- الربع الاول من القرن - ( 1 )
يسود زعم خاطئ فى أنفس الكثيرين من أن ثورة القوالب والاشكال التى جدت مع قيام مواجهات الشعر القديم ، والشعر الجديد ، تعود نشأتها الى طلائع الخمسينيات . وهو زعم نراه يستشرى ويتمكن الى حد أن شارف اليوم لان يصبح واقعا وحقيقة لا مرد لهما ، ولا قبل لدفعهما . واذا ما كان هذا يقع لحساب الزمن والتحول نظرا لما ستثمره التجربة الجديدة وتتمخض عنه مما نحن فى حاجة اليه من دافع وتطور - فمن الحتمى ايضا ان ننصف الاسبقين ، ونضع جهودهم فى اطار المعطيات التى توفرت لهم ، ونقرن ونوازى علنا بذلك نخلص لأنفسنا ، ونخلص لتاريخنا ، ونجد مكاننا عن جدارة فى الدورة الكبرى للادب التونسى التى تمتد الى قرون خلت ، واخرى ستتلاحق , وستتوالى فيها النزاعات والصراعات ، لنأخذ مكاننا كقدامى بين محدثين مهاجمين ! .
فالذين سبقوا تجاربنا هذه قدموا كثيرا لأدبنا ، وعبأوا بما قدرت جهودهم خواء عشرات السنين . القصائد بعض ما انتجوا ، ولكن اعمارهم صهرت بالحرف ، واكتوت بالكلمة ، وعشيت أبصارهم فى الزوايا خلف الشموع يبحثون عن فكرة يغتنى بها أدبنا ، ويسهمون فى البناء ما وسعت حالهم وظروفهم . هؤلاء - والوصف لا يفى بما فى تلك الفترة من قساوة - لهم ايضا نورات وثورات على القوالب والاشكال ، وعلى القيم بالتالى . أما كان مجديا ورائعا أن نذكر باعتزاز نتاج معاركهم ، ربما استلهمنا منها ، وربما رأينا فى بعضها ما توجب الوقوف . فحتى اليوم تجمع المحاولات التى وضعت أسسا للتعريف بالشعر التونسى المعاصر على أن المعركة على مستوى جبهتين تتنازعان البقاء والجدة ، لم تبدأ الا قبيل الاستقلال بسنوات قليلة بظاهرة خروج بعض الشعراء عن القوالب المألوفة ، الامر الذى نشأ عنه جدال مستمر ما يزال وقد لا ينتهى . اما ما كان من الانفلاتات السابقة ، وامارات التجديد فهو لا يعدو الاهتمام يتطور وضعية القصيدة من الخوض فى مسائل قديمة ، وموضوعات عتيقة الى تجديد فى الكلمة ، موضح الى مجاراة تيارات جاءت مع العصر ، كالرومنطيقية ، والطبيعية مثلما فعل ابو القاسم الشابى فى نهاية
الثلث الاول من القرن الحالى . وبمفهومهم هذا نخلص الى ان لنا حركة تجديدية حصلت في الثلاثينيات ، وأثرت . . وانتهت . وهناك انقلاب الآن ، يتواصل منذ الخمسينيات ويؤثر . .
الحركة الاولى كانت استجابة للقاح عالمى
والانقلاب الثانى كان تواصلا لما - يسود مفهوم الشعر العربى من الصيرورة . ومن هذه الوجهة كان على المجددين لكى يدعموا سلطة هذا الانقلاب ، ويضمنوا كسب الحركة السابقة أن يستقبلوا بالرفض كل ما لا ينخرط فى مجموعتهم , إما لكونه وجها جامدا بليدا ، انتهى الحكم عليه . واما لأن الاعتراف به مضايقة نفسية ، وحالة تذكر بوجوب الثورة المستجدة .
ومهما بدا أن المعركة بين القديم والجديد فى مجلاتنا وصحافتنا لا تجرى مكشوفة سافرت فهى على كل حال واقعة وامر حاصل ، والزعم الخاطئ يتوغل يوما بعد آخر ، ويجعل الهوة تعمق ، ويقوى الانكار ، ويغدى جيلنا (( الشاعر )) هذا بفكرة خطيرة هى سجب المحاولات الأسبق ، والصاق النعوت ، والاوصاف السفيهة بها . ومع ما يستبطن الانكار هذا من دلالات العقوق والتجنى فهو (( عقدة )) ضاعفت ما تفشى من احتقار للادب التونسى ، ولشعرائه ، ورجالاته , فى حين ان اكداس الورق فى الرفوف الكابية تنتظر ساعه الخلاص كى تبوح و تفرز , و تعرف بالثورات التى كانت لها . والثورات التى كانت عليها . فما من فترة مرت فى تاريخ حركتنا الشعرية المعاصرة لم توجب احساسا بتغيير , ولم تدع الى اثبات تململها مما كان يوهن كاهلها من التركات القديمة . الثورة ما بين القديم والجديد ، كانت دائما حاضرة وموجودة منذ مطلع القرن حتى اليوم سنة سنة ، وجيلا . . جيلا وقد سجلت الصحافة التونسية الصادرة فى الربع الاول من هذا القرن وعددها يزيد عن العشرين صحيفة ، أمارات لكل ما حدث . ونقلت الينا ما كان يدور من مواجهات مختلفة ، وحملت الينا الآراء والافكار حول الشعر . . وحول مفهوم بناء القصيدة ، ووظيفة الشعر والشاعر لعله من اللائق قبل أن نعرض لجميعها ، ونلقى بعض الاضواء على منارعها أن ندل الى الخطوط والاتجاهات العامة للشعر فى ذلك الحين ، والمتمثلة فى تيارات ثلاثة : أولاها تيار الأهاحي والمدائح ( 1 ) والأخوانيات بطريقته التقليدية فى الاستهلالة , والوقفة المتخاذلة على (( الاعتاب الملكية )) وبالعواطف المصطنعة الزائفة . وثانيها
موضة التشطيرة ( 2 ) والتسبيعة والتخميسة بأسلوب عهود الانحطاط , والشعوذة والبهلوانيات ، والفراغ . وثالثها تيار يقدح زناد الفكر ، ويصرخ بأكثر من صوت معلنا انه يناضل ويأبى ويتحدى .
