الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

وأذن في الناس بالحج

Share

" تفضل سعادة الدكتور عبد الوهاب بك عزام وزير مصر المفوض المملكة العربية السعودية ببعث هذا المقال الشائق لنشره في عدد المنهل الممتاز الذي صدر في الشهر الماضي وقد ورد متأخرًا بعد الفراغ من طبع ذلك العدد فرأينا أن نحلّي به جِيد هذا العدد "

" وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" . ما يزال هذا الأذان مُدويًّا في الآفاق ، تصيخ إليه الآذان ؛ وتستمع إليه القلوب ، فتستجيب له أقطار الأرض ، تبعث بأفواجها تفيض بهم السبل ، ويحملهم البر والبحر والهواء صوب الأرض المقدسة ، شطر القطب الذي إليه تتوجه قلوب المسلمين ؛ نحو مركز الدائرة الإسلامية الذي يدور حوله المسلمون وينتهون إليه.

" ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ؛ ربنا ليقيموا الصلاة ، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" ..

ما تزال هذه الدعوة مستجابة ؛ جوابها هذه الزُّمَر ترسلها فجاج الأرض من بقاع مختلفة ، وأصقاع متنائية ؛ تهفو إلى هذا الوادي الذى لا زرع فيه فيسيل بثمرات الأرض وتجارة الأقطار ، وصناعة الآفاق.

ما يزال هذا الأذان مُدويًّا يجلجل في جوانب الأرض فتصيخ إليه الآذان والأفئدة ، وتستجيب أفواج البشر ميممة أرض الحجاز . وما تزال هذه الدعوة مستجابة تهفو بها أفئدة المسلمين إلى هذه الجزيرة العظيمة : جزيرة العرب .

هذه البواخر تمخر فى الْيَمِّ من أرجاء الأرض ، مشتاقة إلى الحرمين ؛ لا تبعد عليها غاية ولا يثني من عزائمها هول .

وهذه الطائرات فى أجواز الفضاء كالطير مسخرات في جوال السماء ؛ تطير بالشوق والحب إلى مهوى الأفئدة ومطمح الأبصار .

وهذه السيارات تُخِدُّ البراري ، والصحاري ، تشق سهلها وحزنها وعامرها وغامرها ، وجُردها ووعثها، تذلل ما صعب ، وتقرّب ما بعد ، عليها وفود البيت الحرام يجوبون الفلوات ويحتملون المشقات ويستسهلون كل صعب إلى مقصدهم العظيم .

ثم هؤلاء المؤمنون الصابرون ، أولو القوة والعزم ، وأهل الجلد والصبر الذين لا يجدون ما يحملهم فتحملهم عزائمهم ويحملون أزوادهم وهمومهم آمِّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانًا . غير مبالين بالشُّقَّة البعيدة ، والفيافي القاحلة ، هازئين بالجوع والعطش، والحر والبرد ، والنصب والجهد ، فإن إيمانهم وآمالهم وعزائمهم أوسع من كل صحراء ، وأثبت من كل هول ، وأحرُّ من كل بيداء محرقة . تراهم في السبل يحملون أزوادهم وأولادهم راجلين بالليل والنهار لا يفكرون في شئ ولا يبالون بشيء الا المقصد العظيم والغاية الجليلة التي خرجوا إليها . إنه الإيمان الذي لا يتزعزع ، والعزم الذي لا ينثني ، والصبر الذي لا يُقهر.

إن البصر والخيال ليريان هذه القوافل تشق البر والبحر والهواء شهورًا متوالية لا تخلو ساعة من ليل أو نهار من قُصّاد الحجاز ، حجاج البيت ، وفود الأرض المقدسة يحملهم الشوق على طائرة أو باخرة أو سيارة أو على الأقدام وإنها لإحدى العبر .

يَؤُمّ هؤلاء الججيج على اختلاف أقطارهم وألوانهم ، الأرض التي نشأ فيها دينهم ، وعاش فيهم نبيهم ، وولد تاريخهم ، ويقصدون القبلة التى يتجهون إليها على نأي الدار وبُعْد المزار ؛ وتخفق لها قلوبهم وتهفو إليها افئدتهم .

