الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "المنهل"

هذا الادب . . . ؟

Share

لم يكن الأدب عندنا قبل عشرين عاما كما هو اليوم . . ظاهرة تدور حولها الأقاويل ، ويتأملها أناس بشغف واعجاب ، ويتعشقها طلاب مجدون لو سألت بعضهم عن المثل الأعلى عنده لما تردد وقال : انه الأدب !

كأن الأدب اذ ذاك شيئا مدسوسا فى بطون الكتب ، وله رجال منسيون لو قلت : انهم أشباح ، لما أخطأ التعبير واقعهم ، فقد كانت الحياة لا تعرفهم الا فى قراطيس باهتة الألوان !

ثم صحت البلاد صحوتها الذهنية المعروفة . . وما أشك - ولعل غيرى يشك - فى أن الادب ليس له أي أثر فى هذه الصحوة ، ولكنه كان أثرا من آثارها الكثيرة أو القليلة . أما هى فقد جاءت طبيعية ، لأن واقع الحياة فى البلاد العربية الأخرى كان بمثابة طبول تقرع على مسمع النائمين فى الصحراء . . فطبيعى أن يصحوا ، وأن يفركوا أعينهم على النور ، فلقد كانت الحياة فى مصر مثلا أو سواها تيارا قويا لا يسع بلدا كالحجاز غير أن يتأثر به ، وأن يتطلع اليه والى مسايرة الحياة فى عهدها الجديد

ولا شك فى أن أدباء معدودين كانوا عند ذاك شعراء وكتابا . . وما يزال بعضهم حتى الآن يتمتع بكامل مواهبه الأدبية التى أتيحت له على مر الأيام . . غير أن هؤلاء الأدباء لا يستطيعون أن ينسبوا لأنفسهم مجد ايقاظ البلاد ، فلعل مجدا كهذا ستتنازعه عوامل كثيرة فى طليعتها عامل الحكومة الجديدة ومهما تكن هذه العوامل فانها لا تخرج - ولن تخرج - عن الحالة الطبيعية التى ترتبت على ضجيج الحياة واضطرابها فى الأقطار المجاورة . وكثيرون غيرى يعرفون أن عدوى النهوض الاجتماعى عدوى سريعة تتوقف على انتقال الشرارة الأولى ، فما أسرع ما تثور هذه الشرارة ، وما أشد ما يتطور نظام الحياة بعدها تطورا هادئا أو عنيفا . . . فان كانت الحياة فى بلادنا قد تطورت ، فليس للأدب أى أثر فى تطورها ، منذ كان انتعاشه مظهرا واحدا فى جملة مظاهر كثيرة لتطورها الجديد

واستمرت الحياة تجرى فى نهجها المرسوم ، واستمر الأدب يجرى الى جوارها أيضا . وقد كان رأيى - وما يزال - أنه عديم الأثر فيها ، وأن هذا الذى نظن أن الأدب أثر به فى الحياة الاجتماعية لدينا ، ليس أكثر من وهم قوى يرتفع أحيانا الى مرتبة العقيدة ، كما ترتفع أوهام أخرى فى ضباب بارد من عمل مغالطة النفس ، أو من عمل التفاؤل ، وهول الاعتراف بالواقع لدى بعض الأدباء . . . وليس يعيينى أن أغمض عينى حتى أقول : من ذا الذى ينكر على الأدب أنه أثر وفعل شيئا كثيرا فى دنيانا ؟ ؟ سأتخيل - اذا أغمضت عينى - لمحات مشرقة فى عالم الفكر ، والتعليم ، والاجتماع ، والتقدم العمرانى والادارى . . وسأتخيل الأدب من ورائها ، ولا أتخيل سواه . . وعند ذاك سأصفق لمجدنا الأدبى ، ولعمق اثره فى كل شئ  . . ولكن تجريدا بسيطا لواقع الحياة عندنا سيضع كل شيء فى موضعه الصحيح . سيقول هذا التجريد :

