الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "الفكر"

وذكر الانسان بانسانيته، خواطر حول الموضوع الرئيسى للمؤتمر التاسع للادباء العرب

Share

الثقافة اذا نظرنا اليها بمنظار الفكر تتصل بأحوال البشر مباشرة وتنغرس فى حياتهم وتذوب فيها كليا . هذه حقيقة ثابتة لا يتطرق اليها شك ، لان تاريخ الانسانية يدعمها ويشهد على صحتها . وما احوج هذا العصر المضطرب الذى نحياه الى ثقافة واعية فاعلة لحل ازمة الخلق الفني التى تجتاح العالم باسره والتى مرجعها الى جانب تقاعس الفكر عن الخلق قصور الوسائل التعبيرية التقليدية عن التعبير عن مأساة العصر وكذلك وبالخصوص استسلام الفنانين والادباء والمفكرين للامر المقضى أو سكوتهم على الضيم أو جبنهم أو انسلاخهم ، فهل من سبيل الى التحدث عن الادب شعرا ونثرا وعن البرامج التربوية والمخططات الثقافية فى عصر تحرق فيه منابر العلم والعرفان من قبل اولئك الذين يتلقنون فيها وعن طريقها أصول القيم السامية ومبادئ الصلاح والاصلاح ؟ وهل من سبيل الى تحديد أبعاد الخلق الفني في تنوير عقلية الانسان العربى وتحويلها الى ما فيه خير الامة العربية ونحن مازلنا نتخبط فى الجهالة الى العنق نعتبر الثقافة من الكماليات ونضع فى صدارة شواغلنا وأولوياتنا الذود عن كياننا نفسه فى عالم لم يزل فيه للقوى على الضعيف ألف سلطان ؟ . . ثم هل من سبيل الى تحديد موقف ادبنا العربى من التكنولوجيا ونحن نستورد من الدول المتقدمة أبسط الآلات واتفه البضائع المصنوعة الى جانب ما نستورد من ضرورات العيش نفسه من دواء وغذاء وملبس وغطاء ؟ وبينما نحن نعيش فى دوامات الجهل والفقر والالم نبحث عن انفسنا فى مجاهل ارض الله ومتاهات التيارات الفكرية والادبية والفنية المستوردة هى نفسها من الدول المتقدمة يقفز العلم الحديث قفزات عملاقية في الفضاء يبحث للانسان المتقدم عن مستقر جديد وقد ضاقت به ارض المتخلفين ومن عليها وسواء استطاعت التكنولوجيا الحديثة ان تحقق سعادة البشر أو دفعت بهم الى الهلاك والدمار فنحن تابعون مستوردون مشاهدون سلبيون لن نلحق بالركب ولن نقتني من مكاسبه الا فتات الفتات .

لكن اذا كانت للغرب حضارة تنبني على اختيارات وتعززها مخططات ولها مظاهر ايجابية وسلبية فهل لا يجدر بنا - نحن العرب - ان نقلع عن الاحلام الواهية والاخيلة والترهات وعن تلفيق الاسباب وتعليل الفشل وعن الاهات تلو الآهات وعن الاحتجاج والصخب والمناوشات التى لا طائل من ورائها لنبنى صرح حضارة نتميز بها ونضع مشاكلنا الجوهرية والهامشية فى مستوى الوجود او اللاوجود فننظر الى الانسان العربى بفكره وأدبه وثقافته نظرة انسانية فى عصر تعالت فيه صرخات الضمير الانسانى محتجة على الفاشية والنازية والثيوقراطية التى تقوم على قاعدة التفاضل بين الاجناس وتستعمل الظلم والابادة وسيلة لبلوغ الغاية .

يسيطر على عالم الادب عندنا والشعب المتفرعة عنه فى ايامنا بعض " عباقرة الفكر " و " اصحاب المدارس " الذين يملأون الصحف والجرائد بوافر الانتاج وغريب الالفاظ وغامض المعانى ، يستوردون الانماط الادبية ويغربون فى ضبابية كلامية تجعلهم في طليعة الشاذين عملا بالقول المأثور " خالف تعرف ومنهم من دفعه الغرور الى سن القوانين وتشريع الدساتير فبات يفرض على الادب اطرا ما أغناه عنها وما اخطرها عليه . كل ذلك باسم " ازمة الحضارة وباسم " التطور والتحول والتجديد " .

