الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

وبعد ؟

Share

التمثال يرمقه بعين ساخرة غاضبة غامضة الاسرار . نظرات حادة تشع بسطوة غريبة . تقدم خطوات وقد كان يود لو يولى الادبار . خطاه ترتعش ركز بصره مرة أخرى على التمثال القابع فى ركنه باباء مضحك ولئيم . صفعته سحنته البغيضة ومعالم القبح التى تكسوها . أحس بنفور وفي نفس الوقت بشعور حاد مؤلم يجذبه عنوة . يدفعه الى المحل ، مثل ذلك الشعور الاليم الذى بجتاحه كلما مر أمامه طيف أمه ووجهها المورد الخدين ، تسطع فى أفقه عينان ذرقاوان صافيتان كمياه بحر بديع الموج والبسمة المستسلمة التى تلازم شفتيها سواء فى ساعات الفرح ، أو فى أشد لحظات التعب والنزاع العائل وفي خضم تلك البسمة الكسيرة المستسلمة ، وأمواج العينين الصافيتين يرتفع وجه داكن دميم تغزوه عينان حادتان تدلان على المكر والبطش ، وشفاه غليظه فيها شبق عنيف ، وعاصفة تحد على استعداد دائم للانطلاق ، هى صورة عشيقة أبيه

تلك التى عرفت كيف تختطفه منهم بخبث نادر فلم يلمح له خيالا الى الابد ، مذ كان عمره لا يتجاوز السادسة ، ومذ ماتت امه وهى غارقة فى يم يسمتها الكسيرة المستسلمة لتتركه لاحضان جدة عجوز دمرها الغضب والرغبة المستمرة فى الانتقام .

من يومها لم يبارحه ذاك الالم الخاطف الصاعق الذي ما فتئ يصعق قلبه من حين لآخر كتيار كهربائى قوى . يختلط بفكره القبح بالجمال الروعة بالدمامة نقاء العينين الصافيتين . بصفاقة الوجه الداكن ، الشبق الشيفاه عالم زاخر بالطلاسم والتساؤل والحيرة المفجعة . هل للدمامة جاذبية خاصة لا تلمحها النظرة المجردة . ؟ ربما لكنه الى الآن لم يجد جوابا يشفي غليله

غير انه هو الآخر مندفع بغرائزه المنصهرة نحو أشياء غريبة رهيبة تؤسره تغربه وتعذبه فى نفس الوقت

اقترب ثانية من المشهد المريع . شيخ زنجي كساحر افريقي من قبائل الفودو بطنه منتفخ يوشك على السقوط تحت قدميه . خداه متهدلان ، تتنازعان المساحة مع فم عريض كهوة سحيقة فى جبل منفرجة عن ضحكة متدهورة حاقدة كأن صاحبها بترنم بتعاويذ شريرة تأمل فى سحق ما حولها إله بوذي هو . . أم ؟

تجمدت حركاته أمام تلك الضحكة الحانقة الحاقدة . مرارة تنهال على صدره تنغمه بنيران هوجاء . ود أن يهرب . ينجو من سخرية الضحكة الحاقدة . لم يستطع . تسمر في مكانه رغما عنه بقوة عجيبة . ربما القبح الغريب المسيطر على وجه التمثال هو الذي يشده . ربما تلك السخرية المريرة التى تلتهم سحنته السوداء المعفرة . لا يعرف . بل كل ما يدريه انه مدفوع بقوى خفية نحوه . والالم يزداد عنفا فى قلبه . يبتره

ركل خيرته خلفه ليدخل الى المحل . أشار بأصبع متمردة الى التمثال سائلا بصوت خافت : بكم ؟

- ثلاثون دينارا قالها بابتسامة تجارية غير محتكرة . كتم شهقة وعيناه ترتشقان فى التمثال الرهيب . كل ماضيه يبعث الرعب والنفور مع رغبة وحشية غريبة يجهل مصدرها

- لكن الثمن جد باهظ ألا ترى ؟

ابتسم البائع وهو يحمل التمثال العجوز بين يديه ، ويربت على خده بحنان ساذج

- أبدا يا سيدي هو قبيح الشكل نعم . لكن له جاذبية لا يملكها أجمل تمثال . القدامى يتباركون به . صورته المرعبة تطرد الارواح الخبيثة ، وتمنعها من الدخول الى المكان الذي هو به . ثم لك سأتنازل عن دينارين من ثمنه . لا بد أن اراعي ابن البلد .

