الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

نهج البلاغة

Share

بطلب من جمعية أحباء ايطاليا القت الاستاذة لورة فيتشيا فالييرى Laura Veccia Vaglieri بقاعة القنصلية الايطالية منذ بعض أسابيع محاضرة عن كتان نهج البلاغة حضرها جمع كبير من العلماء والادباء والطلبة السيدة الفاضلة أستاذة للاداب واللغة العربية بالمعهد العالى للدراسات الشرقية بنابلى بايطاليا وقد قدمها الاستاذ الشيخ الفاضل بن عاشور فتحدث عن منزلة الاستشراق بإيطاليا وتجاوب المستشرقين فيها مع الذوق العربى والفكر الشرقى . ومما قال فى تقديمها :

" قد اختارت الاستاذة فى محاضرتها موضوعا من المواضع التى تثقفت فيها ؛ فقد كانت هذه الاستاذة متخصصة فى دراسة العهد العلوي ودراسة شخصية الامام على بن أبى طالب ، رضى الله عنه ، وخلافته وادابه ، وهى اليوم تتولى عرض بحث يرجع الى تمييز القيمة الفنية لكتاب نهج البلاغة وتمحيص ما فيه من النصوص التى تفضل انها صحيحة النسبة للامام على والنصوص التى تخول كغيرها من الباحثين العرب والمستعربين القدماء والمحدثين الى انها ليست صحيحة النسبة الى الامام على " . وفد تفضلت الاستاذة وسلمتنا مشكورة نص المحاضرة لنشره على صفحات " الفكر " .

كم كان سرورى عندما دعانى حضرة صاحب السعادة سفيرنا المفوض الى القاء محاضرة بين حضراتكم ، تلك هى فرصة سنحت لزيارة بلدكم الذى يهواه نفسى وان اعتلانى الخجل واحاطنى الوجل من الخطابة بلغة تنطقونها بكيفية تتعسر على امثالى غير ان لطافتكم التى احاطتنى قد ازالت عنى كل خجل ووجل . فاشكركم من اعماق نفسى على حفاوتكم ومجاملتكم . وها انا ذى احدثكم عن نهج البلاغة ، احدثكم بكل بساطة حذرا من ان يطبق على قول الشاعر : ) كالهر يحكى انتفاخا سورة الاسد ( .

فقبل ان استهل الموضوع التمس من حضراتكم الاصغاء الى ذكر الاسباب التى دعتنى الى الاهتمام بالبحث عن كتاب قد لاتستساغ قراءته . ولا ندرى أكان ذلك من صعوبة ادراكه ، او من كثرة المواعظ الموجودة فيه . وكما تعلمون ان الناس قد لا تجب ان توعظ او تذكر الاخرة وما ينتظر المذنبين فيها من سوء الوعيد ، كنت اعلم ان الشيعة اعتبرت ) كتاب نهج البلاغة ( كتالي القرآن الكريم والحديث النبوى وكما كنت اعلم ان اهل السنة يعظمونه وخصوصا بعد ان اهتم الامام الشيخ محمد عبده ببعثه من مرقده وها قد اصبح الشبان في المدارس يحفظون منه نبذا .

ومن جهة اخرى ، كنت اجد هذا الكتاب مهملا في مؤلفات المستشرقين وبحوثهم باعتباره مزورا ثم قرأت ما كتبه الاستاد عبد الجليل القائل : ليس هناك اسان تحمل على رفض كل ما انطوى عليه الكتاب رفضا قاطعا ، وان بحثا دقيق منصفا قد يؤدى الى تمييز المزور والاكتشاف الحقيقى فاثرت على هذه الكلمة واخذت تطارح خلدى .