وقديما قال الجاحظ : " ما ينتظر العالم لاظهار ما عنده ؟ وما يمنع الناظر للحق من القيام بما يلزمه ؟ وقد امكن القول وصلح الدهر وخوى نجم التقية وهبت ريح العلماء وكسد العى والجهل وقامت سوق البيان والعلم " .

فهل قامت سوق البيان والعلم ) لا بالمعنى الذى قصد اليه الجاحظ - ونعرف انه متصل بالكلام وامور الدين ( والتكنولوجيا التى بدلت وجه العالم وقلبت مفاهيم البشر وزعزعت اركان الاديان والمعتقدات والتقاليد والعادات . .

هل قامت سوق البيان والعلم عندنا ، ونحن نشهد فى بعض مؤلفاتنا الأدبية منها والفنية والتقنية رجعا لاصوات الادب ، والفكر والعلم ولشتى التيارات التى اينعت وقطعت ثمارها فى بيئات اجنبية عنا فلم تبلغها الا ذابلة ذاوية مفضوضة ٢٠٠ ما مكانة التجربة الذاتية فى مؤلفاتنا الفكرية والعلمية وهي تزخر بافكار FUD فرايد ( 3939-1956 ( وتعتمد وجودية سارتر أSdrre وخلق " الانسان - الانا " ومادية M A R Xصاحب رأس المال ونظريات Einstelin وPuiff و Moscolo و Norman Moiler واين الانسان العربي في حلبة التسابق الفكرى والعلمي في عصرنا الحديث ؟

نحن فى عصر الآلة طبعا . . عصر السرعة والاقمار الصناعية والاسفار العمودية ونعلم ان العصر هذا لا يقيم كبير وزن للروحانيات التى اصبحت تعتبر ضربا من الرجعية الفكرية لا شك ان رجال الدين بتحجرهم وعدم اقدامهم على مسايرة ركب الحضارة قد ساعدوا على التنفير منها والنهوض في وجهها . لكن هل يقتصر الادب على عكس هذا الجانب المادى من حياة البشر فيغفل عن رسالته الاساسية التى تتمثل فى سعى الانسان الدائب الى تحقيق السعادة وزرع بذور الخير فى الافئدة وتعويد النشء الطيب على الحب والجمال والامل ؟

واذا كانت حضارة هذا القرن تعتمد الآلة فى نشر العلم والثقافة والمعرفة باصنافها فهل يجدر ان تستعمل الوسائل السمعية والبصرية لخدمة اغراض لا تتصل بواقع الانسان العربى بل كثيرا ما تكون عالة عليه تكيد له ألف كيد من حيث لا يشعر . ونعلم ان من الافلام والبرامج الصوتية والمرئية ما يناهض القيم التى انبنت عليها حضارة الانسان العربى طيلة احقاب واحقاب . ففيها تهجم سافر على الحياة الزوجية والرابطة العائلية والجذوة الوطنية وفيها تمجيد للبطل الامريكى والصهيونى والفرنسى والروسى وفيها الدس وفيها الغش وما الى ذلك من انواع الترغيب والترهيب التى يقف امامها الانسان العربى المعاصر حائرا يتساءل فما موقف الاديب العربى وهو ضمير شعبه والشاهد على عصره بينما هو لا يملك هذه الوسائل التثقيفية ولا يمسك بزمامها ؟

فاذا كان من الرجعية ان يتمسك الانسان بذاته ويدافع عن كيانه المهدد ويذود عن تراثه بحفظه ومراجعته واحيائه . . إذا كان من الرجعية ان يكون الاديب ذاكرة شعبه " فحبذا الرجعية وانى لمن الرجعيين

وليس فى عزمي ان ألم فى هذه العجالة باطراف موضوع لم يكن لى فى اختياره ضلع ولا رأى ولو كان لى ذلك لحددته وضيقت منافذه وابعاده للنجاعة والفعالية . لكني ساقتصر على جانب منه اعتبره منطلقا أساسيا يتمثل فى نظري فى التعريف بالاديب المفكر من جهة وبالعلم والتكنولوجيا ولن أكون شاملا ولا مقنعا . . فلست دعيا . وانما أهدف من وراء هذه المشاركة المتواضعة الى اثارة مواضيع قد تتخذ بالنقاش ويدور حولها حوار مفيد اذ لا نرانا نقول فى مؤتمراتنا الا كلاما مكرورا ولا نخرج منها ا باللوائح والتوصيات ولا نشفع ذلك بالفعل ابدا .

