الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "المنهل"

وصية إلى ولدى، وإلى الأبناء أجمعين

Share

( الحلقة الثانية )  

بني العزيز : ها أنا لا زلت في عداد الأحياء والحمد لله . . وما دمت قادرا على التفوه والنطق . . مالكا للعقل والرشد . . فتعال بنا ننتهز هذه الفرصة السانحة اليتيمة . . ونقتنص هذه السويعات الغالية الثمينة . . قبل دنو الأجل . . حيث يستغلق الكلام على المرء فيغدو ( أعيا من باقل ) وحيث يغيب الوعى ويحتبس اللسان !

تعال اذا يا يا بني ما دام في الآجل فسحة وفي العمر بقية . . لنكمل ما ابتدأناه بالامس من الوصية . .

كنت قد أوصيتك بالامس يا بني باجتناب الشرك بالله وحذرتك وخيم العاقبة وسوء المصير . . وحثثتك على الايمان بالله ، وحضضتك على العمل بأوامر الله واجتناب نواهيه . . وطالبتك بقراءة القرآن ما استطعت ، وبينت لك فضله وجزيل ثوابه

. . وأرشدتك الى التفاسير المعتمدة التى يجب عليك تدارسها لتدرك معاني القرآن وتتدبر آياته . . وأشرت عليك بقراءة بعض المراجع المتعلقة بعلوم القرآن . . ومن ثم أمرتك يا بني أن تتجه الى الاحاديث النبوية والسنة المطهرة . . لتنهل منها جهد طاقتك وغاية استطاعتك . . ودللتك على المراجع القيمة الحاوية لكنوز السنة وجواهر

الاحاديث . . كما أمليت عليك عناوين اخرى للكتب المشتملة على ( علوم الحديث ) . وبعد ذلك بينت لك فضل العلم والعلماء وفضيلة التفقه فى الدين . . وألححت عليك بالعمل بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لتكون من المفلحين . . كل ذلك فصلناه في الجزء الاول من الوصية وأسبغنا القول فيه .

أما الآن يا بني فاني موصيك بعد ذلك بالاتجاه الى الأدب العربي لتنهل من معينه الدافق الذي لا ينضب . . وتغرف من نبعه الفياض الذي لا يشح . . ولتتزود بعلومه النافعة وتفيد من حكمه الرائعة . . ما تغدو به ان شاء الله . . أديبا أريبا . . حكيما فاضلا . . راوية حصيفا . . اقرأ ان استطعت كل ما كتب الجاحظ وعلى الاخص ( البيان والتبيين ) وجميع ما سطر ابن قتيبة وخاصة ( عيون الإخبار ) و ( أدب الكاتب ) و ( الشعر والشعراء ) وللقالي اقرأ كتابه

الموسوم بـ (الأمالي) ولا تنس (الكامل) لأبي يزيد المبرد ، ولا تغفل (العقد الفريد) لابن عبد ربه و (نفح الطيب) للمقرى و(نهاية الارب) للنويري و(خزانة الأدب) للبغدادي و توسع في دراسة (السيرة النبوية) التي ستجدها مفصلة وشاملة في (سيرة ابن هشام) و (الطبقات الكبرى) لابن سعد و (الاصابة) لابن حجر و(الاستيعاب) لابن عبد البر ، وعليك بمعرفة أيام العرب في الجاهلية والاسلام .. واستوعب من الأمثال العربية ما استطعت استيعابه ، وتجد ذلك مبسوطا في (مجمع الامثال) للميداني ... حيث جمع فيه نحوا من ستة آلاف مثل عربي ! ومن المراجع الشعرية اقرأ كتاب (الاغاني) لأبي الفرج الأصبهاني و(جمهرة

اشعار العرب ) لأبي زيد القرشي و(المفضليات) للمفضل الضبي ، ودواوين مشاعر الشعراء كالمتنبي وامرىء القيس والمعرى وابى العتاهية وجرير والأخطل والقرزدق وابى تمام والبحترى وحسان بن ثابت شاعر الرسول ( ص )، ولا تنس يايتي حظك من التاريخ . . اقرا (البداية والنهاية ) لابن كثير و ( تاريخ الامم والملوك ) للطبرى و(الكامل) لابن الأثير . .

عرج بعد ذلك على أدب الرحلات . . فانك واجد في رحلة ابن بطوطة ورحلة ابن جبير ورحلة المسعودي في مصنفه (مروج الذهب) ما يشبع فضولك ، ويروى غريزة حب الاستطلاع لديك . . وذلك كله بعد أن تكون قد ضربت بسهم وافر في علوم النحو وعلوم البلاغة وعلم العروض . . ولكنك بعد كل ذلك لا بد واجد نفسك بحاجة الى موسوعات

ضافية تعتمد عليها وتستمد عنها ما لم تجد في غيرها . . لذلك فأنت في حاجة الى ( لسان العرب ) لابن منظور و (القاموس المحيط ) للفيروزآبادي و ( دائرة المعارف الاسلامية ) وهي لمجموعة من المستشرقين و(دائرة المعارف في القرن العشرين) لمحمد فريد وجدى و(دائرة معارف البستاني) و (الموسوعة العربية الميسرة ) .

