجتمع وفى نهضة البلاد وتقدمها .
هذه نظرات عامة عابرة فى التربية الاشتراكية من حيث مبادئها واهدافها وطرقها ، الغرض الاساسى منها السعى لتفتيح امكانيات المواطن ، وامكانيات الطفل على وجه الخصوص ، وذلك لضمان المصلحة القومية التى تحتم سد حاجيات المجتمع فى سائر العلوم والصناعات والكفاءات ، الى جانب تكافؤ الفرص امام الجميع حتى يعملوا من اجل الجميع .
فان التربية الحق ، سواء كانت بالمدرسة او خارجها ، هى التى تكون مرتبطة بالحياة وبالمجتمع ، وذلك وفقا للتطورات الحديثة التى مرت بثورات جذرية أساسية أهمها ثلاث :
الثورة الفكرية التى تمت بفضل العلم ، والثورة الصناعية التى قادت اليها التقنية والاختراعات ، والثورة الاجتماعية التى آلت اليها الديموقراطية الحديثة التى هى فى آن واحد سياسية واقتصادية واجتماعية .
وان التربية الاشتراكية الاصيلة هى التى تمكن من بلوغ الغايات السامية للانسان ، تلك الغايات التى تتنافى مع الفردية والانانية ، ولا تتحقق الا بعقيدة الجهاد ، مع عزيمة الجهاد من اجل الحق والخير ، ومن اجل العدالة والمساواة .