مرة أخرى يريد أن يهرب . يفر من ذاك الوجه الدميم المنفر . والبطن المنتفخ المتدلي الى اسفل القدمين . لكنه عاجز عن ذلك . يضع يده فى جيبه . يخرج منه الاوراق المطلوبة . آخر ما بقى له . يدسها فى يد البائع الجشع بلا مبالاة كئيبة . يأخذ التمثال العجوز وقد كفنه البائع فى لفائف من الورق الازرق يضعة تحت ابطه . يخرج مهرولا قاصدا البيت وقد نسي أن يشترى الحذاء الذى كان يبغى ابتياعه والقميص ورباط العنق . نفذت النقود وبقي جيبه خاليا

ابتسم حانقا . رباط عنق ماذا سيفعل به . يشنق به نفسه ، أم يخنق به تجار بلده الذين أشعلوا النار في الاسعار وتركوه لا يستطيع أن يتحكم فى النقود القليلة التى لا تستقر في محفظته حتى ترحل فى عجلة . قرر فى لحظة ثورة ان يترك رباط العنق الى اثرياء بلده ليختنقوا به ، مع البدل السوداء والقمصان الحريرية وحفلات الاستقبال اللامجدية التى تبدا بخطب تملق وتنتهي بتودد بشبه الاستجداء . حسبه فخرا أنه اشترى إلها . إله ماذا ؟ لا داعي للمعرفة . لقد كثرت الآلهة كما كثر المتزعمون والساسة ، والقوادون في هذا الزمن الفوضوى العجيب . الاحسن أن لا يعلم أى إله هذا وأية طائفة من الاديان يمثل . حتما هو يمثل ديانة الفزع واليأس والتلوث الفكرى الديانة الحقيقية لعصر التمزق والانحطاط

قذفه بنظرة متهكمة : أبعثرت آخر ما بقى لك من نقود فى هذا الصنم القبيح ؟ يا للأشياء المنفرة التى تحيط بها نفسك !

الاشياء المنفرة يا للرجل التافه ألم يكتشف بعد أن الحياة كلها اصبحت منفرة ! كل ما فيها تعس . دميم . كريه الى النفس ، ألم يتفطن بعد الى ذلك ، أم تراه يتحايل على مواجهة الحقيقة كالجميع ؟

أحاط التمثال بذراعيه كأنه يخفيه عن خطر سيداهمه ، أو هو يحتمي به من خطر مفاجئ يمكن ان يغتالهما معا .

ارتمي فوق الاريكة القديمة باعياء وملل . جال ببصره فى ما حوله . داهمته غريبة جاحدة دمرته . غريب هو فى دنيا لا يربطه بها أحد . ولا يشعر فيها بحب او عطف أحد مثل ذلك الاحساس الذي انتابه منذ أشهر وهو فى قاعه الدرس يحاول أن يرسم لوحة لغادة حسناء ، جالسة فى أيكة فاتنه الازهار ، فى يوم ربيع مشرق .

اكتشف بقنوط أن الالوان تستحيل رمادا بن أصابعه . وجوه مهولة تبزغ امامه تحاول أن تخنقه . وعيون جاحظة نفاذة توشك على القفز من محاجرها تسبقها قرون مشهرة الى الاسفل محاولة تمزيق جسم ما .

صرخ أحدهم : ما هذا أشيطان أم ؟

- هذا ليس بيوم ربيع مشرق ، انما يوم حالك الظلمة فى شتاء لم يخلق بعد كأن الطبيعة فى حداد .

لم يبق ليستمع الى همساتهم وضحكاتهم المتقطعة . انسحب فورا من القاعة لاعنا . شاتما . دخل الى غرفة المدير كزوبعة . أخذ ورقة . كتب عليها استقالته . القى بها فى وجه الكهل المندهش . هرع الى الخارج يجر خلفه تعاسة ممزوجة بتخاذل مرير لم تبرحه مذ ارتكنت اليه فى لحظة غربة مقيتة الذكرى

من يومها لم يعد الى ذاك المعهد اللعين . كل ما فيه يذكره بأشياء مؤلمة وتافهة لا يدرك حقا ما شأنها به أو مصدر مأتاها . لكن صورة الشيطان صاحب القرنين ما زالت تلاحقه صدفه وباستغراب اكتشف انها تشبه صورة أبيه بشنبه الكثيف وعينيه المخمورتين الكبيرتين . ومحياه الذى انسحقت شخصيته يخشى لو عاد ان يجده متمركزا فى القاعة وحينئذ ما عليه الا أن يقتله يحطمه . يحطم .

