مدخل: نتفق جميعا على ان الثقافة العربية برمتها تعيش ازمة حادة، وفى تصورى انها ازمة النمو والتحول. او لنقل ازمة البلوغ المعوق بجملة من العراقيل التاريخية والذاتية معا، فمن المؤكد ان معظم ايقاعات الحياة فى وطننا الكبير تراهق وتتدرج نحو النضج، فقد بدا العقل العربى الذى ينبغى ان نمنحه مزيدا من الثقة وان نحرره من العقدة التى خلقتها فى نواته عصور الانحطاط الطويلة - بدا يدرك استجابة منه للتحديات الاجتماعية والتاريخية الكبرى، ان عليه انجاز وثبة نوعية تتأصل جذور التخلف والاستغلال والعبودية ولهذا بالضبط نرى القلق يسود قطاعات المفكرين والادباء والفنانين ولا سيما اولئك المعنيين بالهم الحضارى للامة العربية.
ولكن على الرغم من هذا التقدم الملموس في مضمار الفكر والادب فان احدا لا يملك ان ينفي الازمة التى يعيشها العقل العربى وان تكن ازمة اهم سماتها التدرج نحو النضج، فغياب الصناعة - القطب المحورى للحياة المعاصرة - لا بد من ان يعرقل نمو العقل العربي بالضرورة.
وفى صميم هذه الازمة الشاملة يتمركز الفكر النظرى جملة، وبالتالى النقد الادبى الذى هو جزء لا يتجزا من النظر، ولا بد بالضرورة من ان يطل النقد
الادبى ملزوما طالما ظلت النظرية النقدية الاجتماعية مأزومة، طالما ظل الفكر النظرى مأزوما وان أمة لم تسهم بعد فى الفلسفة المعاصرة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللغة الا إسهاما يسيرا لا يمكن الا ان يتخلف فيها النقد الادبى بحكم ترابطه ( واكاد اقول تبعيته ) مع مجمل ايقاعات الثقافة النظرية فاليونان القديمة لم تفرز نقدا متقدما الا بعدما نضجت فيها الفلسفة والعرب التراثيون لم يتمكنوا من انتاج نقد ادبى ناضح الا بعد ما تفاعلوا مع ثقافات عالم القرون الوسطى كلها، وكذلك بعد ان طوروا علم الكلام والتصوف والفقه الدينى وعلوم اللغة والتاريخ واوربا الحديثة لم تعرف نقدا متقدما الا بعد ديكارت وسبينوزا وفيكو وهيوم، بل الا بعد الثورة الفرنسية.
وفضلا عن ذلك فان نمو النقد الادبى مرهون بنمو الادب نفسه، أى بنمو المادة الخام التى تصنعه، والتى لا يمكن ان يتأتى الا بعضها بالضرورة فكيف يتأتى للنقد المسرحى ان ينضح فى ثقافة لا تملك مسرحا متقدما؟ والرواية أليست هي الاخرى تتدرج نحو النضج؟ فكيف يمكن لنقد الرواية ان يكون ناضجا طالما ان الرواية نفسها لم تنضج بعد؟ ولعل مما لا خلاف عليه ان ليس من شئ قد نضج تماما غير الشعر، ولكن، لماذا لا يقر هذا الايقاع الثقافي نقده الخاص المتقدم؟ السبب معقد ولكنه واضح، متى نضج الشعر؟ لقد بدا بالنضج منذ ربع قرن فقط، ولم يثبت نضجه الا قبل بضع عشرة سنة، وهذه المدة ليست كافية لتربية نقاد الشعر الجديد الذين يحتاجون الى ذهنية نامية وثقافة نحتاجها لتربية الشاعر، ولهذا لا يسعنا ان نتوقع نضج النقد الشعرى الا فى غضون الربع الاخير من قرننا الراهن، وفضلا عن ذلك لا يمكن ان ننكر ما فجواه ان نقد الشعر قد احرز انجازات لا بأس بها، بل ويمكن ان نرى فيها مؤثرات الى وثبة نوعية مقبلة ما لم ينتقل محور الادب العربى من الشعر الى الرواية او المسرح.