الاديب المفكر الحق هو من يكرس حياته فى خدمة الحقيقة والجمال وهو من يفنى العمر ساعيا يبحث .

وهو من يعلم مسبقا انه - نظريا - عدو العامة خارج عنها شاذ . . لكنه يوطن العزم على ان يقيم بينه وبينها حوارا لا يقطعه الا الموت وكثيرا ما يعترف له بالفضل بعد كفاح مرير يعرضه للنقمة والتجاهل وتعسف الحكام . فهو فى نظر الدهماء مترف محظوظ وهو فى نظر الحكام مارق آثم لانه لا يقبل التاطير .

لكن من هذا المفكر المذنب أبدا ؟

الموظف السامى ومدير المصنع والمهندس والعالم الذرى والطبيب والمعلم هم بموجب اعمالهم الفكرية يختلفون عن الفلاح والعامل والتاجر وكثيرا ما يحشرون انفسهم او يحشرهم الناس فى صنف المفكرين وليسوا فى الحقيقة " رجال فكر " لان معارفهم تستعمل فى حينها اذ تطبق من قبلهم او من قبل اعوان ينفذون رغباتهم . وهم بهذه الصورة يحتلون فى المجتمع مكانه معلومة مسبقا ينتدبون لها ويوظفون عليها والوظيفة هذه تندرج في هيكل اقتصادى واجتماعى يفرض عليهم قوانينه ونواميسه وشرائعه . فهؤلاء هم " فنييو المعرفة العملية " اما الكاتب والباحث والفنان فهم من صنف الخلاقين الذين بسنون القيم ويذيعونها ويشيعونها بين الناس . فهؤلاء هم " المفكرون العضويون " ولن يكونوا مفكرين بحق الا اذا خرجوا عن وظيفتهم الطبيعية فنزلوا الى الشوارع وامتزجوا بالدهماء وشاركوا الناس افراحهم واتراحهم واعتبروا من قبل الحاكمين اصحاب شغب ومجرمين . مجرمين لانهم يتدخلون فيما يعنيهم مبدئيا ، مجرمين لانهم اتخذوا مواقف من قضايا لا تدخل مبدئيا في صلاحياتهم ومجرمين خاصة لانهم يستعملون المكانة التى اكسبتهم اياها اعمالهم الفكرية " ليوهموا " الناس ان لهم قولا ومذهبا وباعا وكلمة تسمع في غير الحقل الفكرى الذى هو اختصاصهم . . ومجرمين اخيرا وليس آخرا لانهم يتحملون مسؤولية لم ينطها بعهدتهم احد أو يفوضهم للدفاع عن قضيته منوب .

هم مدانون اذن لانهم خرجوا من جلودهم ، تلك الجلود التى البسوها منذ حداثة سنهم والتى اختيروا لها وكونوا فى اطرها ليتحملوا فى المجتمع مسؤوليات معينة مضبوطة مسبقا ذنبهم في نظر القانون هو عملهم ضد

مصالحهم الخاصة وضد " الصالح العام " . فهم قادة جماهير وهنا يكمن خطرهم على الأنظمة السياسية الرجعية