راح يومها يجوب الازقه المتسخة وقد تملكه مرح صباني ما عرف ثراه وهو صبى يافع . اخذ يسير الهوينا وقد خامرته فكرة . لم لا يعد الحفر . يحصى كم قطة تتسكع بين أكداس الزبالة ؛

عد عد إلى ان مل العد . الازقه . والحفر . والقطط . أعظم شئ مقدس فى هذا البلد . وأوفر ما فيه ، لا يمكن حصره . ولا عده . ولا وسقه أو تصديره . ضحك منه شيخ ثرى التجاعيد . حاول أن يواصل عده دون اكتراث له . لكن مع مواء قط رمادى يبول فوق حطام دجاجة ميتة ، أحس انه يجب ان يفعل شيئا . الزقاق شبه خال الا من بعض الاطفال الملطخي الوجوه بالغبار -

الحفر القط الرمادى الشامخ وأكراس القمامة . جذب الشيخ من شعره المشعث : نفحة بسخاء عدة صفعات على الوجه الممصوص كأنه لحم مقدد عشر صفعات بلا زيادة او نقصان . عدها كما عد الازقة والقطط . حشر رأسه وسط حفره متربه . واصل طريقه والجسم خلفه يرتعش بهلع صامت . الجمه الخوف لاجفته اججار تجرأ على القائها الاطفال فى محاولة انتقام ساذحة . لكنه واصل طريقة دون التفات . وشنب الشيخ بشعيراته البيضاء ينغرز فى صدره يعيده الى ذكرى يود أن ينساها ولم يقدر بعد على نسيانها

دخل مقهى أخذ كأس وسكى .شعر أن المرارة والتفاهة تغزوان الجو  الخمر .الرقص . والسينما والتجوال فى ملاهى المدينة الراكدة والجنون لا شئ يفرج ضيقه ويريحه من القلق المستكين فى صدره . كأس . وأخرى .

مرارة . ودوار . دوار وتعس متراكم لا يترك له متنفسا . ألقى بالكأس فوق المائدة وأسرع بالهروب

ذهب لتوه الى المقبرة . منذ سنين أصبح مكانه المفضل هو المقبرة . جلس فوق قبر نصف متهدم خمن أنه لانسان غريب مثله . أو لشخص نسيه أهله . كقبر امه الضائع بين قبور القرية النائية . القرية التى فر منها من سنين خلت ولم يعد اليها أبدا .

لأول مرة يشعر براحة كأن يدا رحيمة مسحت عليه ،وسكبت  بلسما شافيا على صدره . القبور البيضاء ترمقه بصمت ، مستسلمة لسباتها الابدى ، تجذبه اليها باغراء أصم . تبخرت حسرة من مهجته ترثى شبح سعادة مفقودة ما وجدت يوما .

تذكر النظرات الشزراء التى لوحت قبالته فى معرض رسمه الاخير . نظرات متنمرة حائرة بين التهكم والدهشة مع مسحة ترفع لم يحتمله رغم ما جاهد فى ذلك .

كانت اللوحة الاولى مملوءة بالتوابيت السوداء محلقة فى الفضاء ، والارض تحتها تحترق . حريق . حريق . فى كل شبر من الثرى الجاف

هرب الجميع منها لينكبوا على اخرى . كانت تمثل فيضانات مزمجرة . الارض تغزوها المياه وعشرات الجثث لطيور ميتة ملقاة فوقها فى انكسار ساحق .

هرعوا مصعوقين الى اخرى ، الصورة الثالثة كانت لطفلة عجفاء ، بارزة العظام غائمة العينين تنتظر حدثا ما . وبطنها مبقورة تنز دما يسقي سنابل القمح المنكسر تحت قدميها بذل مشاكس

تابع تنقلات الزائرين بعقل شارد وشعور الغربة يستوطن نفسه أكثر من ذى قبل أدرك انه ليس مثلهم . ولا يستطيع أن يصبح مثلهم وليس الذنب ذنبه ربما فضلوا أن يشاهدوا لوحة تمثل امرأة عارية فى تبجح وقح . أو صورة اعلان عن زجاجة عطر ، أو صالون فاخر بمئات الدينارات ، يشاهدونه على الشاشه فقط ، ولكن لن يقدروا يوما على شرائه ، أو امتلاكه اذ لم يصنع لهم ، انما صنع لاكابر القوم ، والمرتزقه الذين يعرفون كيف ومن أين تكسب الاموال الفاحشة

السذاجة . السطحية . يا للهول ! ود لو يرتمي على أحدهم . ينهال عليه ضربا حتى يعيد اليه وعيه ، أو يكسر رأسه . يدمره . هذا ما بات

يتوق اليه ولا يفتأ يحلم به ليلا . نهارا . الرؤوس العقيمة التفكير مصيرها التحطيم . هذا هو العدل . لكن أين هو العدل الفانى ؟