ازمة النقد الادبى، اذن جزء من ازمة ثقافية شاملة وهذه الازمة بدورها ذات صلة وثيقة بازمة الانتاج وادواته المختلفة، ففي مجتمع يصدر سلعة واحدة (النفط) ويبادلها بركام من السلع الاستهلاكية التافهة في الغالب، مجتمع تشكل فيه البطالة المقنعة ظاهرة بارزة وتسيطر عليه نظم سياسية لا لا تتمتع حتى بالحد الادنى من الدييمقراطية وحرية التفكير، فى مثل هذا المجتمع لا يمكن الا ان يكون كل شئ مأزوما ولا سيما النظرية النقدية الاجتماعية التى يتاسس عليها العنصر الذاتى المحول للتاريخ.
لقد تطورت علوم اللغة التراثية ابتداء من الشعر الجاهلى وتطور النقد الادبى التراثى عبر تحاوره مع علوم اللغة المتعاملة مع الشعر، وهذا يعنى ان الصلة بين النقد التراثى وفقه اللغة كانت صلة تفاعل كيميائية، ومما لا شك فيه ان ابن جنى وأبا فارس اللذين توفيا قبل ألف سنة، ما يزالان اكثر تقدما من مجمل اللغويين العرب المحدثين فكيف يمكن، فى غياب علم اللغة المتقدم ان يتطور فهم الادب، فهم هذا النسيج الذي لا يستطيع ان يكون الا لغة بحكم طبيعته؟ فمن المؤكد ان عبد القاهر الجرجانى (القرن الخامس الهجرى) اول نافه لغوى المنهج، ما كان يمكن ان يكون موقعه فى سياق الثقافة العربية التراثية الا بعد بلوغ الدراسات اللغوية التراثية فى القرن الرابع ذروتها التى لم تملك ان تتخطاها حتى اليوم.
ولست أظنني أبالغ اذا ما ذهبت الى ان النقد يعرقل نمو النقد، فلقد رسخت الجامعات العربية معتقدات فى فهم الادب فالسبب ان غدت نمطا لا يقبل الزعزعة الا خارج قطاع الجامعات فالجامعيون يرفضون النقد الجديد ويقاومونه. بل ويترفعون عنه ومرد ذلك فى رأيى الى انه مجهد لا يحتملونه فضلا عن أنهم يعكسون موقف الطبقات السائدة من كل ما هو جديد فهم يألفون نقدا انشائيا مسطحا وفقيرا بالنزوع الاعتبارى والتحليل العمودى النازع نحو التنسيق والتنظيم الشمولى وهم فى ذلك انما يقتفون اثر طه حسين الذى أرى فيه رائد النقد العربى الحديث، على الرغم من النقود النافية التى ينبغي ان نمارسها عليه، ان طه حسين الذى لا يمكن للنقد الادبى المعاصر ان يتقدم دون ازاحته أعني دون تخطيه بفروق نوعية ان هذا الرائد لا نعدم المبررات لافقيته وتسطحه ونقص قدراته التحليلية وأهم هذه المبررات أفق عصره الذي لا يسمع بأكثر مما كان، اما الجمود عند برهة طه حسين اما تكريس طه حسين عميدا للادب العربي حتى بعد موته فلن يجد على الاطلاق ما يسوعه الا العنانة التى حاول الرائد الكبير ان يستأصلها من صميم العقل العربي اذن ان المهمة الاولى الملقاة على عاتق النقد المعاصر ولنقل النقد الجديد هى حذف طه حسين ومدرسته المهيمنة على الجامعات والتي لم تعد صامدة مع التطور الثقافى كما كانت ابان مرحلة التحرر الوطني وفجر الاستقلال وهذا يعنى بايجاز جر الدراسات النقدية الى خارج الجامعات تلك الهياكل المتحجرة والتي لا يمكن لجمودها ان يخفى وراءه الا ازمة الديمقراطية وخوف الطبقات السائدة من الوعى والنضج العقلي ونمو القدرة على التحليل والتعمق.