وبينما كنت مشغولة بالتنقيب عن الحوادث الواقعة فى عهد خلافة ابى الحسن على بن ابي طالب اذ عثرت على صحف شتى من الكتاب فلالاحظت انطباقها على نصوص المؤرخين القدماء . فقلت لنفسى ان وثقنا بهؤلاء المؤرخين وقبلنا ما ذكروه لنا فلم لا نعتبر هذه الصحف من الحقيقى ايضا ؟

وتساءلت فى نفسى : لم لا أحاول دراسة ما فى الكتاب ؛ فلو ثبتت صحة جزء منه على الاقل لكان ذلك نجاحا في العثور على شاهد كبير في النشر العربى يعد الثاني بعد القرآن الكريم .

فشرعت في دراسة الكتاب مباشرة واذ ذاك علمت ان مشكلة صحته قد شغلت اذهان علماء المسلمين من قبل وان الجدال والنزاع كان قد قسمهم الى ثلاثة فرق .

فكان فريق يدافع بحماسة عن صحة نسبة الكتاب الى الامام على ولا يجيزون محاولة الجدال فى امر صحته وفريق لا يعترف الا بصحة جزء منه وفريق بت فى عدم صحة الكتاب باسره ويعتبره مختلقا .

ثم اطلعت على بحث اجراه باللغة الفرنسية احد علماء المسلمين حديثا غير انى لا بد ان اصرح بعدم قبول لاسلوبه الذى يختلف عن اسلوبنا معشر المستشرقين ، وحتى لو وجدنا فيه ملاحظات تقتبس لاهميتها ودقتها . ثم وضعت الكتاب امامى وقمت بترجمته . لان عملية الترجمة هي حيلة تساعد الباحث على فهم فكرة المؤلف الاجنبي وخصوصا ان كان النص معقدا فانها تجبر على التعمق .

غير اني قد اخطات في بادىء الامر : فلقد اعتاد كل مصنف ان يستهل موضوعه بمقدمة كما اعتاد كل قارىء اهمالها وعدم الالتفات اليها . وكنت من بين هؤلاء الذين اهملوا مقدمة كتاب نهج البلاغة فى بادىء الامر ولنا الآن ان نسلك سواء السبيل معا ونحلل هذه المقدمة . ولكن قبل ان نبدأ استاذن حضراتكم فى فتح قوس : لقد اخبرنا ابن خلكان عن اختلاف الآراء حول من جمع كلام الامام هل كان الشريف الرضى ام الشريف المرتضى ؛ غير ان الشك فى الجامع لا مبرر له فلقد كان الجامع بلا شك هو الشريف الرضى ولبس اخاه الشريف المرتضى وسوف اعرض هذا وابسطه فى مقالة سانتشرها عما قريب ان شاء الله تعالى . ولذا سوف لا اقصد من ذكر الجامع اثناء حديثي سوى الرضى .

فلنقفل القوس ولنعد الى مقدمة الكتاب . فالشريف الرضى - وهو الشاعر : المشهور ، الاديب المأثور عاش في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة - ذكر في سابقة الذكر انه قد ابتدا في عنفوان شبابه فى تاليف كتاب فى خصائص الائمة يشتمل على محاسن اخبارهم وجواهر كلامهم غير انه ما اتم من هذه الخصائص سوى ما يخص امير المؤمنين على بن ابى طالب فجاء فى اخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه من الكلام القصير دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة فاستحسن جماعة من اصدقائه ما اشتمل عليه هذا الفصل المذكور معجبن ببدائعه متعجبين

من نواصعه فسالوه ان يؤلف كتابا يحتوى على المختار من كلام امير المؤمنين فى جميع فنونه ومتشعبات غصونه من خطب ومواعظ وآداب علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنياوية ما لا يوجد مجتمعا فى كلام ولا مجموع الاطراف فى كتاب الخ

فاجاب الرضى مسالة هؤلاء معتمدا تبين عظيم قدر امير المؤمنين فى هذه الفضيلة فلنستخرج الآن زبدة ما ذكر . .