كان عندنا أدباء فى بداية تطورنا الأخير نفترض أنهم خمسة أو عشرة ، فأصبحوا اليوم - بعد عشرين عاما أو ما اليها - عشرين أو ثلاثين . . ولنفترضهم جميعا ممتازين أو عباقرة ، فليس من همنا الآن أن نضعهم فى الميزان ، فاذا كان هذا التطور الرقمي ظاهرة اجتماعية خطيرة ، فسأدع غيرى يقول ذلك ؛ لأن أبناء الحرفة الواحدة يتزايدون على مر الايام ، ولذلك فليس من الشذوذ فى شيء أن يتكاثر الادباء ، وعمل المدرسة فى تكاثرهم غير متكرر ، فلعلنا لوعد منا انتشار التعليم لبقي الرقم القديم متأرجحا بين الصعود والهبوط باستمرار . . ثم ماذا ؟

لقد وجد هؤلاء الأدباء ، وتقررت علامتهم الفارقة فى أذهان الناس مثلما تتقرر علامات أخرى يتميز بها الأحياء ، فيقال : أدباء ، ومدرسون ، وأطباء ومؤذنون ، وقضاة ، وما تشاء من نعوت وعلامات كثيرة . . . وظل هؤلاء الادباء معروفين ، و الادب معروفا أيضا . . فان قلت : ما الذى فعلوه ؟ أو ما الذى فعله الأدب ؟ كان الجواب أن معظمهم أطل على الناس فى صحيفة أو صحيفتين أو بضع صحف موجودة هنا ، فنشروا شيئا من شعرهم وشيئا من نثرهم ، وأن بعضهم تقدم بكتب ودواوين مطبوعة فيها ما كان يحسن ستره كما تستر العورة . . فهل تأثر الناس عندنا بذلك المنشور فى الصحف أو فى المؤلفات ؟ ؟ سيقول بعض

الأدباء : ان هذه مسألة لا تحتمل الشك ، وما أنكر عليهم أن يقولوا ذلك ، ولكننى أقول : أين هذا التأثر ؟ وكيف كانت قصته او ما هى مظاهره التى يجب أن نحسها ، أو نتخيلها على الأقل ؟ ؟ أفتظن الجواب يعييهم هنا ؟

إن ألفاظا وجملا معينة هى التى تقرر فى أذهاننا مدى التأثير الأدبى . . وما دامت الألفاظ موجودة ، وما دام أن من الممكن - ولا ريب - تكوين جمل منها ذات رنين خاص ، فلماذا لا يحشدون طائفة منها ، سيان أمسكت من ورائها سرابا أو حفنة تراب ؟ ؟

سيقول قائلهم : ان هذا الأدب قد أحدث (( رجة ذهنية )) فى الرأى الاجتماعى أو أن هذا (( التقدم العمرانى )) كان من عمل الأدب . . أو أن اللهجة التى نتكلم بها قد ارتقت كثيرا بفضل الأدب . . أو أن طلابه أصبحوا عديدين ، وكذلك قراؤه ، والمناقشون فيه ، والذين يتتبعون حركته بين المد والجزر . . وعبارات أخرى من هذا القبيل لا يسعنى أن أسوقها الآن ، أو أذكرها جميعا . . ولكننى سأقف منها عند كلمة (( الرجة الذهنية )) فانها جماع مدلولات كثيرة من هاته التى سقناها ومن سواها كما أرجح .

هذه (( الرجة الذهنية )) أين هى ؟ وكيف عرفناها أو عرفها المتفائلون ؟ ؟ أنا لا أرى غير استقرار ذهني رتيب . . . وما دامت الطبقة العامة هى المقصودة بهذا البحث فى تأثير الأدب ، فلنقل : أين هى دلائل (( الرجة الذهنية )) المفروضة فى هذه الطبقة ؟ إن أفرادها لا يتذوقون الأدب ، ولقد تكون لغة الصحف مفهومة عند بعضهم ، ولكن لغة الصحف لا ترقى عادة الى مستوى الأدب الرفيع . . . وسيدعون أن هضم لغة الصحف وحده من أثر الأدب . . . وأنا أنكر ذلك . فان هذا الهضم قد كان وليد التعليم ، والتعليم - من غير شك - قد انتقل فى خلال هذه العشرين عاما أو ما حواليها . . نقلة ليست بالهينة إذا جئت تقرنها بالتعليم فى ذلك العهد القديم . . أفكثير اذا أن يكون من بعض آثاره تخفيض عدد الأميين فى هذه البلاد ومع هذا فان مجموعة القراء هنا قلة واضحة اذا وضعت بينها وبين السكان نسبة رقمية صحيحة أو تقريبية . . فلا يدعى الأدب أنه علمهم القراءة ، بل المدرسة علمتهم اياها ، أو لعله مجرد التحصيل والتعليم بأساليب مختلفة