أمافنييو المعرفة العملية او التطبيقية " فهم مفكرون بصورة عرضية . لانهم منهمكون فى اعمال علمية تصرفهم عن الاعمال " الهامشية عملهم العلمي والتقدم الفني يتمثل فى رفض دائب لحلول مكتسبة حاصلة لا تعتبر فى نظرهم الا نقط انطلاق للبحث عن مكاسب اخرى تكون بدورها عند الحصول عليها نقط انطلاق لمكاسب جديدة . فهؤلاء يعملون لصالح المجموعة الانسانية الكبرى . لصالحها او لهلاكها . . ففي الامر نظر . . لكن المهم ان هؤلاء العلماء كونيون عالميون لا قوميون وطنيون . واغلبهم من مرددى الشعارات ومحترمى الانظمة القائمة فهم اعوان الحاكمين يدينون بدين الرسميين ويعملون لصالح الطبقة المسيرة . ولا يمكن للشعوب ان تعول عليهم فى سراء ولا ضراء هم دعاة السعادة للجميع والمستقبل المشرق للجميع . . يهدئون الاعصاب الثائرة ويقبلون الحلول المنقوصة ويقنعون بانصاف الاصلاحات لانهم يؤمنون ان التبديل لا يكون الا فى الاستمرار . . وفى استتباب الامن والنظام بطبيعة الحال . وكثيرا ما تجد من بينهم المنكمش والشاك والمنعزل عن السياسة فهم يؤثرون على كل هذه الشواغل أعمالهم العلمية أو الفنية أو حياتهم العائلية أو جنى الثمار أو رعاية الازهار لا مشاكل لهم ولا مشاغل تشغل بالهم . منسلبون سعداء بانسلابهم ، إلا اقلية منهم إذا وجدت نفسها أمام جدار أو إذا عزف عن نلبية رغباتها فهى تجد نفسها امام امرين : اما ان ترضى ضميرها المهنى واما ان ترضخ لاولى الامر وتخمد جذوة الضمير . فهذه الفئة من العلماء لا تخرج من جلدها الا اذا وجدت في مأزق وشعرت ان العراقيل التى يقيمها ذوو الجاه والسلطان فى وجهها من شأنها أن تعرقل التقدم الفكرى والتطور العلمي وهذه العراقيل كثيرا ما يمليها الكسب والتنافس والانتاجية وهى أسباب خارجة عن الفكر وعن ذات العالم واهدافه الاولى . عندها وعندها فقط يضع " فنى المعرفة العملية " ، هذا نفسه ومصالح ذوى الجاه فى ميزان ، ويبدأ تساؤله عن منزلته وعن " أناه الاجتماعى " ويعير اذنا صاغية لمن يدعون الى شكل من المجتمعات يكون العدل فيها اكثر ونسب القوى اقل تفاوتا واجحافا . وعندها . . عندها فقط ينضم الى مجموعة المفكرين العضويين الذين يتدخلون فيما لا يعنيهم ويشاغبون ويحاجون ويطالبون ويتمردون على الضيم والقهر والرجعية فى شتى مظاهرها .

فالفكر الحق اذن هو ذلك " الضمير الممزق " كما يقول سارتر : " لن يكون

ابدا داخل الاطار ولن يكون ابدا خارجه تماما " لانه طريد المحظوظين الذين يرمونه بالخيانة ولانه مشبوه فيه من قبل المنكوبين المقلين لان الثقافة التي اكتسبها تميزه عنه وتجعله محسودا منبوذا . فما العمل اذن ؟

من قائل ان المفكر الحق هو الذي يقلب وضعه رأسا على عقب فينسى انه رجل فكر أو يعدل عن الوظيفة التى يشغلها . . اى ذاك الذي ينتحر كمفكر ليولد من جديد كانسان فيتلقن من جديد لغة الشعب وطباعه وعاداته . . فعليه في هذه الحالة أن يبدل ما بنفسه وان يتلقى تربية شعبية اصيلة

ومن قائل كبينقوPingand ان توعية الجماهير لا تقوم الا على كواهل المفكرين وعن طريقهم وانه لا يتعين على المفكر ان ينتحر بل عليه ان يتحمل المسؤولية التى انيطت بعهدته بموجب تفكيره وثقافته

ومن قائل كمسكولو Mascolo ان الأافكار المسيطرة على العصر ليست أفكار الاقلية الحاكمة بل هي أفكار الاغلبية الفاعلة النيرة المثقفة . وان على المفكر ان يخضع الاقلية لمشيئة الاغلبية بمساعدة الهيكل المنخور المتداعى الى السقوط على ان ينهار فى اسرع وقت ممكن ليفسح المجال للعامل التاريخي الحقيقى الذى يتمثل فى مبدأ الحكم للشعب والسيادة للشعب " فلا فائدة اذن فى الامتزاج بالشعب أو فى قيادته لان الشعب يعتبر ذلك ضربا من العواطف الابوية التى لا يقبلها الراشدون برحابة صدر ولان المفكر الحق لا يمكنه بأية حال ان يقبل قيادة الامير له عن طيب خاطر . فالثورة فى نظره هي من مشمولات المثقفين والمفكرين بقدر ما هى من مشمولات العمال والشغالين أو أكثر والحل عنده ان يتحمل المفكر منزلته كمفكر تقدمى يكون كالسلك الحامل لتيار الوعى ولا مناص للمفكر من ذلك .