يدخلون إلى هذه اليقاع وقد جمعهم توحيد الإسلام وربطت بينهم أخوته وأخلصوا دينهم لله، وتجرّدوا من أزياء الأوطان ، وشارات الأقوام سواء قريبهم وبعيدهم ، ومشرقيّهم ومغربيهم ؛ وأسودهم وأبيضهم ، وغنيهم وفقيرهم ، وقويهم وضعيفهم ؛ فإنما هو التوحيد الخالص والأخوة الجامعة ، والقلوب المؤتلفة والمقاصد المتفقة لا تشغلهم ديار ولا أهل ، ولا تفرقهم منازع ولا عصبيات (( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون))

هنا الإسلام الحق الذي وحد الله ، وسوّى بين خلقه وآخى بين عباده . إنك لا ترى هنا أجسامًا ولكن معاني يجمعها كلها توحيد الله وأخوة المؤمنين .

ولو ترى هذه الوفود طائفين بالكعبة ليل نهار ، مصلين حولها صباح مساء ولو تخيلت الجماعات الإسلامية من ورائهم متلاحقة متوالية وقلوبهم ووجوههم إلى هذا البيت لتمثّلت الأمة الإسلامية كلها جماعة واحدة قائمة تصلي شطر البيت الحرام ، وعرفت جلال هذا الدين ، وعظمة هذا الحج ، وحكمة هذه القبلة ، وتوحّد هذه الأمة ، وتبينت غفلة المسلم الذي لا يبصر هذه الجماعة ؛ ولا يدرك هذه الأخوة ولا يقدر هذه الشعيرة بل غفلة المسلمين جميعًا حين لا يبلغون بالحج مقصده ويسيرون به إلى غايته من التأليف بين المسلمين ، والجمع بينهم للائتمار بما ينفعهم ، والتشاور فيما يحزبهم ، والعمل لما يسعدهم فى دينهم ودنياهم .

وتمثلهم وقوفًا في عرفات حاسرين خاشعين ملبين داعين ، تكاد تتفق خفقات قلوبهم اتفاق كلماتهم ونياتهم ، تتمثل المسلمين كلهم في صعيد والإسلام جميعه في موقف ، قد اجتمعت أوطان المسلمين في هذه البقعة ؛ وحُشر تاريخهم في هذه الرقعة . أليست هذه الوقفة تجمع شعوب الإسلام جميعها ؟ أليس هذا الاجتماع حلقة في سلسلة من التاريخ أولها وقوف رسول الله مع أصحابه قبل سبع وخمسين وثلثمائة وألف سنة ، قد اتصلت فيها حلقات لا تنقطع وعرى لا تنفصم حتى يومنا هذا . هنا الإسلام حاضره وماضيه " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" إن هذا الحج لجدير أن يجرد المسلم من عصبياته وأهوائه ، ويصفى نفسه ، ويطهر قلبه ثم يربطه صافيًا طاهرًا بإخوانه ويؤلف بينه وبين أمثاله في جماعة المسلمين المؤتلفة وأخوة المؤمنين المحكمة ، ولكن هذه الجموع المحتشدة من آفاق البلاد لاييسر لها التعارف والتعاون إلا نظام محكم وخطة جامعة يتسنى بها التزاور والتعارف والاجتماع والتشاور في أمور المسلمين وأحوالهم .

فلابد أن يعمل المسلمون لهذا ، ولابد أن يتهيأ لخاصتهم الاجتماع بعد الحج لينظروا في أدواء المسلمين ويطبوا لها ، ويتعرفوا الصالح والفاسد من أمورهم فيتوسلوا إلى حفظ ما صلح وإصلاح ما فسد ، ويطّلعوا على المسلمين كل عام بالرأي

السديد والدواء الناجع فيما يحزبهم في هذا العالم المضطرب الذي تمتحن فيه العقائد والسنن الإسلامية بالآراء الفاتنة ، والمذاهب الضالة والفتنة الفاشية التي لا يثبت لها إلا من ثبته الله بعقل حكيم وخُلق قويم .

إن المسلمين اليوم في غمرة من الفتن المحيطة ، والمكايد المحدقة ، والأهواء المضللة فلينظروا لأنفسهم ؛ وليسارعوا إلى العمل لصون عقائد الإسلام وشرائعه وسننه وآدابه .

إن موسم الحج لأجدر المجامع أن ينتفع به المسلمون ، وأنجع الوسائل للتشاور فيما يهمهم ، والعمل لما ينجيهم . فليعملوا ثم ليعملوا والله يهيئ لهم الرشد ويهديهم سواء السبيل .

اشترك في نشرتنا البريدية