صكت اذنية همسة فتاة كئيبة المحيا وهي تقف أمام لوحة : يا للروعة عاد ذلك الدوار القديم يملك حواسه . تقدم منها . يمامة جريحة . مقطوعة الرأس ، قابعة فوق أنقاض جدار بيت متهدم . بندقية مصوبة نحوها ترقب لحظة الانطلاق والكل يرزح وسط غلالة دموع منهمرة من أعين خفية لا تنفك تهطل غيثا

رائعة . لم أر أكثر منها تعبيرا وحساسية

كاد يحتضنها أمام الجميع . يتحدى بها العيون المتهكمة ، المتسائلة . يضع رأسه المتعب فوق صدرها ويبكى ذكريات طفولة حزينة غابرة ولت مع الزمن المتقهقر لم تبق طافية على السطح كما فعل الآخرون ، بل غاصت معه في الاعماق . جذبها القاع فنزلت اليه بلا وجل . والتقت به هناك

التقينا بعد عناء وجهد طويلين . أفعم صدره بنور عينيها وقد كانتا زرقاوين صافيتين مع بسمة على الثغر كسيرة . كسيرة .

عاد ومشاعر زاخرة تتمخض داخله . اتفقا على اللقاء كي يقدم لها كهدية لوحة : اليمامة الجريمة

لكنهما لم يتقابلا الا فى المقبرة . وقد قررت فى ثورة حكمة أن تضع حدا للتعود ، واستمرارية الدنى السخيفة

أخيرا وجدت اليمامة الجريحة مستقرا . بقى هو لم يجد إلى الآن مستقرا والدرب مسدود . والصراع طويل . طويل مع الزمن . واللانهاية مخيفة ومهولة وهذه الحياة التى تدور بنا دون عسر أو اجهاد حاملة معها عثرات المتخاذلين . ووثبات المرتزقة . ونكسات المنكوبين حقا ليس من الصعب أن نسير مع الحياة دون رغبة أو ادراك ، انما من العسير أن نواكبها . ونعيشها بروح متحفزة ساعيه ونتبع زحفها دون كلل أو ارهاق . التعب والارهاق والطموح القاحل

" ألا تؤمن بالله ؟ "

قهقه صاحبنا وافكار عربيدة تزمجر برأسه . عجبا ! لم يجرب أن يؤمن بشئ . لم يحاول ذلك قط . أو هو يتذكر انه حاول مرة . كانت صدفة انه

آمن بأقوال ظن ساعتها انها ستفعل من أجله المستحيل . لكن بعد زمن وجيز تغيرت الامور . ألقى بالكل خلفه فجأة . كما حدث الامر صدفة . ومن يومها لم يحاول . لعل الله فى مكان ما بعيدا عن الارض والسماء . انزوى يائسا كى لا يرى هزائم العرب ونزاعاتهم

قصد أول حانة صادفته وبقى يحتسي الخمر ويدخن الى الصباح . أغرق تساؤله . وإيمانه . وجهله . وحكمته وفشله فى كؤوس انتزعت منه وعيه وبعض بعض من نفسه . وأعادت له نفسه وبعض . بعض من وعيه

عاد صوت صديقه يلح فى تشريح فكره المشوش

" أبعثرت آخر ما لديك من نقود ونسيت أننا لم ندفع بعد أجرة الشقة ولم يعد لدينا ما نكمل به الشهر يا للوجوه المخيفة التى تحيط بها نفسك حتى هذه اللوحات من سيشتريها ؟ هي لا تمثل الا الموت والفزع . تبعث الهول فى النفوس . أنت تنفر الناس منك . ربما أصبحت هذه هوايتك الوحيدة أن تثير القرف والذعر ."

عادت رغبة الضحك المكبوتة تنفجر رغما عنه يضحك ممن ؟ لم يجد بعد الجواب لذلك . من الاعين الحائرة المتسائلة . وهي ترمقه خفية . من الهمسات السخيفة التى تسبقه أينما حل من الاقاويل ، والحكايات الغريبة التى يلصقونها خلف ظهره لكنه يتحداهم بضحكة مستهترة . . متحدية لا تخلو من مرارة ونصيب وافر من الالم . " لقد فكرت طويلا واهتديت لحل مشكلتنا بل مشكلتك أنت على الخصوص . وجدت سبيل الخلاص من ازمتك النفسية هذه . . "

صرخ فزعا مستنكرا : " أزمة نفسية من قال لك : إنى أعانى ازمة نفسية أيها المخرف ؟ "