ما كان مراد الرضى من تاليف كتابه هذا ؟ ( اولا ) كان غرضه ان يجمع نبذا وما اهتم بجمع كل ما نقل عن ابن ابي طالب فاننا نجد خطبا ورسائل منسوبة اليه فى بطون كتب اخرى فأذن قد اخطا من قال ان كتاب نهج البلاغة يضم كل ما نقل عنه

( ثانيا ) لم يكن غرض الشريف الرضى الا تاليف مجموعة للفصاحة العلوية ويؤيد هذا عنوان الكتاب نفسه ( نهج البلاغة ) كما تشير الى ذلك بعض العبارات التى تلى ما لخصناه من المقدمة يذكر فيها الجامع انه قد اجمع على اختيار محاسن الخطب فمحاسن الكتب ثم محاسن الحكم والاداب وان الغرض من هذه العملية هو ان يورد النكت واللمع لا التتالي والنسق . وبهذه الكيفية قد خطط الرضى حدود عمله ، اذ ليس بمجموعة نصوص الامام تتخذها الشيعة اساسا لمبادئهم المذهبية ومطامعهم السياسية ، كلا بل هو كتاب ادبى محض . ولو قمنا فيما بعد بمطالعة صحائف الكتاب لوجدنا فى طيه من الادلة ما يزيد وضوحا فى ان الجامع قد اقتطف ما طاب له سواء كان ذلك من الطويل او القصير او الاقصر بحيث لا يكون خارجا عن حدود عمله وحيز غرضه فقد نرى كل قطعة من هذه المقتطفات متوجة باحد هذه العناوين وهى " من خطبة له عليه السلام " او " من كلام له عليه السلام " الخ كما نراها متمنطقة الوسط بقول الجامع . . " ومنها " او " ومنه " وذلك بعد سطور معدودات من القطعة نفسها . . واخيرا قد لاحظ ابن ابى الحديد الشارح المشهور قطعا قدمت كقطع ذات عنصر واحد وهى فى الحقيقة مركبة من عنصرين او اكثر ثم قال ان الجامع قد ذهب الى ذكر البليغ من كلام امير المؤمنين ولا غير . فكانت كلمة الشارح للجامع كتزكية .

إكان كشف النقاب عن كل هذا امرا ضروريا ؟

نعم كان ضروريا لانه بمساعدة ما ذكرته قد نستطيع معرفة سبب غرابة هذا الكتاب وغموض بعض مواضيعه

ان العصر الذي عاش فيه الرضى لهو القرن الرابع للهجرة ومما عرف عن ادبائه انهم كانوا يتسابقون الى النسق ودقة الصناعة والزخرفة اكثر من التفاتهم الى اشباع الموضوع . ذلك القرن الذي شاهد موكب النثر المزخرف اثناء سيره فى طريق الانتصار

فبهذا قد اتضح لنا السبب الذي حمل مؤلفنا على جمع وثائق لغوية عتيقة غنية بزخارف البلاغة وعجائب الفصاحة ان ذلك لهو المبدأ الذى تحكم فى كتاب نهج البلاغة وسيطر عليه ، هو العثور على رشيق الاسلوب وجميل الصيغة وغريب المفردات ونادر الجمل وبديع المجاز

سبق ان نوهت بغرابة الكتاب وربما ظن بعض حضراتكم انى لم انصف . فما هى علامات تلك الغرابة ؛

ان عدم وجود ترتيب وتعقيب اول ما ، يلاحظ اللهم الا ما كان من فصل الجامع للخطب عن غيرها كالرسائل والحكم ، ففي هذا انه لرتب وعقب . وما سوى ذلك فكان ممزوجا ؛ فقد مزج طويل النبذ بقصرها واقصرها كما مزجت السياسة بالوعظ والوصف . كذا لم يلتفت الجامع الى سابقية الحوادث . فمخاصمة امير المؤمنين لاعدائه قد سبقت مثلا رثاءه لفاطمة الزهراء حين دفنها وهلم جرا

وقد ذكر في آخر الكتاب ان الرضى انتهى من جمعه سنة اربعمائة للهجرة ثم توفاه الله سنة ست واربعمائة واشتغل خلال هذه السنوات الستة الاخيرة بما قد وكل اليه من المناصب فتساءلت عما اذا كان الكتاب قد أتم عند مماته ام لا