ليس بينها الأدب على كل حال . . على ان هذه المجموعة القارئة تنتهى بك الى رقم بسيط كل البساطة اذا جئت تنشد لديها القراءة النافعة . . فكيف ينتظر من أدب صحفى ركيك بعضه ، غير منطلق بعضه الآخر - أن يؤثر فى قراء عاديين هم أغلبهم من الصحف ، تتبع الإعلانات أو ما اليها من الأخبار بين أعمدتها ؟ ؟ وحافز آخر لا أنساه ، وهو هذا الذى يسوق الانسان احيانا الى مسايرة حركة بهلوانية أو رياضية بشغف وافتتان يقومان على المجهول أو على الشعور المؤكد بالمجهول

أما القليلون الذين يفهون ما يقرأون ، فلعل آخر دعوى مضحكة . . هى أن الادب عندنا أثر فيهم ؛ لأن هؤلاء قد كونتهم عشرة طويلة ، كعشرة الأدباء أو بعضهم ، لما أنتجه الآخرون . . . قدماء أو معاصرين . . أما الذى هو لدينا من الأدب فهو لا يؤثر فيهم شيئا ما دام أن فى الدنيا أدبا ناضجا مهيأ للاخذ والتلقى ، والانطباع والتكوين .

ومع هذا فسأتخيل . كما يقولون - أن طلاب الادب أصبحوا كثيرين ، وكذلك الذين يقرأونه ويناقشون فيه ، ويتعلقون منه ومن الادباء بطرف ضعيف أو غير ضعيف . . . أترى الأدب قد أوجد هؤلاء ؟ اننا لا نستطيع أن نزعم - وان زعم غيرنا - أن عندنا أدبا ! ! إن عندنا أدباء ، ما فى ذلك شك ولا ريب ، ولكن الأدب أثر وانتاج فأين هذان فى عالم الواقع ؟ ؟ أو تراهم سيزعمون أن ما تذيعه الصحف عندنا يسمى أدبا نقابل به الأدب الذى تقدمه المكتبة العربية فى كل يوم ؟

فما دام أن محصولنا الأدبي هو ما تنشره الصحافة هنا ، وما تجرأ فقدمه بعض الناجحين . . . والفاشلين أيضا - فان دعوى الادب ، و عوى تاثيره فى أولئك القراء والمتطلعين . . . دعوى متفائلة قد نقرها . . بعواطفنا ، ولكننا حريون أن ننكرها اذا اقتحمت ميدان التجريد والنظرة العقلية المحضة .

أما أولئك الذين يطلبون الادب ويتعشقونه . . . فمن كان منهم فى المدرسة فالادب فى برنامجها شئ مقرر لهم كما لا احتاج أن أقول ، وأضف الى ذلك خداع الشهرة ، وما يفعل فى نفس الطالب ، ليستن خطة مشرقة لشخصيته ، فيعمد الى الكتب يقرؤها ، والى ما تنشره هنا الصحف فيطالعه ، وينصرف الى ذلك

بحس تقليدى فى أول الأمر ، ثم يتطور فيصبح (( ذوقا )) واذا (( الذوق )) يخرج أديبا أو قارئا ممتازا . . ومن كان من هؤلاء الطلاب والمتعشقين فى السوق أو الوظيفة ، فاحساسه بالأدب ليس أكثر من احساس تقليدى مخدوع بظاهرة النشر ، وهو بعد هذا لم يجعله الأدب قارئا بعد أمية كما أسلفنا ، وجائز أن يصيبه النحاح إن كرس جهوده للدرس ومتابعة رجال الفكر فيما أنتجوه من آثار قديمة أو حديثة . . . فأين أثر أدبنا فى هؤلاء ؟