ان وقوف الجامعات المعاقل الكبرى لثقافة البرجوازية الصغيرة فى وجه كل جديد يخفى تحت طياته فى ما يخفى الازمة التاريخية لهذه الطبقة التى تتخبط
فى نموها المسدود بقوى الراسمال العالمى وبما ان الوعى هو أول ما تحاربه هذه الطبقة ولا سيما الذهنية التحليلية القادرة على استبار المنطويات التحتانية للأشياء لم يعد متجهنا ان يدخل الطالب الى الجامعات عاجزا عن هضم قصيدة وان يخرج منها مثلما دخل وللسبب عينه يعجز طالب التاريخ عن تحديد القوانين العامه المتحكمة بحركة المجتمعات والقوانين الخاصة ينمو المجتمع العربي ولهذا تتلكا الدراسات اللغوية على الرغم من الانفتاح على علوم اللغات الاروبية التى تعيش اليوم عصرها الذهبى. ان تثوير الدراسات اللغوية عندنا من شأنه ان يطور العقل التحليلى لان كل ما فى العقل من طاقة وخبرة لا يستطيع ان يبسط نفسه فى شئ مثلما يبسط نفسه فى اللغة ولان كل ما فى العقل لا بد من ان يمر بمرحلة اللغة او برهة العقول، قبل ان يعبر الى مجال التطبيق الموضوعى بمعنى ان القول - الوعى هو من أهم الفاعليات المؤثرة على حركة التاريخ وبايجاز ان تفجير اللغة لا بد من ان يسهم فى تفجير الفكر والادب والنقد معا.
اذن لكى نتمكن من التحكم بحركة النقد ولكى نوجهه الى الامام خصيبا عميقا ومعافى علينا قبل كل شئ ان نمارس نقدا صارما على الجهود النقدية التى بذلت خلال الاعوام الأخيرة ولذا فان النقد هو ما ستعيره هذه المقالة القسم الاكبر من جهودها ولسوف تعرض هذه المقالة إلى ثلاثة اتجاهات نقدية: لترى مواطن السلب فى كل واحد منها ولسوف تحاول ابراز عجز هذه الاتجاهات عن شيئين اساسيين الاستبار والشمولية أو النبش والاستنطاق من جهة والقدرة على التركيب او الرؤية المتكاملة، كما ان من أغراض هذه المقالة ان تؤكد على ما فحواه ان المنهج المتكامل هو خير أفق جديد يمكن للنقد الادبى ان يفتحه امامه ابتغاء تجاوز الموقف النقدى الراهن والمنهج المتكامل ويقوم على سندين أساسيين.
اولا: رؤية الجزئيات وهى تتكامل بعضها ببعض لتحقق المجال الفنى او المجمل الذى ندعوه المبدع.
ثانيا: تكامل الموقف من العمل الفني عبر اخضاعه الى شتى أنواع الثقافة النظرية اى رؤيته من كافة جوانبه الفنية واللغوية والنفسية والاجتماعية والفلسفية ... الخ.
وهذا يعنى ان العمل الفنى مجال مفتوح على الدوام وقابل لاعادة الخلق باستمرار.
خاتمة
لم أعرض لضيق المجال الى التيار الفنى الذى قدم انجازات لا بأس بها ولا سيما دراسة النويهى للشعر الجاهلي وكتاب نازك الملائكة فى الشعر المعاصر ودراسة سيد قطب للتصوير الفنى فى القرآن وسوى ذلك من المنجزات التى تستحق ان تناقش.
وعلى اية حال اظنني بينت ما فحواه ان جزءا اكبر من ازمة النقد الادبى عندنا (وهي برمتها ازمة منهج) هى عجزه عن الاستبار والتعمق اولا وعجزه عن التعميم والنظر الشمولي ثانيا وتتبدى هذه الازمة فى انفاق مجمل الجهد النقدى فى التفصيلات والجزيئات المضمونة والشذرات التصويرية تماما كما تتجادل الاصباغ فى صنع اللوحة حيث يتألف منها المجال كله.
