سؤال لا بد أن يعترضك أحببت أم كرهت فى بعض طريقك يوما ، ضيفا ثقيلا أو خصما لدودا :
" ما أنا ؟ ماذا أكون ؟ ... يخدعني عن نفسي هذا الكيان الشديد المتماسك وهذا الوجود المكتنز الخصب حتى أكاد أغص بذاتى ريا وامتلاء ، طربا وزهوا .
محدود ضئيل بشخصى لكن فسيح مترام لا أحد بذاتي وفكرى .
لكأنى أحتوى الكون وأشده إلى شدا أو كأنما أنغرز فيه إلى الصميم تاصلا ورسوخا إذ أفكر فيه فى هذه اللحظة بالذات ...
لقد فرضت عليه وجودى هكذا بدءا وكأني من حيث لا أشعر وبمحض فكرى ومطلق مشيئتى صنعت نفسى بنفسى خلقا واقتدارا ، حرية وإعجازا " .
يا لجموح الفكر المطلق وعربدته وجنونه !
لم تكن إلا لحظة من نشوة صلفا وعزة تجاوزت طورك فيها وبلغت الأقصى ثم قطع بك وهيض جناحك ووقعت إلى الأرض هويا ورددت إلى " صوابك " وقرارك وثقلك وكثافتك واعتنقتك الطبيعة الأم واحتواك الجسد .
فما أسرع ما تبدد الملك والنفوذ وباخت العزة والسطوة وتلاشى الوهم السراب فاذا أنت أنت ، خفى شأنك مغموز أصلك ضائع قلق مصيرك قد عدت وشبكا إلى نسبيتك وضآلتك وحدودك وقد أطبق عليك سجنك واستحلت ضبابا كما كنت شبحا بين أشباح .
فما هذا الذي يريدك قسرا ( حدسا الهيا أو همس شيطان ؟ ) على ان لا ترى جوهر حقيقتك ولب معدنك إلا فى شعلة الفكر الوهاج تجتلى كنهك فيه وحده اتحادا به وإقرارا ، وتنكر في قرارة نفسك ما سوى ذلك جحدا واعتسافا كأن ليس للجسد من خطر أو شأن ولا للطبيعة عليك من سلطان !؟
ولا يعصمك من هذه الفتنة البالغة - رشدا كانت أو غواية - أن تكون أرصن الناس عقلا وأعدل الناس علما بطبيعة منزلتك ونسبة الحيوان إليك وجذوره العميقة فيك .
كلا ! إنك تأبي إلا أن تطمح ببصرك إلى " الذروة " هياما وان تشتاق إلى نشوة الوجود عللا ونهلا .
ألست ترى لو أنصفت - أن سكرك بذاتك وتيهك بفكرك في لحظاتك الممتازة هذه إن هى فى حقيقتها إلا من فضل الحياة عليك وتأكد نبضها فيك عرامة وجيشانا .
وما الحياة ، كأنى بك قد غررت وعكست الآية فرأيت نفسك لها نبعا أو مستقرا وادعيتها ملكا لك واختصاصا !
هذه " اليقظات الكبر " أليست هى هبة من لدن قوة خارجة عنك سابقة لك تتجاوزك مشرفة عليك متصرفة فيك تدفعك إلى مآربها جبرا وإن تأبيت وتمردت ؟
ما قولك فى الغريزة ... فى هذه النزعات كالأسلك الخفية ركبت فيك تركيبا تحركك همزا ووخزا أو وحيا وهجسا فاذا أنت لا حول لك ولا قوة على صد إغرائها والامتناع عن أوامرها ونواهيها وإذا أنت مشكك في ذاتك وفى حرمتك وسلامة وحدتك ؛ وتتأزم بك الحال وتحضد ، فتزدوج وتتعدد . أمن الجن أنت أم من الانس أو بين ذاك أجل وأفدح أمرا ؟ لقد تضاءلت في طرفة العين وأضحيت كأنك الدمية من لولب ، صورة مسخا من ذاتك النبيلة الموهومة .