بقيت حكاية اللهجة العامة التى يقص بعضهم علينا انها قد تطورت بعامل الأدب والاحتكاك به . . . قراءة أو حديثا مع الأدباء . . . وسأقول لهؤلاء ليست لهجة جميع الأدباء عندنا مشرقة حتى تغري بالتقليد والمسايرة والتأثر ، بل عسى أن تكون لهجات عامية أخرى أقرب الى الافصاح من حديث بعض الأدباء فان كانت قصة تطور اللهجة لدينا قصة واقعة ، فان هذا التطور مدين لعوامل كثيرة من بينها (( المذياع )) وهذا الاحتكاك بالعالم العربي فى صحفه ومؤلفاته ، وهذا الاحتكاك ايضا مختلف الطبقات منه فى داخل البلاد أو خارجها ، فما أكثر المسافرين سنويا الى البلاد العربية التى اقتبسنا أو ما نزال نقتبس الحياة منها حتى الآن

إن هذه العوامل هى التى اختصرنا الاشارة اليها فى بداية البحث عند ذكر النهوض الاجتماعى فى العالم الخارجى ، ومدى تأثيره فينا . . . اننا لم نعد نعيش فى عزلة مقصورة علينا ، حتى نتخيل لهذا الأدب أثره فى اللهجة أو التتبع او الاقتداء . . . إن حركة تموج فى مصر ، تتصل فى مثل لمح البصر بكياننا العام . . . أفنقول بعد هذا : ان ادبنا هو المؤثر ، أو أن الحياة - فى مجموعتها - هى المؤثرة بعد أن اتصلت أسبابها ، ولم يعد الاحساس بها وقفا على المتعلم أو الاديب ، وبعد ان شاعت وسائل التأثير والمشاركة الفكرية ، وتبسطت المعلومات فى أساليب يستطيع ان يتلقف بها رجل الشارع اليوم فكرة القنبلة الذرية من آخر مثله ، او من نصف متعلم ؟ ؟ ؟

وما أكاد أنتهى قبل أن أوجز الاشارة لواقع (( التقدم العمرانى )) عندنا . . . إنه - ولاشك عندى فى ذلك - مدين لعدوى النهوض الاجتماعى ؛ ولتلك العوامل التى تدفقت بها علينا الحياة من وراء المحيط ، ولعل أثر الأدب فى ذلك أقل شأنا من أثر تقرير رسمى أعدته دائرة مختصة ذات فعالية فى مجال العمران وتكاليفه المادية المعروفة

فماذا فعل الأدب بعد كل هذا ! ان الادباء أنفسهم قد استفادوا منه خبرة وثقافة ، ومكانة طيبة . . . ولكن هذا لا يعنى أنه أثر لدينا فى المحيط العام ، الا اذا كان المقصود بالأثر ذلك الذى يلوح فى وقوف بعض المتفرجين عند ظاهرته النامية . . وقوف تسلية واضاعة وقت . . وقد يقولون أو يقول أحدهم : هذا خير ، وعمل طيب . . عساه ينمو ، ويتقدم ، ولا يموت . . على أى حال .

وبعد فلقد قلت ما عندى ، وليس يعدم الاستاذ أحمد عبد الغفور عطار أو غيره من الأدباء أن يجد ما يقول . . وسبيل الاخلاص للادب غير سبيل إلصاق شيء به يبرأ الى الواقع منه . . . فلعل اخلاص الانسان لأبيه لا يكفى ليخلع عليه تاج الملك ، وهو رجل من الناس !

فاذا قال الاستاذ العطاء أو سواه : ان الادب عندنا قد أثر ، ولم يكتف بارسال جملة كهذه ، أو بارسال مدلولات غامضة . . فقد أجد ما أقول عند ذاك ان لم تتوفر عندى قناعة الباحث بأثر الأدب . . . ولدي بعد هذا شك فى أثر الأدب كله يكاد ينزل من نفسى منزلة العقيدة المطمئنة لأن الأدب قد اسرف فى تقدير قيمته ، وتقدير أثره ومعناه . . منذ زينت له شهوة الكلام فى هذا العصر أن الحياة لولاه لغو باطل . . ولكن هذا بحث آخر له فرصة اخرى .

اشترك في نشرتنا البريدية