ومن اهم مظاهر غياب التعميم والشمولية فيما نرى من النقاد من ينظر الى العمل الفني الذي يتعامل معه نظرة فلسفية فيراه من حيث هو نتاج قمع تاريخي أو قلق وجودى أو تعبير عن فرح يعوض عن القهر الذى ينزله المجتمع بالروح ان الفن غالبا ما يكون مطاردة لغائب اقصاه التاريخ عن سابق عمد واصرار الحرية الحب السعادة، الطعام .. الخ ... ولهذا نرى العمل الفنى يعظم بقدر ما يتفجر الانفعال الذي يحرضه فينا ولهذا أيضا كان المجاز ارادة خلق العوالم ولا سيما العوالم الغائبة. انه استحضار المقصى استحضار ما لا يمكن ان يحضر الا عبر الخيال.
وثمة نقطة اخرى غالبا ما نرى النقد يهملها مع انها لا تقل أهمية عما سبق. ان القصيدة الحديثة تؤثر عبر اجراء أساسى هو التراكم او التنامى المستمر للجزئيات المولفة للموضوع ولهذا ازيحت الى غير رجعة مقولة " بيت القصيد " التى كان يأخذ بها اسلافنا التراثيون وهذه هى اهم مزية للشعر الجديد ومع ذلك نلاحظ ان النقد الادبي قلما يعير هذه السمة البؤروية الاهتمام الذي تستحقة وهذا يعنى ان روح النقد القديم النقد الموضعي الذي يتناول هذه الشذرة التصويرية أو تلك بمعزل عن مجال القصيدة أو سياقها العام وكأن العمل الشعرى ليس معمارا متتاما. ان روح النقد القديم ما تزال تتسلل ولو نسبيا الى داخل الجهود النقدية.
وعلى اية حال يمكن ان نلخص سلبيات النقد الادبى العربى فى النقاط التالية:
اولا: الافقية او التسطح: فالنقد عندنا غالبا ما يبقى على سطح النصوص وقلما يمتد الى الاعماق ليأخذ حركة عمودية تبتغي استنطاق مكنونات النص ...
ثانيا: العلاقه بين الشكل والمضمون قلما تمس الا مسا خفيفا وفي كثير من الاحيان لا تمس على الاطلاق.
ثالثا: اهمال دراسة حركة القصيدة ووحدتها والتنقيب عما تعانيه من شروح ولا سيما حين تكون قصيدة طويلة.
رابعا: نقد الموسيقى والمعجم والفكرة لا نفع عليه الا لدى نقر استثنائى من النقاد.
خامسا: غياب الوعى اللغوي والدراسة الاسلوبية عن ذهن الناقد الا هي حالات نادرة وحتى فى مثل هذه الحالات قلما نلمس عبقرية التحليل اللغوي والخصائص الاسلوبية.
سادسا: يندر ان نجد ( وربما لا نجد اطلاقا ) ناقدا ينبش جملة الصور الذهنية التى تؤلف اعماق النسيج الخيالي واللغوى للمبدعات الفنية.
سابعا: نتيجة لاهمال العلاقة القائمة بين الشكل والمضمون ونتيجة لانصباب الهم النقدى على استعراض مضامين القصيدة نلاحظ فى الغالب الاعم ان النقود الادبية قلما تعير انتباها كبيرا لاحكام القيمة التى هى الغاية المحورية للنقد وحتى حين يهتم الناقد باصدار حكم قيمة على مبدع ما فان حكمه لا يأتي تحليل الطابع بل هو يأتى بطريقة تقريرية فجة ومقتضبة وهذا يعنى ان مقولة الاستبصار فلما تؤخذ من حيث هى جوهر العمل النقدى بل ومن حيث هى المعيار الاساسى لرؤية الفنان لوجوده أو بوصفها الفارق الاول بين الفن وشبه الفن. وعل أية حال فان النقد الادبى عندنا لن ينتقل الى أفق جديد الا اذا تخطى هذه السلبيات جميعها والا اذا بذل جهودا جبارة فى تجاور المعطى النقدى برمته وفي تصورى ان تطوير منهج متكامل فى النقد هو وحده الامر الكفيل بانجاز الافق الجديد.