" ماذا أتجهل ما تعانيه ؟ ألا ترى أنك تتخبط فى مضيق ازمة حادة ؟ وهذا الصراع سيمزقك عاجلا أو آجلا أنت ضائع ولن تجد طريقك إلا عندما تجد لك فى الحياة مبدأ . لا تؤمن بنظم معينة . لا تنتمى لاى حزب . ولا تساند أية قضية ذاك سر تشتتك لم لا تنضم الى احدى المنظمات الفدائية . مثلا تكرس حياتك للقضاء على الصهيونية والذود عن حرية العرب ؟ لقد جاءتنى اليوم رسالة من صديقنا أحمد يخبرني انه انضم الى القوات الفدائية ولكم سعدت بهذا النبأ ! طريق واضح ومعقول أحسن من الفراغ الذى تتردى فيه ان كان على فقد تطوعت وعرفت أخيرا دربي . ما رأيك ؟

قضية صهيونية أأنت تهذى أم ماذا ؟ أم هذه آخر دعابة التقطتها . من أى ماخور استمعت اليها ؟ ألم تعلم بعد أن العالم انسحق . وانحلت شخصيته . وماتت كل القضايا ماتت كل القضايا الحرب الكفاح الحرية الانسان وتطاحن الاحزاب المختلفة الاغراض باعلانات السينما . يا للمهزلة السخيفة طريق واضح ومعقول وهل بقى ما هو واضح ومعقول فى هذا العالم المعقد ؟ الوضوح والمعقول لا يلتقيان . لو التقيا حتما يكون ذلك فوق ربوة اللامعقول الوجود كله ما هو سوى لغز بعيد عن المعقول طريق النهاية . الموت وحده الطريق الواضح والمعقول فى كل زمان ومكان . لم لا يقرون بهذا الامر وحسب النفوس المعذبة جدالا

لقد كثر الحديث عن الله هذه الايام واللهث خلف المواعظ والتدين الزائف كما كثر الحديث عن الحرب والنضال والغذاء والتضحية . والقضايا المرتقة الاحداث والكلام الذي أمسى تجارة مكسبة والوضاح الذي غدا غموضا واجتمع أيوب بنوح ودقت طبول الفرح في ديار سليمان ودار لقمان على حالها والقيد باق والطواشى صبيح . فلتصل بالقوم يا امام الاباطيل فالرعاع كثر ومسجد الترهات رحيب ، رحيب . واللعنة على المستيقظ ، انما النائم .

اشعل سجارة . وعاد يرنو الى التمثال الواقف بشموخ فوق المائدة بحب مباغت وقد ازداد وجهه قبحا ، وامتلأت نظراته بعتمة رهيبة . عاودته نوبة الضحك

" اذن أيها البطل ، أنت بجبنك وخوفك ستصبح مناضلا . كيف ستواجه الموت وأنت تخشى النظر اليه من خلال لوحة زيتية ؟ "

" لا يخيفنى الموت ان كان من أجل مبدأ . من أجل قضية أؤمن بها . لابد من تضحيه ان كانت الغاية نبيلة ومصيرية ألا تفهم ذلك ؟ عن ماذا تبحث ؟

" زجاجة الوسكى . لقد بقيت فيها قطرات . لا بأس ، سأتسلى بارتشافها بينما تتسلى انت بعرض مواهبك الفدائية الجديدة أمامى . لكن خذ هذه للذكرى . ليست الصهيونية عدونا الاول . بل هناك أعداء أخطر منها بكثير الرجعية الامبراطورية الرأسمالية وهات من المخلفات البائدة دون حصر ، الى ان تجتاز الطريق الشاق وتطهره تكون قوامك قد انكسرت دون ان تبدأ الزحف نحو العدو الاخير . حلقة مفرغة . حالكة ورهيبة تدور فيها . . لقد تشوهت كل القضايا فى هذا الزمن الدنس الذي أحرقته الفضايا

غير قضية واحدة تعيد العدل أم تخنقه . وعي كامل أم انتحار . امتع نهاية للتذبذب البشرى المريع انتحار أم وعي أيهما أريح اختر بينهما . !

" أنت انسان فوضوى ضائع خذلك اليأس وعبثت بك المعاناة . حقا أعقل قضية يمكن أن تهتم بها هي الانتحار . تأكدت الآن أنه لا ينقصك الايمان فحسب ، بل العقل كذلك "

القي بالزجاجة على الحائط . انكسرت وسال ما بها كجرح اليمامة النازف الجاثمة فوق الانقاض منتظرة حكم الاقدار بصبر فذ ، والبندقية ما زالت مصوبة نحوها لا تنطلق

