اشتدت الحاجة ب " هوميروس " فرثت حاله وأصبحت ثيابه اسمالا بالية وهزل جسده من الجوع وكثرة الترحال التى هدت جسمه . وصادف ان حل ببلاد فانشد على باب احد دكاكينها شعرا ، وقد كان يمقت ان يكون شعره تجاريا أو أداة للتسول ، ولكن الجوع الملعون ارضخه لما كان ينفر منه ويأباه .
اصغي صاحب الدكان - وهو تاجر - لهذا الكفيف الذي انشد فأحسن الانشاد وأبقت معانيه المؤثرة فى نفسه شوقا الى سماع المزيد مما دفعه الى استضافته الايام وقدمه الى بعض اصدقائه ومعارفه فأنشد لهم من قصائده مما اضطرهم الى ابقائه فى رحابهم اياما اخرى ، ثم ارتحل عنهم وحل ببلد آخر ، وأقام فى ضيافتهم اياما وأياما ، فأسعف بنجاح عظيم ما كان ليتصوره خياله ، نجاحا رفعه الى قمة المجد واعانه سخاء أهل المدينة على استقرار أمره .
أبت الآلهة الا ان تضع امام " هوميروس " العوائق لتمتحن صبره وجلده على تحمل نوائب الدهر وقد صمد امام الكثير منها ، وتمثل هذا العائق الجديد فى عريف اشتهر بفساد الاخلاق وبالسمعة المشبوه فيها وحاول ان يرتقى بشعر " هوميروس " الى ذروة المجد . استضاف " هوميروس " فى بيته واستبقاه مدة طويلة من الزمن ومقابل هذا ، اسماعه كل ما نظم من شعر ،
وقد قبل " هوميروس " هذا الشرط مضطرا لافتقاره إلى معين ينصفه من طمع الطامعين . وقد أراد العريف تبنى اشعار الشاعر الكفيف لكسب الشهرة المزيفة ولكن أمره اكتشف بعد مدة قصيرة من طرف أهل المدينة الذين عرفوا ان هذه الاشعار هى لضيف المدينة الكفيف .
حل " هوميروس " بجزيرة - يوس - فقوبل بحفاوة منقطعة النظير من أهل الجزيرة فأكرموا وفادته ورفعوا من شأنه بعدما تحققوا من ان هذا الشاعر الكفيف لم يكن يجوب ربوع بلاد اليونان طلبا للصدقة والاحسان ، بل هو شاعر وحكيم تزخر اشعاره بعظمة الالهة وحكمتها وبمدح الابطال اليونانيين وصراعهم مع الاعداء وانتساب بعضهم الى الآلهة . ان اشعاره تسحر السامع فتنسيه حاضره وترجع به الى الماضي وتصعد به الى " قمة الاولمب " ليحضر اجتماع الالهة وهى فى صراع مع بعضها البعض ثم وهي تقرر مصائر البشر
شقاوته وآلامه وانتصاره وانهزاماته ثم تسرع به بعيدا نازلة على أجنحة موسيقى القيثارة الذهبية الايولينية الى بلاد اليونان حيث تنعكس قرارات الآلهة على تصرفات البشر ، فتحترق قلوب من وهج الحب وتسعد فئة ، وتشقى فئة ، ويقدم بعضهم على ارتكاب حماقات تؤدى الى حرب يتحطم فيها الابطال وتتهاوى اسوار المدن ، وكل هذا وليد ارتجاج قلبين بالحب ، والكلمة الاولى والاخيرة للآلهة ، فهى وراء كل شئ وعلة كل حركة .
لما وجد " هوميروس " من أهل جزيرة - يوس - احضانا رحيمة ، رأي من الاصلح الاستقرار فى كنفها استجابة لرغبة سكانها ، لتنهل من حكمته وتستمتع بأناشيده السماوية الساحرة .
أصبحت أناشيد " هوميروس " فى جزيرة - يوس - ، يتغنى بها فى الاحتفالات والاعياد الدينية لعدم توفر الاناشيد التى تصلح لهذا الغرض في مدح الابطال وتعظيم الالهة . وأبت الآلهة الا ان تعفيه من سنى الظلام التى عاش فيها حتى يلتحق بعالم الاموات بعد ما بلته بمرض لازمه حينا من الزمن حتى اسكت حركته .