ومن البديهى ان الكاتب اذا كان أديبا مفكرا بحق سيكتب أكثر فأكثر رغم العراقيل التى تعرقل سرره ورغم التنكر له وهذا الوضع الحرج الذي يجعله بين بين ، منبوذا من العامة الجاهلة ومقهورا من قبل السلط الرجعية الحاكمة . من البديهى ان الكاتب سيكتب لايمانه بأن تحمل الرسالة أيسر عليه من غيره وهي رسالة تاريخية تجعله مسؤولا عن مصير مجتمعه مجندا لخدمة القضايا العادلة في وطنه ووراء حدود بلاده وفي نفس الوقت شوكة فى حلق الطغاة وصوتا صداحا يبشر وينذر ويترنم ويتوعد وهي مسؤولية لا يمكن فى نظرنا أن يتحملها مذهب ديني أو ملة أو نحلة أو نقابة أو حزب سياسي

ونعلم ان الشعوب بكتابها وشعرائها بقدر ما هي بعلمائها وفنييها . فما الولايات المتحدة بدون " هامنقواى " و " جويس " وما النمسا بدون " كافكا و " فرويد " . وما فرنسا بدون " ديكارت " وانجلترا بدون " شكسبير وروسيا بدون " تولستوى " ومصر بدون " شوقي " و " نجيب محفوظ

ولا يعنى هذا اننا نقدم الادب على العلم فهذان وجهان للفكر البشرى لا بد منهما لتركيز الحضارة وتطوير حياة الانسان

ونعلم ان العالم يتبدل يوما فيوما وبصورة جد سريعة فى ايامنا وانه يتعين على المفكرين ان يستنبطوا لكل عصر مضامينه واشكاله وطرق تفكيره واساليب تعبيره . كما نعلم ان الاديب بامكانه ان يساند الكفاح الشعبى ويدعو لمناهض قوى الشر ويؤرخ لامجاد أمته وأيامها الحاسمة لكننا لسنا ممن يعتبرون ان الكاتب غاية قصوى فى حد ذاته لانه فى نظرنا لا يعدو ان يكون مرآة عاكسة لحياة الناس لكن يكفى الادب فخرا انه كان ولا يزال وسيلة من أبدع وسائل التوعية التى تستسيغها الجماهير وتعكف على قراءة آثارها أو الاستماع اليها او مشاهدتها بفضل الكتاب والمذياع والصورة . .

لكن الادب كثيرا ما يحمل فى ذاته اسباب انحلاله اذا هو ابتعد عن الشعب وتغافل عن مشاغله وقضاياه . ومن الادباء عندنا من اغرتهم بعض الانماط الادبية المتوردة فاخذوا يحاذون ويختلسون ويركبون مطايا ركبها غيرهم فاذا هم يتيهون فى سباسب ومفازات لن يقدر لهم ان يرجعوا منها ظافرين . هؤلاء اضلهم بهرج الادب وتمكنوا من قشره فأضاعوا لبه فهم خاسرون وهم في صوامعهم ناهقون ناعبون ناعقون ، ومنهم من يدعى " الثورية " وهو يقتصر تهييج ثورات أدبية لا طائل من ورائها ولا فائدة ترجى منها بينما كان عليه ان يصنع " ادبا ثوريا " يلحقه بشعبه ويصهر أدبه فيه فهو منسلب مجتث منبت الى حين .

والفرق واضح عندى بين " الثورة الادبية " و " الادب الثورى " فهذه تتمثل فى معارك اشبه ما تكون " بنار الغبار " التى يحدثنا عنها يونسكو وذاك نار مستعرة ابدا لا تأتي على حشاشتها ريح ولا تخمدها سحب عابرة

والاديب العربى الحق فى نظرى هو ذاك الذي لا يدخل في اطار " الكلام من أجل الكلام " اذا الكلام فى حد ذاته لا يعنى شيئا لان الفكر اسمى من ذلك وابقى .

والاديب المفكر لا تشل له يد ولا يقطع له لسان فهو فصيح مبلغ لانه في موقف ابدا . . الموقف هو الاساسي . .

ولست ممن يفصلون فى الادب بين ما هو جميل وما هو حقيقي فتلك نظرة لم يبق من دعاتها فى ايامنا الا بعض الحائرين من أدباء البورجوازية المائلين الى اليسارية يستعملونها كرد فعل لنظرة الابتداعيين التى ماتت بموت القرن التاسع عشر ولم يبق من مناصريها فى بداية هذا القرن الا نفر من التائهين

فالجمال والحقيقة وجهان للادب العربى الثورى الذى يقنع ويحفز ويزرع الامل فى نفوس المؤمنين بالعدل والحرية والسلام وفرحة الحياة الحق لا فرحة الشعارات التى ترددها ابواق الدعاية والتخدير والمماطلة والتسويف . وهل يفصل بين الاديب واثره وبين القلب والجسد الذى يحمله ؟ تلك تعلات يجدر ان نعود النفس على خذلانها بفضح اربابها والتشنيع بمناصريها والدعاة لها

وكفانا ما نسمعه من بعض هؤلاء المتطفلين على الادب من ان آثارهم جلبت لهم سخط الحكام أو صفعة الشرطى فى مظاهرة . هؤلاء يتظاهرون بالمشارك فى المظاهرات ومنهم من يكسر نظاراته أو يخدش خديه ليقيم الحجة على " شعبيته " أو " ثورية المناسبات " التى يتقمصها لحاجة فى نفسه وأقبح بها من حاجة .