" هل تؤمن بما تقول أيها المغفل ؟ ألا ترى أنك أنت الآخر تراود منفذا للخلاص . ؟ أنت ضائع مثلى وتافه تبحث عن طريقة مثلى تعطى بها لنفسك أهمية أنت برئ منها . تريد ارتداء كساء بطولة أنت أول من تشك فى وجودها النضال الايمان يا للدعاية المرة ! أنا الذى أؤمن به هو الفقر الخوف الالم . الظلم . الخداع . الاستغلال . الدناءة القذارة هؤلاء هم أعدائى أؤمن بوجودهم ، وأؤمن كذلك أن لاقضاء عليهم ما دام الناس عقدوا العزم على السير فى درب غيهم الى ما لا نهاية "

" كنت أحسبك رجل فن . فاذا أنت مجرد انهزامى حقير . انهزامى حقير حقير ... "

انتصب واقفا وهو يرتعد هلعا . تمزق بصره لحظة بينه وبين التمثال . رشقه هذا الاخير ببسمة ساخرة مدمرة . انقلبت الغرفة الى بحيرة دماء متلاطمة العباب والجدران الى قوارب خالية ترقب صيادا غائبا وعشرات التوابيت تحلق فى الفضاء المغيم ، وجثث العصافير الميتة تطفو راقصة على دبكة الموج الثائر

تمتد يده نحو التمثال . يتشبت به . تنغرز الكلمات مرة أخرى فى كبده نهزامى حقير . حقير . . يرفع يده يهوى بها على رأس الفتى الوقح المنتصب قبالته فى هلع . يسقط على الارض صريعا يتخبط فى اليم القاني اللون .

يلقى بالتمثال البرنزى على الارض . والبسمة الساخرة لا تفارق شفتية . يلتقفه الجدار ، يرتطم بالاجسام المحنطة لحيوانات كاسرة . ترمقه باستخفاف مذعور . كل ما حوالي محنط . ميت . متجمد . الفناء يحاصره ، الجميع ينصحونه ، يلحون عليه كى ينضم الى حرب ما الى جبهة ما . يحارب من اجل قضية الى أن يستشهد لم يعد يعرف أهو مجنون أم هم مجانين يتشدقون بأقوال لا يفهمونها . يتشبثون بالاوهام ، مستعد هو أن يراهن

بحياته ، وبالموت حرقا لو تحققت . الطريق الواضح والمعقول تركوه خلفهم واستطابوا السير فى كهف الضلال والسفينة تكاد تغرق بنوح وأيوب  نفذ صبره والسماء ما عادت تبيض المعجزات . وما بقيت تتمخض الا عن الروابع الملغمة . . لا فض فوك يا من قلت يوما : طظ فطظ ، وألف طظ يا زمن الهذيان ، والتخريف الاهوج .

ها هو الزمن لا ينفك يلقى بقاذورات فوق رأسه الموجع . والحصار يزداد تعنتا . وهو ضائع بين المصائب والجثث صعق فكره شبه تيار كهربائى ماذا ؟ تذكر غانية الامس الملتهبة البشرة . لقد تركها ملقاة فوق الفراش الوثير كقيثارة متحطمة ربما كانت نائمة أو فى غيبوبة من أثر اللذة التى نهبتها منه عنوة .

لم يقترف جرما ، انما ترك أصابعه تتلهى بعنقها الاسمر كقطعة لحم مشوى . وقد لفه فى الوشاح الاحمر الحريرى وأخذ يضغط ضاحكا ، بنشوة غريبة لم يشعر . بها من قبل ، بينما كانت قدماها تتسللان بجرأة لا مبالية الى ما بين فخذيه سقطت فوق الفراش باعياء والبسمة الضالة لا تفارق شفتيها الغليظتين . ارتدى ثيابه وأسرع بالخروج من البيت الانيق لا يلوى على شئ وإحساس يتضخم فى صدره يقول له : إنه لم يقترف ذنبا ، غير أنه أراد أن يسلب منها متعة كما نهبت هي منه غصبا لذة

كان قد تعرف عليها صدفة ، اصطدم بها وهو يزمع على الفرار من مقهي بعد أن عذبه القلق . ابتسمت وهي ترنو اليه بجسارة وقحة احتدمت لها دماؤه تراقصت السجارة المذهبة الطرف لحظة فى ظلال الشفاه السمر

" أأنت حالم أم متعب أم كلاهما يا ترى ؟ كدت تلقى بى على الرصيف " صفعها بنظرة منكرة وقد تمنى لو حقا ألقى بها علي الرصيف كحشرة . يدوسها بنعليه . يدوس الى أن

جذبته من ذراعه لتسير به نحو السيارة الحمراء المستلقية قرب الرصيف . تبعها بذل أخرس

ضمهما السرير . اضرمت سمرتها الافريقية الغامضة ، الجمرات المختفية تحت رماد السنين . لم يقل شيئا ، اذ لم يعرف ماذا عليه ان يقول . انما عب من النبيذ الفاخر ما استطاع . تركها تتكلم بلا انقطاع . ارتكزت نظراته على صورة شيخ برأس أصلع وشنب غزير مقوس كمنجل استعد لخوض معركة الحصاد .