فلننتقل الان الى بحث الكتاب من الباطن بعد ان فحصناه من الظاهر ذكرت ان ابن خلكان قد شك فيمن جمع الكتاب . غير اني لم اذكر انه اضاف الى ذلك الشك مخبرا عن اتهام علماء وقتئذ لصحته ) صحة نسته الى امير المؤمنين ( " فقد قيل انما الذي جمعه ونسبه اليه هو الذى وضعه والله اعلم " فتبين ان اعظم الشكوك هو الشك فى صحة نسبته وخاصة من اهل السنة قد وقع . واما الشيعة فقد اجمعوا على صحته بتمامه او اعترفوا عن غير رضى بوجود المدسوس

فيه مما لاصلة له بعلتي وقد تسرب ذلك الى نهج البلاغة بقدر ما تسرب الى الحديث الشريف .

فلنفتح الكتاب ونستهل قراءته : الحمد لله الذى لا يبلغ مدحته القائلون . ولا يحص نعماءه العادون . ولا يؤدى حقه المجتهدون ، الذى يدركه بعد الهمم . ولا يناله غوص الفطن الذى ليس لصفته حد محدود . ولا نعت موجود . ولا وقت معدود ولا اجل ممدود . الخ .

رحماك ربى قد بدأ الشك يتسرب الينا ايضا ويسرى فى قلوبنا . فما اوقع هذا السجع وما أضبطه . فلنواصل قراءتنا

اول دينه معرفته . وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده . وكمال توحيده الاخلاص له . وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه . لشهادة كل صفة انها غير الموصوف . وشهادة كل موصوف انه غير الصفة . فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه . ومن قرنه فقد ثناه . ومن ثناه فقد جزأه . الخ . .

اهذه القطعة شهدت عهد على ؟ كلا ، ان هذه القطعة الكلامية فى توحيد الله لم تخلق فى عهده مطلقا وما ولدت الا بعده غير ان ما قرآناه هو اول ما فى الكتاب فقد نعتبره كمقدمة اضيفت الى الاصل فيما بعد . فلنترك هذا ونقرا قطعة اخرى :

الحمد لله الذى لم يسبق له حال حالا . فيكون اولا قبل ان يكون آخرا . ويكون ظاهرا قبل ان يكون باطنا . الخ . .

فما اكثر الافكار الفيلسوفية فى هذا القطعة . ولنقرأ نبذة اخرى : وبسطتم يدى وكففتها . ومددتموها فقبضتها . وتداكتم على تداك الابل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل . وسقط الرداء . ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم اياى ان ابتهج بها الصغير . وهدج اليها الكبير . وتحامل نحوها العليل . وحسرت اليها الكعاب . .

فاين السجع هنا ؟ اللهم الا ما كان عفوا عن غير قصد مما لا يعرف النسق

والمبالغة بحال وما وجد في هذه القطعة سوى وصف بسيط ولم لا نصرح بقدم مثل هذه القطعة ؟ فربما صحت ايضا نسبتها الى الامام على . لم لا ؟

قد تشيع بعض الباحثين ومنهم نفس الشارح ابن ابي الحديد لوحدة الاسلوب ) اسلوب الكتاب من اوله الى آخره ( اما رايي فهو عدم وحدة الاسلوب . فاصغوا الى هذه القطعة التالية التى يقرأها الدكتور روستكو نيابة عنى :