فالكاتب العربى الحق هو المفكر الذي يناصر المغلوب على أمره والمطعون فى شرفه وعرضه والمهدد فى كيانه لا فى مناسبات بل فى كل موطن وكل حين حلاجا اريد الكاتب . . دائما يصدع بالحق . اما " الكاتب - الفنن " ذاك المتفرع على الاصل فلا جذور له ولا دين ولا مذهب لا يرجى منه خير ولا يبتر من جسده ساعد أو ساق . . يموت موت الامنين المطمئنين فى فراشه محفوفا بأهله وربما بخدمه لن يسقط في ساحة الشرف أبدا لانه لا يميز ولا يرفض ولا يتمرد هو يضع الاصبع على العلل ولا يحاول ان يجد لها علاجا . . تراه فى " ستريكتير اليته " Structurolime " المطبقة كالطائر السجين فى قفص ويذهب به التفصيل والتجزئة والتقصيب والتركيب والتجميع والتحليل والتعميم حدا يجعله يبنى بين الناس الحواجز والسدود ويقطع أسباب الحوار فيفصلك عن أخيه وأمه وأبيك لتشعر بوحدة منخنقة دامسة وتخلد الى عزلتك المتعجرفة الشامخة فى صمت القبور والسراديب . . لكن هل يفضح هذا الحال . . . هل يكشف عن المؤامرة ويزيل اقنعة الزيف ؟ . . لا شئ من

هذا . . هو يبقى يعمه في ظلامه وكأنه يترشف آهاته فى فنجان فقد كان عميل القوى الغاشمة بجبنه ونذالته وهو خارج القبر . . وها هو فى قبر يختار الصمت وينعزل . . فهو لذلك شريك فى المؤامرة وموقفه موقف الارهابي المشترك فى دسيسة . . والدسيسة هنا تتمثل فى اعتقاده " ان التاريخ ليس له وجود حقيقي . . " فهل علم هذا ان التاريخ موجود فعلا وانه لا يرحم وان الشعب " الاديب " فى حاجة الى ساعده وفكره معا ؟

نعلم ان عهد سيطرة الحاكمين على المفكرين مضى وانقضى مع الحزب البلشي فى أوجه ومع ستالين فى قمة تعسفه وجبروته . فالعصر عصر نلاقح أفكار وتبادل اخبار وتعاون ثقافى ولقاءات ومؤتمرات ، وقد اصبحت الثقافة فى ايامنا ضرورة حتمية تتوقف عليها لا حياة الشعوب فحسب بل بقاء الحاكمين واستمرار الاحزاب اذ بدونها لا سبيل الى الخروج من التبعية والهوا والتخلف والمسغبة والبؤس ، اذ مشكلة المشاكل فى نهاية القرن العشرين وارغمها واعصاها هى البؤس بجميع مظاهره ووجوهه بؤس فى السياسة وبؤس فى الثقافة وبؤس فى العقائد والروحانيات وبؤس الخيال وبؤس الشهوات وبؤس البطن والعقل والفرج معا . وبؤس مصير الانسان اذا لم يننقذ انسانيته من براثن هذا السبع الضارى ولن يكون للانسان ذلك وللانسان العربى المبتلى المشرد اليائس بالخصوص الا اذا نزع عن المكائد الخسيسة والاطماع الخبيثة والحقد الباطن والاحن الظاهرة والتسابق على الوجاهه وكراسي السلطة وما يتبع ذلك من الحسد المكين والظلم والاسترقاق . لن يكتب للانسان العربى ان يبقى الا اذا جمع قواه مع قوى اخوانه المضطهدين فى الارض ليخلقوا معا من ضعفهم قوة جديدة ليست فى نظري حتما قوة اسلحة نووية أو أية ماحقات من هذا القبيل بل قوة ايمان راسخ ببعض القيم الروحية الخالدة السرمدية التى فقدها العالم التكنولوجي منذ احقاب فتزلزل كيانه ومادت به الارض فهو مفتش له اليوم عن قمر يأويه ومريخ يدغدغ احلامه ويسليه . وهل يعقل ان يفكر الانسان فى الصعود الى القمر وهو قاصر عن استرجاع ارض مغصوبة هى منه ولم ترد بعد اليه ؟ هل يعقل ان نعلق همتنا بالدخول فى سباق مع دول تسبقنا بقرون من التقدم التكنولوجي ؟ . لا يعقل هذا . . . لا يمكن ان يقبله عقل سليم . ولست والله مخذولا ولا قانطا وانما الواقع يدعوني الى الشك فى نجاعة هذه الطريق . . الواقع والمنطق . . فما الحيلة اذن ونحن مقلون ؟ قصة الفأر الذي انقذ الأسد من شباكه ما زالت فى ذهنى تجعلني أؤمن ان الحرب مغافلة وخداع وان أساسها الفطنة والتدبير والمثابرة والصمود . . وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة

بالحكمة . . والفيتنام شاهد على ما أقول . وما الفيتنام بدون ايمان شعبه بأن القوة ليست في التكنولوجيا وحدها ولا فى المركبات الفضائية ولا فى الكواكب الصناعية ولا في القاذفات الالكترونية فلا يجدر بنا ان نحمل انفسنا ما لا طاقة لها به او ان ننتظر التكنولوجيا لتخرجنا مما نحن فيه من مذلة وهوان . يجب ان نترصد العدو ونأخذه على غرة وكفانا تطاولا وكلاما وليكن قولنا فعالا ولنا فى تاريخ الفرق الثورية ما يثبت ان اركان الخلافة العباسية زعزعتها قله من المؤمنين بقلب الاوضاع وتبديل المصير وكانوا قبائل اشتاتا ونحن اليوم أمة تتوحد .

ولقائل أن يقول : " هذا ممن يستشهدون بالتاريخ " أقول انى اؤمن بالتاريخ ولست في ذاك هزؤة . لان الماضي في نظري سماد الحاضر ولا اعتقد ان فلاح المستقبل سيستغنى عن سماد طبيعي خاصة من هذا النوع

القضية اذن في توعية الجماهير وللاديب العربى الى جانب العالم المفكر ضلع فيها ودور عليه ان يلعبه بمراعاة مقتضيات العصر . وانى مع نزار قبانى حين يقول : " حين خرج الانسان العربى فى مطلع العشرينات من غرفة التخدير وبدأ يستعيد وعيه الوجودى والسياسى ويسترد تفكيره المحجوز عليه ادرك ان وضعه الجديد يحتاج الى كلام جديد وان الخروج من عصر الانحطاط لا يكون الا بالخروج من ثياب عصور الانحطاط وعقلية عصور الانحطاط وقبل كل شئ من لغة ومفردات عصور الانحطاط " ذلك لان الثورة فعل جديد وكلام جديد في آن واحد وعلى الادب العربي ان ينسجم مع اهداف الثورة او يستقيل

وأما بنعمة العلم والتكنولوجيا الحديثة فلنتحدث الآن

- ما ضرنى ان اترك المسافر على متن Concorde يقطع المسافة بين باريس ونيويورك في ثلاث ساعات بينما اقطع المسافة بين بيتي ومكتبى راجلا في اكثر من ساعة ؟

- من يدفع ثمن Concorde أوTupolev . . ثمن التقدم التكنولوجي ؟ الجواب يتبادر الى الذهن . . الثمن باهظ جدا لانه حياة الانسان المتقدم نفسها .

عدوان التكنولوجيا لا يقل خطرا عن الاسلحة الفتاكة واقل مظهر من مظاهر هذا العدوان الصخب ودخان المصانع . ويتوقع ان تفقد السماء الاوروبية زرقتها فى بحر الخمسة عشر عاما القادمة . فهل هذا ما نريد ؟ .