فاذا وصلت يا بني في العلم والأدب الى هذه المنزلة ، وبلغت من الرسوخ في العلم هذه الدرجة السامقة الباسقة . . فغيرك فعلم . . ومجتمعك فأرشد ..لأنه لا ينبغى لمؤمن يا بني أن يكتم علما تعلمه . . عن المسلمين اذ يقول الرسول الكريم (ص) في ذلك : ( من كتم علما عنده ألجمه الله بلجام من نار)، ولكنى أحذرك أن تأمر بمعروف دون أن تفعله أو تنتهى عن منكر وأنت

تأتيه . . فينطبق عليك قوله تعالى : ( اتأمرون الناس بالبر وتنسون انفسكم ) الآية . كما يقول صلوات الله عليه وسلامه : ( تعلموا ما شئتم أن تعلموا فان يأجركم الله حتى تعلموا )، واعلم أنك لو قلت ولم تفعل أو أمرت ولم تبدأ لانطبق عليك قول من قال :

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى

كما يصح به وانت سقيم

وأراك تلقح بالرشاد عقولنا

أبدا وانت من الرشاد عديم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك اذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فاذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يسمع ما تقول ويشتفى

بالقول منك ويقبل التعليم

كما يصدق فيك عندئذ قول الآخر :

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما

اذ عبت منهم امورا أنت تأتيها

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدا

فالموبقات لعمرى أنت جانيها

تعيب دنيا وناسا راغبين بها

وانت اكثر منهم رغبة فيها

بقى يا بني السيرة والسلوك ومعاشرة الناس . . وأول ذلك حفظ اللسان عن السباب وبذاءة القول وعن تناول أعراض الناس بالأذى ، والابتعاد عن الغيبة والنميمة وافشاء الاسرار وتجنب . الكذب وقول الزور وكل ما يصدر عن اللسان من قول قبيح وافك صريح . . فكل ذلك يحاسب عليه المرء حسابا عسيرا ، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى : ( ما يلفظ من قول الا لديه رقيب

عتيد ) ولقد سئل الرسول الكريم (ص) أى المسلمين أفضل ؟ فقال : ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) كما قال (ص) ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا او ليصمت ) واسمع يا بنى ما يقوله الصحابي الجليل عقبة بن عامر حيث يقول : قلت يا رسول الله ما النجاة ؟ قال : ( أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك )

ويقول معاذ رضى الله عنه قلت يا رسول الله : وانا المؤاخذون بما نتكلم به ؟ ! فقال ( ص ) : (ثكلتك ؛ امك . . وهل يكب الناس في النار على وجوههم الا حصائد ألسنتهم ) ؟

ولقد قيل في ذلك :

الصمت زين والسكوت سلامة

فاذا نطقت فلا تكن مكثارا

ما ان ندمت على سكوتي مرة

لكن ندمت على الكلام مرارا

وقيل ايضا في هذا المعنى :

يموت الفتى من عثرة بلسانه

وليس يموت المرء من عثرة الرجل

فعثرته من فيه تذهب رأسه

وعثرته بالرجل تبرا على مهل

واللسان يا بني هو عدو الانسان اذا اطلق له العنان ولم يعقله في محبسه ولم يغلق عليه معتقله فتراهم يقولون في ذلك :

احفظ لسانك واستعذ من شره

ان اللسان هو العدو الكاسح

وزن الكلام اذا نطقت بمجلس

فاذا استوى فهناك حلمك راجح

فاذا تقوم عندك اللسان . . واستقام المقول . . واعتدل اللفظ ، وصنته عن البذاءة والدنايا ، ونزهته عن السفاسف والفحش ، وترفعت به عن السلاطة واللؤم . فلم تعد تنطق الا بخير . . فقد اجتزت من الامتحان نصفه بنجاح . وبقي عليك

النصف الاخر . . ألا وهو مجاراة الفعل الحسن للقول الحسن ، ليكتمل الحسن عندك بذلك في شفيه . . وتدور رحاك على الجميل من جانبيه . . وأول النصف الثاني يا بنى وقوامه . . وأساسه وعموده : كبح جماح النفس عن النزوات . . لتصفو من أكدار النزق وشوائبه . . وتخلو من أدران الطيش وبواثقه . . يقول الله جل وعلا في ذلك : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى ) وها هو ذا أبو ذؤيب الهذلى يحضك على كبح جماح النفس فيقول :

والنفس راغبة اذا رغبتها

واذا ترد إلى قليل تقنع

فإذا استطعت يا بني أن تكبح جماح نفسك ، وأن تمسك بعنان شهواتك ، وأن تربط زمام نزواتك ، وأن تنتصر على شطط رغباتك . . فأنك لا شك المؤمن الحازم والحصيف الرشيد . . وحينذاك فأنت مطالب بمعاملة الناس بخلق حسن ..

