هذا الكتاب لانبعد كثيرا اذا قلنا انه اول كتاب من نوعه فى ادبنا العربى الحديث ، فهو كتاب ادب اذا شئت . وهو كتاب تاريخ . . . وهو كتاب يصح ان تضيفه ايضا الى كتب التراجم او الرحلات او الاعترافات . . .
فى هذا الكتاب أدب ، وأى أدب ؟ انها نماذج من مختار الشعر الرفيع ، انها نماذج من ذلك الشعر الذي امتاز به ادب المهجر ، تجدها امامك منثورة كحبات اللؤلؤ فى اخريات الكتاب ؛ انها نماذج من شعر شعراء حلقوا فاطالوا التحليق ، واحسوا وتعمقوا فهم الحياة ، وحاولوا ان يكونوا صادقين فى التعبير عن احساسهم وفهمهم . . . فجاءوا وجاء شعرهم مثالا فريدا ، جامعا بين مزيا الشعر الثلاث : جمال الفن ، وعمق الفكرة ، وصدق الشعور ! .
فى هذا الكتاب ، تجدك - الى جانب شعراء ممتازين متعددين - امام شاعر عبقرى موهوب ، كان يرجى له ان يتقدم الجميع ، لو انه كتب له ان يطيل الوقوف على ربوة الحياة . . . ولكن . . . ولكن ماذا . . . ؟ انها ثلاثون عاما فقط ! عاشها هذا الشاعر فى هذه الدنيا . . ثم انطفأ كما ينطفئ السراج ، بعد ان ترك دويا . . . وبعد ان خلف اثرا اجمع الناس كلهم على انه ليس اقل شأنا ، ولا اهون خطرا ، من اجمل ما خلفه لنا كبار امراء الشعر فى هذا العصر الحديث . .
فى هذا الكتاب تجدك امام الشاعر (( فوزى معلوف )) الذى يقول فى قصيدته : (( فى هيكل الذكرى )) :
ارجعي القهقرى ؛ ايا ذكرياتي ان قلبي ذوى . . ومات !
وانا عائش بماضى حياتى . . فهو حسبى من الحياة . . .
* * *
ليس فكرى الا صحائف بيضا ء عليها الذكرى تخط وتمحو . .
فارى فيه من حوادث ايا مي ، ما لم يفته متن وشرح . .
معرض للرسوم ، فيه غموض ووضوح ، وفيه حسن وقبح
انما نلمح الصفاء عليه لمحة . . والصفاء فى العيش لمح
طويت بسمة ، لينشر دمع وخبت بهجة . . ليلمع جرح . .
هو سفر قلبته ، فاذا بي وفؤادي فى دفتيه يسح
يا فؤادى ! وانت مني كلي ليت حكمي عليك يوما يصح !
انت مهد المنى ، وهذي بقايا ها ، اكبت عليك تغفو وتصحو
فيك كنز . . لم تعط الا قليلا منه ، والحسن لا يزال يلح
ان جود الفقير بالنزر جود حيث جود الغني بالوفر شح :
وفى هذا الكتاب ، تجدك امام الشاعر (( شفيق معلوف )) والشاعر (( رياض معلوف )) والشاعر (( ميشال معلوف )) وكلهم اشقاء لفوزى . . . انها اسرة شعراء ممتازين . . انها اسرة نبوغ موروث . . وحسبك ان تعلم انهم اشبال الاديب العالم المعروف (( عيسى اسكندر معلوف ))
عاش هؤلاء الاخوان الشعراء الاربعة ، وما زالوا يعيشون - ما عدى فوزى ! - فى ارض البرازيل ، واذن فقد كان حريا بمؤلف هذا الكتاب ان نموه بهم وهو يؤرخ فى كتابه لهجرة السوريين واللبنانين الى تلك البلاد
ومن شعراء المهجر الامريكى الجنوبى ، الذين اتى على ذكرهم هذا الكتاب (( نعمة قازان )) وهو شاعر من لبنان . . سافر الى البرازيل واقام فيها من عشرين عاما ، وله شهرة عريضة هناك ، ومن شعره فى قصيدة عنواها : (( يانفسى ! ))
الناس فى هذي الحيا ة عن الحقيقة ضائعون . . . !
والعاقلون العارفو ن هم الغباة الجاهلون !