كبس الارض على مور امواج مستفحلة ، ولجج بحار زاخرة تلتطم اوادذي امواجها وتصطفق متقاذفات اثباجها وترغو زبدا كالفحول عند هياجها . فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ، وسكن هيج ارتمائه اذ وطئته بكلكلها ، وذل مستخذيا اذ تمعكت عليه بكواهلها فاصبح بعد اصطخاب امواجه ساجيا مقهورا ، وفي حكمة الذل منقادا اسيرا وسكنت الارض مدحوة فى لجة تياره ، وردت من نخوة بأوه واعتلائه وشموخ انفه وسمو غلوائه وكعمته على كظة جريته فهمد بعد نزقاته ولبد بعد زيفان وثباته ولما سكن هياج الماء من تحت اكنافها وحمل شواهق الجبال الشمخ على اكتافها فجر ينابيع العيون من عرانين انوفها ، وفرقها في سهوب بيدها واخاديدها وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشم من صياخيدها وسكنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع اديمها وتغلغلها متسربة فى جوبات خياشيمها وركوبها اعناق سهول الارضين وجراثيمها وفسح بين الجو بينها واعد الهواء متنسما لساكنها واخرج اليها اهلها على تمام مرافقها ثم لم يدع جرز الارض التى تقصر مياه العيون عن روابيها ولا تجد جداول الانهار ذريعة الى بلوغها حتى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي موتها وتستخرج نباتها ، الف غمامها بعد افتراق لمعه وتباين قزعه حتى اذا تمخضت لجة المزن فيه والتمع برقه فى كففه ، ولم ينم وميضه في كنهور ربابه ومتراكم سحابه ، ارسله سحا متداركا قد اسف هيدبة تمريه الجنوب درر اهاضيبه ودفع شآبيبه الخ . .

واظنكم توافقونى ومن حكم على حداثة امثال هذه القطعة لاحكام صناعتها ودقتها .

يقول ناكرو النسبة ان الطريقة العددية فى شرح المسائل كتقسيم الفضائل والرذائل الى عدة عناصر لم يلتفت اليها ادباء الصدر الاول وفى كتاب نهج البلاغة امثلة عديدة لهذه الطريقة واذكر منها قوله :

الايمان على اربعة دعائم على الصبر واليقين والعدل والجهاد والصبر منها على اربع شعب الخ .

ثم يقول ناكرو النسبة ان فى الكتاب ما يشم منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب وان اعتقدت الشيعة فى اهلية الامام لعلم الغيب . فاهل الستة افردوا الله بذلك بدليل ما ورد فى القرآن ) لا يعلم الغيب الا الله ( فلقد قرأت هذه التنبؤات فوجدتها فى غاية من الغموض فتساءلت عما اذا كانت تنبؤات حقا ام لا .

وبما قد سبق من الامثلة والكلام قدمت اليكم الحجيج الاساسية التى كانت فى متناول المتنازعين

وعند وصولنا إلى هذه النقطة من كلمتى لعلكم يقول فى نفسه : لقد جاءت هذه المحاضرة باشياء قد عرفناها من قبل ، فما تقصد ؟

فجواببى على حضرة المتسائل هذا انى قد حضرت لاطرح شيئا جديدا على بساط البحث وذلك لاعتقادى ان العمل الذى قمت به لم يقم به احد سواى فقد استخرجت من الكتاب كل ما يحتوى عليه من المواضيع السياسية المتعلقة بالحوادث التاريخية ثم ترجمتها فادرجتها حسب التسلسل التاريخي ثم درستها . فهذا عمل قد تبينت لي اهميته وان لم اتممه حتى الآن . لانه مكننى من ايجاد بعض الملاحظات مثلا :

اول شئ لاحظته ان الذى يرجع الى اقدم عهد من حياة ابن ابى طالب ما هو الا القليل النادر وهذا ان لم يكن بمقدار حجة تامة على صحة النسبة فقد يكون شبه حجة على الاقل . لانه لو اراد احد تزوير هذه الوثائق لقام بتزوير كل ما انطوى عليه عهد الامام ، وانما كثرة ما ورد من قطع تتعلق بما حصل بعد ان بويع له بالخلافة تدل على ان اهتمام الناس بحفظ كلامه نشأ ونما حسب ارتفاع منزلته

ولي ان اقول ايضا : ان ترتيب المقتطفات حسب تسلسل التاريخ قد جعلني اسقط بعضا من تعاليل من ذهب على عدم الصحة القائلين : وكيف يمكن وقوع الطعن فى بعض صحابة رسول الله بما لا يليق من مثل الامام على ؟

