الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

نَدْوَة القرّاء، نقد "قصة الفجر " *

Share

هذه القصة هي من القصص التي تُسمّى بما يُعبّر عنه بالفرنسية novelle فهي تختلف أشدَّ الاختلاف عن قصة " صفحة خاصّة بإعلانات الموتىa these لصالح الحابري ، و " كلبان " للهادي الغالي اللتين نُشرتا في العدد الذى نُشرتْ فيه " أذان الفحر " ، وتحمل فكرة قوية وتثير سؤالاً تطرحه كل المجتمعات الاسلامية المتخلفة التي أَخذ الوعي ينتشر بين أفرادها ، والتي أصبحت تطمح إلى نزع شبح التجمّد والركود . وكقصة " ليلة القدر " وقصة " النوافذ " اللتين نُشرتا في هذه المجلة لنفس القاصّ تدور " أذان الفجر " في جوّ دينيّ ، وعلى وجه التدقيق إسلامي ، وهو شيء هام تفطّن إليه محمود طرشونة وأحسّ بتعفّنه وشعر بمدى خطورته في تفكير الشعوب المتخلفة.

فالقصة تصور مدينة إسلامية يعيش سكانها هادئين مطمئنين يعبدون الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن الفحشاء والمنكر ، يُصلون كعادتهم صلاة العشاء ويدعون لأنفسهم كثيًرا ، ولغيرهم كثيًرا ، ثم ينامون بعد الصلاة ، فتأمن نفوسهم وترتاح أبدانهم ، ويستيقظون كل يوم على صوت بشري يُؤذّن لصلاة الفجر وفجأة حدث حادث " فقد شقّ الصمتَ والظلام صوتٌ ليس كأصوات البشر اهتزّ من حوله النائمون ، فانتزعوا من عالم الوهم والطمأنينة ، فانهزم السّلام وتاهتْ السكينة وتقلبت أبدان وهامت أنفس " . إنه مُضخّم صوت استعمله المؤذن مكان الصوت البشريّ . وهنا يتأزم الموقف فيصبح هذا الحدث الجديد موضوعًا لجلساتهم ، فيتحمسون ويغضبون ويثورون ويَهمّ بعضهم بإحراق المسجد ، لكن هناك منْ يتصدّى له ويصده عن ذلك.

وفي اليوم الموالي يصلون كالعادة ثم ينامون ليستيقظوا على صوت هذه الآلة فتكون ثورتهم في الصباح أقوى وغضبهم أكبر ، ويتناقشون طويلاً ثم يرفعون الامر إلى أولي الأمر فيحل المشكل ويعود الصوت البشري يؤذن في اليوم الموالي لصلاة الفجر .

٠٠١,٠ . لا شك أن القارىء الواعي سيدرك دون جهد أن هذه القصة رمزية ، فمحمود فى " الظلام القاتم القاتم " ، المتشبتين بالشكليات الدينية والذين يقفون سدا

طرشونة يرسم في شىء من التحدي والسخرية صورة لهؤلاء المسلمين النائمين منيعًا ضد كل بادرة تطور وتفتح ، فهم يريدون أن يبقوا الأمور على ما كانت عليه أيام الرسول فلا يؤذن في المدينة عند الفجر إلا رجل كما أذن بلال سابقًا ، فمجرد استعمال مضخم الصوت يثير غضبهم وحنقهم وستفزهم فيعتبرون ذلك " بدعة دخيلة على سنة محمد " . ومن قرأ قصة " النوافذ " التي نُشرت سابقًا في هذه المجلة والتي يصوّر فيها محمود طرشونة مؤدباً سلفيًا يملي القرآن على تلامذة يريدون أن يخرجوا من القاعة التي تعفن هواؤها ، بينما يتجاهلهم هذا المؤدب كما يتجاهل السحب المتراكمة في السماء خارج القاعة ، وهي رمز إلى التقدم ، ويمضي في إملائه دون أن يعبأ بكل ما يدور حوله ، إلى أن تتكسر النوافذ ويغمى على المؤدب ويدخل القاعة هواء نقي - من يقرأ تلك القصة يدرك مدى شدة إلحاح محمود طرشونة على التفتح ، ويفهم أن هذه القصة " أذان الفجر " ما هي في حقيقة الأمر إلا دعوة صارخة إلى فهم الدين الإسلامي فهمًا صحيحًا بعيدًا عن " التحجر " والترهات متلائمًا مع عصر جديد سيطرت فيه العلوم وصارت الآلة أحسن سلاح لمحاربة هذا التخلّف .

إلا أني استغربت شيئًا في هذه القصة وهو سؤال أطرحه على محمود طرشونة : كيف استطاع هذا المؤذن الذي يعيش مع ناس غلب عليهم التعصب أن يستعمل هذه الآلة عند نداء الفجر دون أن يحس ما أحس به ناس المدينة ؟ وهناك شيء آخر أثار انتباهي في هذه القصة وهي خاتمتها ، فهي نهاية انهزامية استسلامية انتصر فيها سكان المدينة على الآلة ، وهنا يقع طرشونة في خطأ فهو يدعو إلى التفتح ، وهو يرفض هؤلاء الناس ويريد أن يعوضهم بأناس آخرين يفهمون الدين الإسلامي فهمًا صحيحًا حضارياًّ ، ورغم ذلك فإنه يجعلهم يغلبون في آخر الأمر ويعوضون الآلة بـــ " صوت بشري دافئ يدخل القلوب بلا استئذان " .

والقصة علاوة على هذه الأفكار الهامّة ذات أسلوب فني راقٍ ، فهو سردي فيه شيء من الحوار لكنه مُشوق جدًا ، وقد أضفى عليه التكرار أحيانًا رونقًا وزاده وقعًا فهو أسلوب يذكرنا تارة بأسلوب المسعدي في قوة ألفاظه وجزالتها ، وتارة أخرى بأسلوب القرآن في تركيب جمله ووصفه الدقيق : " فأراحت أبدان أراد لها ربها راحة وأمنت نفوس قدّر لها ربها أمنًا" ، "انطلق من زاوية المقهى كأنه الثعبان أو كأنه المارد الجبار ، " واندفع اتجاه الجامع يحمل نارًا في يده ونارًا في صدره " .

هذه محاولة لتقييم هذه القصة ، وقد يفهمها البعض بطريقة أخرى فيرى فيها ! أبعادًا جديدة ، وهذا أمر طبيعي جدًّا فالقصة رمزية وهي قابلة لتفاسير عدة وذلك لعمري سر من أسرار نجاحها

اشترك في نشرتنا البريدية