جزعت أهالى - يوس - بفقدها لشاعرها الكفيف ، ودفنوه في اجلال منقطع النظير ، ورفعوا من شأنه حتى ألهوه واصبحوا يقيمون له عيدا كل سنة فى ذكرى دفنه فتنشد فيها الاناشيد من نظمه أو من نظم شعراء آخر بن فى مدحه وفى تعظيمه وتأليهه ، ثم أتوا الى قبره وغرسوا نباتا على جوانبه وحفروا على القبر هذه الجملة :
( ان هذا النبات الاخضر غطاء للرأس المقدس ، رأس شاعرنا " هوميروس " شبيه الالهة ) .
ولم يقف أهل ازمير لهذا التأليه والاجلال بل اقدموا على سك النقود باسمه ورسمه ، وبنوا له هيكلا يخلد ذكره على طول الزمان ، وأطلقوا عليه اسم " الهوميروم " ومعناه " هيكل هوميروس " .
لقد اجمع النقاد على ما ذكرنا فى نشأة " هوميروس " ، وقد جلى هذا لغموض على النقاد أبو المؤرخين " هيرودوت " لكن عدة نقط بقيت تحيرنا فتبعث فينا التساؤل وتدفعنا إلى البحث والتنقيب رغم عجز من سبقونا فى هذه الدراسة من رواد النقد قديما وحديثا .
لقد نسب " هوميروس " الى الآلهة وعد من نسلها ، فقالوا : ان أباه هو النهر " ميليس " وهو إله وفي قول آخر يقال : من الجن . وانتساب الشاعر الى الآلهة ليس من الاشياء التى تبعث على الاستغراب . فاليونانيون كانوا ينسبون أبطالهم وأجمل نسائهم وشعرائهم العظام الى الآلهة ، لانهم يعتقدون ان الانسان لا حيلة له فى الامر وانه انسان مسير غير مخير ، فلا يقدر ولا يجرؤ فى ان يقرر . فالآلهة وحدها هى التى تهبه ما تريد أو تسلبه ما تريد .
فالابطال يمتلكون قوى عظيمة وجبارة وهي ميزة لا توجد عند كل الناس ، فالآلهة هي وحدها القوية والجبارة ونسلها هو صاحب هذه الميزة والامثلة كثيرة فى هذه الظاهرة " فهرقل " صاحب الحراب الالهية وكذلك البطل " اخيل " الذى شارك فى الحرب الطروادية الاغريقية وقتل البطل الطروادى " هكطور " وكذلك " أوديسيوس " صاحب خدعة الحصان و " منيلاوس " زوج " هيلانة " التى من أجلها وقعت الحرب بين الطرواد والاغريق وكثيرون غيرهم ، وهؤلاء جميعا هم من سلالة الآلهة .
الجمال لدى اليونانيين هو ملك للآلهة " افروديت " ، واذا ظهرت جميلة بينهم ، نسبوها الى الآلهة ، ف " هيلانة " سليلة الآلهة وكذلك اختها " كليمنسترا " قاتلة زوجها " آغا ممنون " .