وقالوا : لو ان عليا لم يستحسن كيفية بيعة من سبقوه بالخلافة - كما ورد في

الخطبة المسماة بالشقشقية - فكيف له ان يمدح عمر بن الخطاب ويتغالى في رفعة شانه كما ورد فى خطبة اخرى ، فأذن تضاد هذه المقتطفات ، مما يحرضنا على الشك في صحتها ، ولكن ، ايها السادة ، الزمان وتطوراته هى حقيقة واقعية ولا بد للباحث من ان يقدر تغير الظروف فيجب فحص مقتطفات نهج البلاغة بعد ان وضعت مسلسلة حسب تطورات الحوادث التاريخية اعنى بعبارة اخرى ان عليا بعد ان بويع له بالخلافة وبعد ان اضطر الى مواجهة معارضيه بحد السيف تمكن من التصريح بما كان كامنا فى نفسه او بما لم يتكون فى باله قبل

ثم من المعروف ان النواع السياسى قد يدفع الى العنف لفظا وخطا وقد اخبرنا المؤرخون من العرب عن مقدار الا هواء التى انطلقت من عقالها فى عهدى خلافة عثمان وعلى وقد وصلنا ما حفظوه لنا من الوثائق وان اختبرنا تلك النبذ على ضياء التاريخ فيتلاشى التضاد فى الواقع وعندما عاودت قراءة هذه النبذ درسا نبين لي جليا ما قد احسست به اثناء سرادتى الاولى وهو رجوعها الى عهد قديم جدا . فان وجدنا بعض جمل تثير الشك فى قدمها فمن المحتمل ان تكون من التحشية وهذا لا يجيزنا على رد القطعة باسرها باعتبارها مستحدثة . وقد صرح جرجي زيدان بان المقتطفات السياسية في كتاب نهج البلاغة ترجع الى على غير انه لم يبرز ادلة على صحة ما تبين له . ثم من ذوات الاهمية ان ما يتوسم بالطابع الشيعى من النصوص في نهج البلاغة وهذا القليل النادر - لهو من المبهم الغامض ولعل سبب هذا هو اهتمام الجامع بعرض الفصح كما ذكرنا ، غير انى اعتقد انه من داع آخر ، وهو قدم المقتطفات نفسها

قد لاحظ الباحث الحديث الذى اومأت اليه بان الكتاب يضم قطعا تنطوى على اراء تتماشى مع اراء الامامية والاسماعيلية واهل السنة وغيرهم ثم قال " ان لهذه الاراء اصلا فى مذهب الامامية او فى مذهب الاسماعيلية او فى مذهب " السنه " وما الذي يستنتج من هذا القول لا بد ان يستنتج منه ان القطع التى تضم تلك الاراء كلها حديثة . اما انا فاقول عكس ما قاله وهو ان المذاهب المذكور لم تتكون في عهد على وما انشقت وتفرعت الا فيما بعد فكانما كانت لبا ثم نمت وتطورت وتميز بعضها عن بعض و ضبطت . لذا نجد ان الاراء الموجودة فى نهج البلاغة لا تبين اتجاها معينا لانها سابقة لتكوين المذاهب نفسها .

والاسلوب الذي يجب ان يتخذه نقاد التاريخ هو اعتبار الاراء وقت حدوثها وعدم تطبيق ما حدث فيما تاخر على ما وقع فيما تقدم .