ولرب ايمان بسيـ ط ، عار فيه العارفون !
يا نفسى !
انا اليه راجعون هل تذكرين . ؟
واذا قلت عن هذا الكتاب انه كتاب تاريخ ، فلانه يؤرخ لهجرة اخواننا السوريين واللبنانيين - كما اشرت - الى البرازيل ، ويعرض عليك شيئا من اسباب هذه الهجرة ومتى بدأت . . وكيف ان الظلم والاستبداد كانا من اهم العوامل فى هذه الهجرة ، وهو اذ يشير الى العناصر القوية من المهاجرين الى ذلك الوطن الجديد ، لا ينسى أن يشيد بالاولين منهم على وجه الخصوص ؛ لأنهم كانوا رواد هذه الهجرة ؛ وكانوا هم الذين عبدوا طريقها ، اما ما تراه فى هذا الكتاب من وصف للاهوال التى قابلها اولئك المهاجرون الاوائل الابطال وما كانوا يكافحون به هذه الاهوال ، مما ادى بهم اخيرا الى نجاح منقطع النظير فى شتى الميادين ، فهو ما يثبت حقا ان العربي حيثما كان ، وانى ذهب ، رجل عزيمة وكفاح !
والمؤلف يعرض عليك تراجم لحياة كثيرين من اعيان المهاجرين سواء كانوا تجارا أو كانوا من رجال القلم ، ولعل ما رواه من حكايات عن الصحافة العربية فى ذلك المهجر ، وعن الصحفيين واخلاقهم واحوالهم ، من اهم واطرف ما تقرأه من فصول هذا الكتاب ، لما فيه من الاعاجيب ، بل من الحقائق التى يصورها كاتبها بعيدة عن الرتوش . ولا اشك فى ان ما يجرى هناك يجرى فى كل مكان ، لان النفس البشرية واحدة ، سواء شرقت ؛ ام غربت . . .
ولم ينس المؤلف ان يعرج على سيرة حياته فى كتابه هذا ، وهو اذ يكتب عن نفسه لا يرى بأسا من ان يكون صريحا فى هذا المجال ايصا ، ولا يرى غضاضة فى أن يسوق اليك من الاعترافات مالا يجرأ الكثيرون على ايراده عن انفسهم فى معرض التدوين والتسجيل . .
وصفوة القول : ان الكلام يطول لواردنا أن نستقصى كل ما يجب استقصاؤه من مضامين هذا الكتاب الممتع ، ولكننى لا احب ان اختم كلمتى هذه قبل ان انقل
لك هنا انموذجا مما كتبه المؤلف في باب سيرة حياته تحت عنوان : (( نزعتى )) قال : (( كان مصابى وسبب المى الدائم ان الناس لا يفهموننى ، وربما كان هذا شأن كل مجنون يرمي الآخرين بدائه ، ولكن يكفينى انى اكتب على الدوام مخلصا لنفسى ولسواى فيما اعتنقته من مبادىء ، وما كونته بالتفكير والاختبار من آراء . . )) الى أن يقول :
(( انا لا انكر الثروة لانها عماد الرقى والعمران ، ولكنى اكره أن ارى الى ، جانب الحديقة الغناء مستنقعا . . . وان يتجاور القصر الباذخ والكوخ الحقير ، ويسير فى شارع واحد الكاسى والعارى ؛ وان يشكو بعض الناس التخمة ، والبعض الآخر الجوع . . . والذى رسخ فى ذهنى منذ بدأت افكر واحس ، ان الانسانية تظل كلمة جوفاء والمدنية حديث خرافة ، مالم يقم عليهما دليل ، وهذا الدليل الذى اتطلبه من الحكومات والهيئات والافراد هو وضع حد ادنى للمعيشة يجب ان يتمتع به كل بشري . . ))
اما بعد فانك تقرأ هذا الكتاب فكأنما تقرأ قصة من نسج الخيال ، ولولا علمك بأن هذا الذى تقرأه (( حقائق )) ليس لها فى ميدان الخيال الفسيح أى ناقة أو جمل أو (( موتوسكل )) . . فاكبر الظن انك لا تكاد تنتهى من قراءة الكتاب حتى تجد نفسك تقول : ما اروعها من قصة ! وما احذقه من مؤلف واسع الخيال !