اما الشعراء فلا اتذكر من إله سوى " هوميروس " لانه امتلك ناصية الشعر والحكمة وهاتان الميزتان هما من نصيب الالهة إلهة الحكمة ، فالآلهة وحدها القادرة على ما توصل اليه " هوميروس " ولا يمكن ان يكون شاعرنا من سلالة الانسان والا فكيف يصل الى ما وصل اليه من عظمة الآلهة
فقط ؟ ولقد رأينا فى الكلمات التى حفرها أهل جزيرة - يوس - اجلالا وعبادة وتقديسا للشاعر " هوميروس " ، وقد ظهر هذا فى لفظة - المقدس - والتي لا يمكن ان تطلق الا على الآلهة ومعابدها ومحاربها ولا يمكن ان تطلق على بشر من غير سلالة الآلهة ، ثم نرى بعد ذلك كلمتين تجلوان عنا الشك فى صحة تأليه "هوميروس " - شبيه الآلهة - فقد شبهوه بالآلهة ، وهل يعقل ان نشبه أى كائن بشرى الآن فى عصرنا هذا بالآلهة انه لا يمكن ان يحدث بأية حال من الاحوال ، فالتشبيهات بالالهة تعد من الكفر والهرطقة ولا يمكن ان تستسيغها القلوب المتدينة ، والعقول تنفث هذه التشبيهات حتى ولو كانت لا تؤمن بوجود الاله والقلوب غير المؤمنة تنقبض لسماعها . فأهالى جزيرة - يوس -
ألهوا " هوميروس" بتشبيههم هذا ، وهو في نظرهم من سلالة الآلهة فأشعاره تعجز عن نظمها البشرية وهى من وضع بشر لا كسائر البشر .
اما ارسطو فقد نسب " هوميروس " الى الآلهة فى قوله المذكور سالفا فى ان أمه عندما سبيت كانت حبلى من احد الالهة ، وهو يقول ايضا : بأن اشعار "هوميروس" نزلت من السماء قبل ان يولد قائلها وقد رأت الآلهة بأن يكون من نسلها بشر يعيش على الارض ، ينشد اشعارا لا يمكن ان تكون من نظم بشر عادى ، فالآلهة ملهمته وهى التى تهبه هذه الشاعرية غير العادية .
لقد رأينا " هوميروس " يشجعه صديق له على السفر والتجوال وقد كان ربانا ولكننا لا نعرف هل ان "هوميروس" قام بجل الرحلات البحرية فى صحبة صديقه الربان أو فارقه فى سفرة من السفرات وكل ما نعلم انه ربما فارقه عندما أصيب " هوميروس " بمرض الرمد وأودعه الى صديق له هو " منطور" وعند ذلك الفاصل التاريخي اصبح مصيره مرتبطا بصراعه وصلابته في تحمل عوائق الدهر ونوائبه .
نحن لا نعرف شيئا عن الأب الحقيقى ل " هوميروس " ، فلا يعقل ان يكون لنهر " ميليس " اباه اذا كانت أمه من سلالة البشر ، فنحن هنا نترك اعتقادات اليونانيين ونبحث عن الحقائق بالعقلية المعاصرة والاكثر احتمالا أن الاب توفي فى طفولة الشاعر لان الأم تزوجت مرة اخرى وهو لا يزال صبيا لا يفقه شيئا فكان ان وجد زوج أمه العريف الذي اكتشف ذكاءه ونبوغه فسخر من وقته وكل طاقاته لاستغلال هذه الميزات المنقطعة النظير في الصبى . اذن لم يشرفة الاب الحقيقى على تربية " هوميروس " فقد فقده الصبي وهو صغير .
بعد ان توفى زوج الأم والتحقت هى بدورها بعالم هادس بدأت رحلات الشاعر ، شعر ان القيود التى تعوقه عن السفر قد اضمحلت وتلاشت ، ولكن لا نعلم هل كان للشاعر اخوة أم لا ! والارجح ان امه لم تنجب سواه ولو كان عكس ذلك لتغيرت الامور كليا ، فالعريف لن يتزوج الأم اذا كانت لها عدة أطفال وهو لم يقدم على الزواج منها الا بعد ان سحر بنبوغ الصبى وليس حبا فيها ، وهذا مجرد افتراض ليس الا .
لقد ترك " هوميروس " وراءه عالما من الغموض يحف بوجوده وبنشأته ، وقد تمثلت فى الاماكن التى حل بها ، بأعماله التى لا تزال الى الآن منارا تضئ عصره وتخرجه من منطقة الظلام .
رغم كل ما كتب عن الشاعر الخالد وعن أعماله ، لا تزال آلاف الاسئلة ترقص فى الاذهان وهي مرسومة فى كل الصفحات التى كتبت عنه ، ولعل العصور المقبلة تكون منصفة أكثر للشاعر الكفيف أكثر مما فعلت العصور الفائتة.