ومما ينبغى علينا ان نذكره هو ان الرضى كان شيعيا يعيش فى عهد بنى بويه وهم ايضا من الشيعة وكان بايديهم مقاليد الامور باستئثارهم على الخلفاء انفسهم ولذا كان فى وسع الرضى ادراج ما يتماشى مع قومه مذهبا ومطمعا ولكنه لم يفعل ولماذا لم يفعل . ؟

لانه رجل نزيه وما وجده منقولا عن الامام من تصريحات سياسية انما كانت بصيغة الاطلاق لا بصيغة التخصيص . ولامانته ونزاهته تعفف عن تبديلة وادراج ما يرضى قومه فيه

ويمكنكم ان تسألوني عن الثقة التى بينى وبين الشريف الرضى وعن سببها وهى تخالف وجهة شك ابن خلكان وعادة بعض الرواة من العرب فيما مضى وهى تاليفهم للشعر وتنميته الى بعض شعراء الجاهلية مثلا . كما انهم يختلفون الاحاديث حسب شهواتهم ثم ينسبونها الى رسول الله . نعم لقد كان كذلك حقا غير انه كان دائما لغرض ما . وما هو غرض الشريف الرضى ؟

ساقص عليكم بعضا من خصائصه التى بها يمكنكم الحكم لشخصيته كان الرضى ينحدر من سلالة علوية كريمة تنتمى الى الامام السابع الا وهو ( موسى الكاظم ) وهذا من جهة ابيه واما نسبه من جهة امه فكان علويا ايضا وكان احد اجداده ملكا فى القوقاز . فلقد استلم الرضى ما كان بيد والده من المناصب رغم حداثة سنه وصغره عن اخيه المرتضى . فكان نقيب الطالبيين وناظر المظالم وامير الحج وكرمه بهاء الدولة البويهى ورفع منزلته فاتحفه بانبل الالقاب كما صاحبه واخلص له الخليفتان الطائع والقادر . وحاصل هذا ان الرضى قد وصل الى اعلى القمم فتمكن من نظم هذه الابيات

عطفا امير المؤمنين فاننا   في دوحة العلياء لا نتفرق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت  ابدا كلانا في العلاء معرق

الا الخلافة شرفتك فانثى  انا عاطل منها وانت مطوق

فرد عليها الخليفة بقوله : على رغم انف الشريف !

وكان الرضى ثريا وتحمله لنفقات دار العلوم التى اسست في بغداد دليل على ثروته . وكان مشهورا لنبوغه فى الشعر . الم . يذكر معاصره الثعالبى انه ) الرضى ( اشعر الطالبين وربما اشعر قريش ؟ وكان معززا بكثرة الاتباع والاصحاب . ألا بدل على ذلك بقاؤه فى المناصب رغم اضطراب الآونة ؟

غير ان الذى اريد احياءه هو علو همته وحرصه على استقلال ذمته وارائه فانه لم يقبل صلات من احد حتى من بنى بويه . ولما خلع بهاء الدولة الخليفة الطائع عنفا تجاسر الرضى على اظهار حزنه ودم السلطان وما اجسره عندما رثى الخليفة بعد وفاته بالحبس اذ كان الظالم هو بهاء الدولة حاميه وكان حريصا على تنفيذ ما كان عليه من الواجبات وكان يوصف بالافراط فى عقاب المذنب من اهله وله حكايات فى ذلك منها ان امراة علوية شكت اليه زوجها وكان مقاما فامر الرضى بضربه مئة جلدة . فصاحت المرأة يتم اولادى فاجابها بقوله : اظننت ان افعل به كما يفعل المؤدب مع اطفاله

اذن كان الرضى قادرا غنيا اعتلى قمة الشهرة لنبوغه الشعرى ، رقيق الحس كريم الخلق . لا يشف عنه اى غرض سياسى مما قام بجمعه فى كتابه بل بالعكس فقد نجد فيه ما يخالف اراء الروافض الذين ينتمي اليهم الرضى بعينه واضف الى هذا ان كثيرا من النصوص التى اقتطفها كانت معروفة فى بيئته وحينه . فهل كان في ارادته واستطاعته ان يبدل شيئا منها ؟ كلا ، ثم هناك تغيرات كثيرة فى النصوص لتقطها الرضى ودونها . ولاى داع كانت هذه المشقة ؛