- فى مدرسة ابتدائية تقع قرب مطار Orly اصيب خمسة عشر تلميذا بالصمم من مجموعة اربعة وثلاثين تلميذا . السبب : تمر على المدرسة طائرة فى كل اربع وعشرين ثانية . حتى العصافير والدجاج في اقفاصها جن جنونها وفقدت ريشها وعميت ابصارها من صخب الطائرات . . فمن المسؤول عن هذه الكوارث ؟ : أرباب التقدم بأى ثمن

- يقول Norman Miler فى مقال له عن المخدرات : " يستيقظ النيويوركى فى الصباح ورأسه ملآن أفكارا حية نابضة فما ان يأتي الظهر حتى بقفر دماغه ويخوى وطابه . فهو عاجز أجرد "

- كل الاحلام فى عصر التكنولوجيا مباحة متاحة حتى الجنون والخطل

الا يحلم بعض العلماء اليوم بتلقيح مادة كيمياوية للخلية - البويضة لتضاف اليها " وهي جنين " معارف أساسية كالقدرة على المشي والكلام والساحة والعزف على البياناتو وقراءة الهيروقليف او ترجمة نص يوناني قديم . وبهذه الطريقة يمكن للمولود الجديد ان يحذق كل هذه الاشياء يوم مولده دون ان يحفظها فى كتاب أو يتلقنها عن مدرس . L' inelectronisme طريقة علمية ترمي الى ربط دماغ الانسان الى آلة ألكترونية تزرع فيه قدرات خارقة لم يكن يتصورها العقل ، منها ان يرسم صاحب هذا الدماغ على طريقة Czanne او وينظم الموسيقى على غرار احدMozart دون ان يتلقن اى قاعدة من قواعد الرسم أو الايقاع .

- بالامكان ايضا أن يتخيل المرء انسان المستقبل الذي ستصنعه مخابر التكنولوجيا الحديثة . سيكون دماغه قادرا على استيعاب معارف وتقنيات لا حصر لها فى بضع دقائق . بينما يتطلب استيعاب قليل منها اليوم حياة بأكملها . وبالإمكان ايضا ان يخزن العلماء في دماغ بشرى مجموعة من المعلومات كما لو سجلت على شريط ، ثم تستخرج هذه المعلومات عند الحاجة وفى طرفه عين . وبما ان الدماغ هو منبع الحواس فقد يصبح بالامكان ان يرى الانسان دون عين ويسمع دون اذن ويتكلم دون لسان فى مستقبل يقول العلماء انه قريب .

بالامكان ان تبلغ التكنولوجيا هذه المقاصد وبامكانها ان تتتجاوزها . فالعلم صانع المعجزات وقد صنع اكثر من معجزة " الدماغ - الآلة " يمكنه أن

يسجل الاخبار . . لكن ما قيمة الخبر اذا كان مزيفا ؟ وما قيمة آلة تسحيل اذا عطبت ؟ وماذا يكون مصير الانسان ذى " الدماغ - الآلة " اذا حشونا دماغه بالمعلومات الخاطئة او إذا تعطب جهاز " ذاكرته الالكترونية " عند الاستعمال ثم انه بالامكان فى هذه الصورة ان نزرع فى دماغ الانسان ذكريات زائفة ونمحى الذكريات الحقيقية التى طبعت فيه . فما قيمة " غسل الدماغ " ه - لو علمنا ان الانسان سيكون قادرا على كتابة مذكرات مزعومة لا تمت لحياته وماضيه وربما لقومه وبنى جلدته بأية صلة . وماذا يكون مصير البشرية لو حلقت على رؤوس البشر كواكب صناعية تنفث سمومها النقيعة لا في دماغ فرد بعينه بل فى أدمغة الملايين من سكان المعمورة ؛

وهل سيكون للحياة من معنى اذا وصلنا الى هذه الغايات وهل سيؤثر الانسان حالة اليقظة ما دامت الاحلام فى " اسواق الكواكب السيارة " تشترى فى مقابل مليمات من تيار كهربائى هو فى متناول كل يد . . فى كل حين ؟ اين الروح من كل هذا ؟ . . قد يقال لنا " واين النور عندما ينطفئ الضوء الكهرباتى " ؟ لكن الا تكون الروح الا ظاهرة كالضوء توجد أو تفنى بمجرد سريان التيار الكهربائى فى الاسلاك أو توقفه ؟ أتكون الروح والحياة وهوية الانسان كالتيار الكهربائى تتعطل عندما ينعدم الشعور ؟

لكن السؤال السؤال : هل تستطيع الآلة فى يوم من الايام ان تظفر باستقلالها وأن يكون لها تفكير حر منفصل عن الانسان الذي يصنعها اليوم ويعد برامجها ويشرف على كينونتها ؟ ذاك ما يخفيه المستقبل وهو حيرة من حيراتنا الجديدة .

اشترك في نشرتنا البريدية