فالأخلاق أساس المعاملة . . وهى خير رداء يتجمل بها المؤمن . . ألا ترى كيف مدح الله نبيه بالخلق العظيم فقال : ( وانك لعلى خلق عظيم ) ثم اسمع ما يقوله الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه : ( انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ). ولقد كان العرب يتفاخرون بمكارم الاخلاق حتى لقد قال قائلهم :

أحب مكارم الاخلاق جهدي

وأكره أن أعيب وانا أعابا

وأصفح عن سباب الناس حلما

وشر الناس من يهوى السبابا

وقالوا ايضا :

هي الأخلاق تنبت كالنبات

إذا سقيت بماء المكرمات

تقوم اذا تعهدها المربي

على ساق الفضيلة مثمرات

واني لأعلم يا بني انك اثناء ذلك لا بد متخذ خليلا أو أكثر ، ومساير لصديق أو جملة أصدقاء . . فلا يأس فى ذلك ولكن وصيتي اليك أن تحسن اختيار الاصدقاء وانتقاء الاصحاب واصطفاء الخلان . . يقول الله فى سورة الزخرف : ( الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين ) الآية . . ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام : (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )، ولقد قال الشاعر هذا المعنى فقال :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدى

وقال غيره :

اذا جاريت في خلق دنيئا

فأنت ومن تجاريه سواء

واني أحذرك يا بني أن تكون كالظالم الذى يعض على يديه يوم القيامة من شدة الندم وهو يهتف في حسرة يائسة : ( يا ويلتا ليتني لم اتخذ فلانا خليلا . لقد أضلني عن الذكر بعدئذ جاءني ) الآية .

فاذا نهلت من العلم بما أشرت عليك ، وعملت بما جاء به ، وحسنت منك الأخلاق . . مكنك ذلك من تجنب الكبائر السبعين وأفادك ذلك كثيرا في معاشرة الناس . فأنت اذا نازعتك نفسك للاساءة الى الجار مثلا . . ذكرت على التو قوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم ) .

كما انك لا بد ستذكر عندئذ قوله ( ص ) : ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من كان يؤمن

بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) الحديث ، ثم انك لا بد أن تتمثل حينذاك بقول الشاعر :

أقول لجاري ان أتاني مخاصما

يدل بحق أو يدل بباطل

إذا لم يصل خيرى وانت مجاورى

اليك فما شرى اليك بواصل

وعند ذلك سترعوى وتثوب اليك نفسك فتقلع عن ايذاء جارك . . واذا نازعتك نفسك مثلا الى الكبرياء والخيلاء والتيه على الاخرين . . تذكرت في الحال قوله تعالى : ( ان الله لا يحب كل مختال فخور ) وقوله جل وعلا في الحديث القدس : ( العظمة ازارى والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما ألقيته في النار ) . كما ستذكر قول الرسول الكريم (ص) : (ألا أخبركم بأهل النار : كل عتل جواظ مستكبر ) وستردد بينك وبين نفسك قول

القائل :

قولا لأحمق يلوى التيه أخدعه

لو كنت تعلم ما في التيه لم تته

التيه مفسدة للدين منقصة

للعقل مهلكة للعرض فانتبه

وعندها ستدع الكبرياء الزائف لا محالة وتقبل على الناس بتواضع جم ولطف كبير . . ثم إذا نازعتك نفسك يا بنى الى الانتقام ممن أساء اليك - لا . . فذكرت في الحال قوله تعالى : ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )  وتلوت أيضا قوله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وقوله تعالى : ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) ثم ذكرت قول النبي ( ص ) : ( ليس الشديد بالصرعة انما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب ) وقوله عليه الصلاة والسلام : ( ان

الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه ) ثم ذكرت قول أبي ماضى :

وأرى مساوئه كأنى لا ارى

وأرى محاسنه وان لم تكتب

وألوم نفسي قبله ان أخطأت

واذا أساء الي لم أتعتب

فعندئذ ستميل نفسك حتما الى العفو والصفح بدلا من الانتقام والعنف . . وسترى في الحلم وكظم الغيظ فضيلة لا تعدلها فضيلة . . ومروءة وكرما لا تقاس بمثلهما مروءة ولا كرم

هذا غيض من فيض يا بني من الامثلة التى لا بد أن تجني ثمارها اذا عرضت لك فلم تتسرع في مجابهتها قبل أن ترجع الى الكتاب والسنة والادب الحكيم . .

وهكذا تجد يا بني أن العلم والعمل به وحسن الخلق ، هو التجارة الرابحة في الدنيا والاخرة . . بها تستوجب محبة الناس في الدنيا ، وثواب الله في الآخرة .

يا بني . . أحافظ انت عني هذه الوصية وعامل بها ؟ أم انك قاذف بأوراقها على قارعة الطريق وضارب بها عرض الحائط ؟

حسنا . . لم يخفق حدسي بك . . ولم يخب ظنى فيك . . فها أنت ذا تجيب بما تقر به عيني . . وها أنت ذا تعاهدني على صون الوصية والعمل بها . . فأرجو الله لك الهداية والتوفيق . . والرشاد والسداد فهو وحده الهادى الى سواء السبيل

اشترك في نشرتنا البريدية