عانقتة بدلال مصطنع ورغبة جائعة لم ترق له اباحيتها تستعر فى جسدها الثائر بين يديه

" ذاك زوجي . مات منذ ثلاث سنين بسكتة قلبية . ثرى كريم ، وغيور مشاكس سامني الويل . . له طفلة من الزوجة الاولى . أنا الزوجة الثانية . . كتم أنفاسها بقبلة حتى تصمت . تكف عن الهذيان وترحمه ، أخذ يعض ذلك النهم الى أن صرخت ألما . أخذت تجذب شعره بوحشيه ملحدة . لف الرشاح الاحمر الحريري وضغط مقهقها وضاع العالم فى حرارة الجسد الاسمر ومن لحظتها والافق حوله قد امتلأ بالشفاه الشبقه وهى تلاحقة . تراود شيئا مجهولا .

لكنه متأكد أنها لم تمت . كان يريد فقط أن يمنعها من الكلام . يمنعها عن طعنه . لا يتركها تحصد سنابل أيامه بمنجل الشنب الغزير حتما لو ذهب اليها الآن لوجدها فى انتظاره برغبتها المجنونة التى أذهلته . متأكد هو من ذلك أم أوه تواطأ الزمن مع البشر على القاء قاذوراتهم ومصائبهم فوق رأسه لكنه لن يتقبل ذلك صامتا فطظ للجميع . وطظ للاحداث التى أخذ يدور فى حلبتها دون أن يفهم حقيقة ما يجري ولا عرف الى أين هو سائر ؟

على كل . عرف أم جهل أمره دار لقمان ستظل على حالها ولا من طائل خلف الهذيان ، ولا خلف الظلال السمر لا . .

تقذف به قدماه الى الخارج يصطدم عل السلم بكتلة آدمية غير مرتقبه . يتلثم قائلا كأن مجهولا طلب منه أن يبرر سبب وجوده فى ذاك المكان : " كنت آتيا اليك . لى حديث هام معك بأمر "

تموت الاحرف فوق شفتيه وهو يرمق اليدين الملطختين بالدم ترتعشان أمامه بجرأة مشاكسة .

وتشمل سؤال فى فمه المغلق من هو هذا المتطفل ؟ أين رآه ؟ كأنه يعرفه ، وتذكر فجأة هو ذاك الصحفى المغرور الذى زاره أول يوم معرضه . نظرة خاطفة على الالواح ، ثم راح فى الغد يتلاعب بكلمات عرجاء لم تجد بعد مكانها فى دنيا النقد ولا في جو المعرفة والوعى تشاؤم وانهزامية بائسه هذا ما خرج به من زيارته الخاطفة . نظرية معدومة . حكم عاجز . وسطحية سقيمة تسحق الالهام . تمنى ساعتها أن يذهب اليه . يدق عنقه . يعيد الكلمات

الخاطئة المغشوشة الى حلقه . يخنقه بها لكنه عدل عن رأيه . وقرر أن يتحداه بالصمت . بل يتحدى الجميع بالصمت . لن يعطى لاحد أهمية هو مجرد منها . ليقل ذلك الاحمق ما يريد . وبعد لا شئ يهم فى زمن الترهات . . والافكار المنهوكة . . لا شئ يهم .

يدعى انه آت اليه فى أمر هام يا للعجب سطحية نظرية غباء وكذب غير مستتر متأكد هو أنه لم يكن آتيا اليه ، ولا حديث يجمعهما . حتما لقد جاء لزيارة تلك الراقصة العاهر التى أصبحت جارته منذ أشهر نصف عدد الرجال الذين يتسللون الى العمارة فى تستر ساذج وركيك هم زوارها . العهر هو الذي يجذبهم لا الفن الاوحال غدت تغرى بالسباحة أكثر من المياه الفيروزية . شذوذ تطور نزوح جذاب الى الوراء وعشوائية قد أرست قلاعها واحتلت كل المرافئ والمواجهة صعبة تتطلب شجاعة وصراحة امران اختل توازنهما مذ تجلت الحقيقة بوجوه عدة والنكوص سليم لكنه أحيانا سئ العواقب

رغبة صارمة فى التدمير تنتابه مرة أخرى . وميض فتاك يخرق غشاء أفكاره كبرق خاطف . ببطء محكم مثير تمتد يداه الى العنق النحيل التمرد على رباط العنق البنى اللون . يضغط . يضغط انتشى ثانية بنظرات الفزع المنطلقة من العينين المتسائلتين تخبط الجسد بين يديه الفولاذيتين . ركله فى بطنه حاول أن يغرس أصابعه فى عينيه لكن الضغط كان أشد حركاته تتراخى انفاسه تكتم . يختنق . يتدحرج على الثرى يشتم آخر خطاياه

يحذب الحسم الفاقد الحركة يخفيه عن الاعين خلف صفيحة القمامة فى زاوية السلم المظلمة . يمسح يديه فى سترته . يسارع بالقفز إلى الشارع يعب من الهواء الطلق بقدر ما تتحمل رئتاه .