انى لأرى سر مسالة نهج البلاغة كامنا فى جملة قصيرة تقرأ في مقدمة الرضى حيث يتكلم عن كتابه الاول فى خصائص الائمة فقد اخبرنا انه جمع محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصر . اذن جمع الرضى ولم ينتقد ولو اخذ ينتقد ما تواتر النقل فيه فعلى اى يقف ؛ اذ تيسرت التحشية وخاصة فى السجع . فان الجملة تدعو اختها والاسم يدعو ما يرادفه والنعت يبقى على خشونته انفرد فيسعى الى تهذيب نفسه بما يوافق طبعه فقد اندفع الرواة الى تنميق النصوص الصحيحة او القديمة بتنوعات ابتدعوها واستعذبها الجمهور ومن اعسر الامور القيام بتمييز صحيح النسبة او العتيق مما زيد عليه . وان كنت اعتقد ان فى استطاعتى القيام بهذه العملية فيما يخص الجزء السياسي وذلك بمساعدة الرجوع الى ما نعرفه من الحوادث التاريخية فالباقى من الكتاب اسلمه الى من هو اقدر منى على تلك المهمة مقتصرة على الاشارة الى مبدا واحد وهو كل رواية

هى صحيحة بصفة عامة حتى يتبين انها باطلة . لا تبتسموا من بساطة هذا المبدأ فانه من المودة ان يشك في بادىء الامر ثم يفتش عن الحجج لتثبت الصحة . وتطبيق المبدأ المذكور ارى ان الباحث يجبر على حذف صحف كثيرة من كتاب نهج البلاغة رغم ملوسته وخصوصا المطول منه . ثم بعد الحذف يبتدىء ذلك العمل الدقيق الذى لا تمامه لا بد من معرفة عميقة بالنثر العربي وتطوره دراسة وذوقا وقد سبق انه مما خرج من وسعى وفى اثناء العمل لن ينسى شئ مهم جدا وهو ان شهرة فصاحة وبلاغة امير المؤمنين على بن ابي طالب لا يثبتها تواتر الاخبار فحسب بل كانت تركيز على نصوص دارت بين الادباء وكفى بنا شهيدا ما حكى الجهشيارى عن عبد الحميد الكاتب الشهير فى اواخر عهد بني أمية احد واضعى فن الرسائل العربى وما يحكى عنه هو انه ابتدع اسلوبه بما درسه من بليغ ابن ابى طالب كما ان ابن نباتة ذلك الخطين الذى شاعت شهرته لنبوغه في الخطابة قد اكتفى خطب على واخذ منها اذن الم تكن شهرية فصاحة على توسيعا للاعجاب به لكونه ابن عم رسول الله وسابقيه فى الاسلام وجهاده وامامته للمسلمين بل كانت اعجابا نشأ من وثائق تدرس وتقتدى

فحرى ان جهد فى اكتشاف ما فى نهج البلاغة من النصوص القديمة . هذه النصوص التى في استطاعتها ان تزود الاداب العربية باثمن الوثائق واعظم البراهين - بجانب القران العظيم - على مقدرتها وثروتها ونضوجها السابق لعهد اختلاط العرب

بغيرهم من الامم . وبالختام اضيف إلى ما قد قلت انه على الباحث ألا يقيس ما يجده في كتاب نهج البلاغة من الافكار والاراء على ما يعرفه من الافكار والاراء المتداولة فى المدينة الما كانت المركز السياسى لسكان جزيرة العرب فقط بل عليه ان يقيسها على بيئة المدينة التى ضمت عليا فى نضوجه اعنى فى الوقت الذى

اصبحت فيه الددنة عاصمة دولة كبرى ، فلقد تحولت بيئتها وتغيرت عما كانت عليه واتسعت الافكار بفضل التحنيك الدينى والسياسى والعسكرى فلا عجب اذن من وجود اراء جديدة وافكار فريدة لان ذلك وليد تلك الزلازل وذلك الضجيج التي عرفها اهل المدينة مدة زادت على ربع قرن تلك هى الفترة التى بين البعثة ووفاة ابن ابى طالب .

اشترك في نشرتنا البريدية