ويتساءل المرء فى جزع وحرقة ، وقد أزيح القناع عن وجهه الآخر وصورته الخفية :
" أتكون هذه الأشياء المقدسة من حب وجمال ومعرفة وبطولة ... هذه القيم المثلى التى نعتز بها ونتباهى حيلا ودسائس ، مجرد تعلات وذرائع تنصبها لنا الحياة " فخاخا " فى طريقها التى اختارتها لنا رغما ، محض مشوقات ومغريات كي نزداد بها تعلقا ووثوقا وننهمك في طاعتها وحبها جنونا فاذا نحن أقرب ما تكون من حتميتها المتمكنة وضرورتها الطاغية حينما نحسب أنفسنا طلقاء أحرارا ! ؟
وتظن ، غرورا ، انك قد بلغت الغاية وارتفعت وتساميت وامتزت عن غيرك وتفوقت وكنت جوهرا فردا ذاتا لا كالذوات وأدركت أفق إنسانيتك إذ تفانيت فى بر الوالدين وأوسعت الناس حبا وإحسانا وأبدعت من روائع الفن وفتقت من غرائب العلم ألوانا .
ما أنت - بتعاظمك هذا وتعاليك ، وعبقريتك و " إنسانيتك " المزعومة - إلا أداة مسخرة لحفظ النوع وسلامته ودوام النسل واستمراره . جزء من
جماعة غفل لا تعلم ولا تملك من أمرها شيئا . بعض من قطيع لا يحصى يراد على التلاقح والتزايد حتما هكذا الى غير غاية . سنة واحدة هى سنة الحياة ذلك الجلاد الجبار الذى لا ينى القطيع بسيطه ولا رفق ولا هوادة ولا راحة ولا قرار .
الامومة ... الابوة ... الايثار ... عواطف سامية بزعمنا لكنها فى جوهرها أقنعة لغرائز أصلية مبررها الوحيد نزعة البقاء وإرادة الخلود بحيث يكاد ينحصر الفرق بين المرء والبهيمة - على صعيد الشعور - فى " طول النفس " العاطفى ، أى فى مدى عمر الأحاسيس الناشئة عن الغرائز ، فى هذا " الاجترار " للذات حفاظا ووفاء أو المد فى حدودها وآفاقها حدسا وتشوفا لقوتها وإمكانها .
ولا يعدو أن يكون ما نسميه رحمة وبرا وشفقة وإحسانا إلا مواقف أنانية ( فى صميمها وأصل نشأتها ) ، وسائل عملية لدرء البؤس عن أنفسنا ( فى صميمها وأصل نشأتها ) وسائل عملية لدرء البؤس عن أنفسنا ( وبالتالى عن المجتمع ) وضرب من الضمان لمصيرنا إبان الضعف والشيخوخة وما قد يطرأ علينا من عوارض السوء ونوائب الزمن ، على ان كل ذلك يتم بعنوان الدفاع عن مصلحة الجماعة وحفظ وحدتها وتوثيق علائقها وأسسها .
وما تقديس السلف الذي كان ظاهرة شائعة مشتركة بين الأمم في الزمن القديم ، لو نظرنا إليه من هذه الزاوية إلا طريقة من طرق التعاون أوحت بها الغريزة وأحكم تدبيرها العقل لربط الحاضر بالماضى شدا لكيان المجتمع وضمان السلامة له والدوام بفضل تجربة الشيوخ وحكمتهم .
وقد يؤكد هذا ما نلاحظه من تناقض بين ظاهرة التقديس هذه وبين تقدم لحضارة وحلول الكتاب - وقد أصبح متوفرا ميسورا - محل اللسان حتى ليصح القول إن الطباعة آذنت بأفول دولة الشيخوخة وأودت بحرمتها وقضت على هيمنتها وسالف عزها .
ولك ، بعد ، إن شئت ، أن تتغنى بأنك الذات النيرة مركز الكون ودعامته . وأنك الواحد الفرد لا كفء لك ولا نظير وأنك أتيت المعجزات وأذللت المستحيل ، غير ان من خلفك ظلا لك يقفوك متعابثا ساخرا بك فى أوج صلفك وخيلائك ، وإن فيك لصوتا عنيدا يأبى إلا أن يزعزع كيانك ويهدم يقينك جحودا وكفرانا ، شكا وإلحادا .