الى المقبرة يعدو . يرتمي ككل مرة فوق القبر الابيض اليتيم . ويجهش بالبكاء أحس فجأة انه ضاع . فقد خطاه . هجر دنيا ما كان يجوز له أن يهجرها . ودخل دنيا ما فكر أبدا فى اللجوء اليها منذ سنوات وهو لا يفهم حقيقة ما يجول حوله . لا يعرف من نفسه سوى انه متعب . متعب . متعب . والكل حوله يزيد فى تعبه وعنائه . تعب وارهاق لا هدنة لهما

والآن خلفه ضحيتان يدفعانه الى الهاوية . لم كان كل ذلك ؟ لماذا ؟ ما فكر قط أن يفعل ما فعل ، لم يحرك يديه ليقتل ولكنه قتل . ويحطم . وما زالت شعله رغبته مشتعلة للسحق انهزامى حقير ها هو الآن أصبح قاتلا بالصدفة أم هو قاتل عن عمد ؟ برحه التساؤل دون جدوى :

لم يشعر بتلك الطمأنينة التى كانت تغمره قبلا حينما يهرع الى عالم الاموات لاجئا ، فى ظرف ساعات سلب منه كل شئ حتى نشوة الراحة البسيطة

القبور تتحول إلى آلاف البنادق مشهرة نحوه بحقد فاحش ، فر من المقبرة وصهيل الرصاص يصم أذنيه الرصاص والدم والفزع وآثار طفولة قلة نقضت بين اليتم والفقر ، وبقايا شباب مداس تحت أقدام الصراع والجحود . وجنون يستفحل مع التفاهات المتكررة وزمن سفاح لا ينقضى .

عاد الى البيت وقد تورمت رجلاه . وهده التعب . أمام العمارة زحام . وبعض عجائز يتهامسن بشأن قتيل وجد خلف صفيحة القمامة . يدفعهم بلا مبالاة يسرع بالصعود الى شقته والاحساس المؤلم يرفع راياته بقلبه

الجثة ما زالت ملقاة على الارض غارقة فى بركة الدماء المتجمدة . تلطم أنفه رائحة الموت . الاله الدميم الوجه ما زال يرمقه بسخرية مشاكسة . وحيوانات كأسرة محنطة تبتسم في تهكم شنيع وهو كأنه فى بيداء تلتهمه الانواء . الموت أمامه . والجنون خلفه وهمسات العجائز فى الشارع لا تترك له فرص التفكير .

يقفز الى المطبخ . يأخذ سكينا . يعود بها الى الغرفة التى أضحت مهدا للموت والوحوش المحنطة . ترتعش يداه لحظة . . ثم تتماسكان . تنغرز السكين فى بطنه فى ضربة مباغتة . ألم حاد ينقض عليه . يسقط فوق بركة الدم المتجمد . وقد كان يود أن يهرع الى الخارج . يقف على ناصية الشارع يصرخ عاليا حتى يسمعه جميع المتسكعين . يقول لهم : إنه ما كان يوم انهزاميا ولا حقيرا ففي صدره براكين ملتهبة من الفداء والتضحية . وعزم وحماس لا يطئ لظاهما ولا الموت لكن ما بالتمنى والحماس المتهور تحل القضايا ولا بدبلج القول تكسب الحروف . . لكن الصرخة مصيرها الاسر . تظل مسجونة بين الجثث . علامة استفهام حائرة بين عالمين لن تجد من يحل طلاسمها

يتصارع ثوانى مع الحياة التى تحاول رغما أن تتمسك به . تطوقه بأغلال اللانهاية . تزج به مع قطيع المعتاد وضحايا الاستمرارية . يحاول أن يبتسم تشنق البسمة فوق شفتيه . دوامة مفزعة يغوص فى دياجيرها . ظلام وفراغ ودموع حارة تنهمر من عنق اليمامة الجريحة تستقر التوابيت فوق قمة جبل ما في السماء الشبهاء وبعد لا شئ استقرار وراحة رحيمة . لذيذة لذيذة .

اشترك في نشرتنا البريدية