وحول هذه التيارات تدور القوافى والأشعار ، ويجرى الصراع خفيا آنا , وفى العلن والجهر طورا آخر . فقد كتب الشاعر عبد العزيز المسعودى فى
سنة ( 1903 ) عن حياة ( الشعر وترقيه ) يشكو طغيان التيار الاول الاهاجى والمدائح فى قوله : ( وبعضهم سلك مسلك الاهاجى فى الزمان الحاضر ، ومديح الاقدمين . وتوصل بهذا الى تقبيح حال المجتمع فى عيون ذويه حتى كان ادعي الدواعى الى فقدان الامل العمومى بين الافراد كما هو مسلك بعض الجرائد اليوم ) . ومقالته هذه هى اول ما امكن ان نهتدى اليه فى مطلع القرن من الآراء حول الشعر ، وهو يذهب فى جزء آخر منها نشر بالعدد الثانى من نفس المجلة الى ان (( الشعر معنى عظيم يدرك بالوجدان ، وان الذين حصروه فيما عرفوه به ، ضيقوا واسعا ، وجعلوا اسما على غير مسمى )) . ثم هو يتعرض فى فصل ثالث الى منزلة الشاعر ومشكلات القصيد وبنائه قائلا : ( وكانت منزلة الشعراء عند العرب فى حفظ الآثار واستبقاء الذكر كالهياكل التى كان يقيمها قدماء المصريين لينقش عليها المهرة من الصناع ما تميل الامة الى حفظه كتابة وتصويرا ، وذلك لان للشعر عندهم مكانة لا تعلوها مكانة حتى نقل عنهم انهم يسجدون لبعض القصائد مع انهم كانوا يستعملون الشعر ويفهمونه بالنظر لوجهته اللفظية فقط ، ويهملون النظر من جهة تأثيره ووقعه فى النفوس على مقتضى ما ادركوا منه حسب تعاريفهم البلاغية والعروضية . مع انه زيادة على كونه موزونا هو حالة من حالات النفس . ويا ليت شعرى ما كانوا يصنعون لو حضروا الآن وقد استعمل الشعر مرسما لتمثيل ، وقام بوظيفة السينما توغراف ، والفوتوغراف معا . فالبارع اليوم من تتفجر المعانى من قريحته فيزينها بميزان المرسن ، ويصوغ لها على قدرها قوالب من الالفاظ والتراكيب . وبالجملة يصور فى أشعاره ما شاء حتى يخال من يقرأ أشعاره انه ينظر الى لوح من الالواح المصورة بقلم الرسام وفرشاته ( 3 ) )) .
ويعود نفس الشاعر المسعودى فى مقالة له فى نفس السنة وبالعددين ( 19 و 20 ) وقد حمل فكرة اخرى هى أجرأ من الرأى الذى عرضه فى حرية الاختيار التى أتاحها للكاتب فى انتقاء القالب الذى يختار ، والصورة التى يتخيل . عاد ليدعو فى جرأة الى مزيد من التحرر والانفساح قائلا فى ( الشعر فى النثر ) : ( ولكتاب الافرنج اليوم ومن قلدهم من كتابنا المعاصرين اساليب غير متعارفة من قبل فى الكتابة الشعرية منها استعمال الشعر فى النثر . فترى الكاتب يوزع انواعا من الكلام مختلف المواضيع فوق لوح التخيل ليركب منهما الجمل المطلوبة له فى غرضه المخصوص كما يفرغ الرسام أنواعا من الادهان المحلولة لايجاد اللون المناسب لرسم شكل أحب ترسيمه )) .
وقبل هذين المقالتين كانت المباحث فى الشعر لا تعدو الخروج عن كونه
ديوان العرب وعن كون الشعر هو نوع من انواع الكلام عند العرب . فمثلا حينما اصدر الشيخ الخضر بن الحسين مجلته ( السعادة العظمى ) افتتحها بمقدمة ذات فصول واستطلاعات متسلسلة بحثت مختلف ضروب الادب وتفرعاته ، ومن بينها (( الشعر )) فقال عنه : (( هو النوع الثانى من انواع الكلام وهو كلام مفصل قطعا متساوية فى الوزن متحدة فى الحرف الاخير . وله مباحث شتى ، وليس من الغرض الآن الانطلاق اليها فان ظلها لغرة هذه المجلة غير ظليل . وخلاصة ما نقوله الآن هو ان دراسة شعر العرب يتدرع بنا الى فهم نظم القرآن ، واحوال النبى صلى الله عليه وسلم . فقدها من الدين ضربة لازب ، واما انشاؤه فمع احكام وضعه وانتقاء مواده التى يجب نحته منها فحلية للعلماء ، وزينة للادباء . ومن تعاطاه لفضيلته لم يوحشه كساده ( 4 ) )) .
ولا شك اننا لاحظنا التفاوت فى النظر لمسألة الشعر التى نظر اليها الشيخ الخضر بن الحسين من زاوية دينية صوفية ، أتبعها بفصول اخرى عديدة عن (( براءة الشعر من القرآن )) . , يثبت بها نظرته هذه . . . وبين رؤيا الشاعر عبد العزيز المسعودى التى جاءت فى الاعداد الموالية ، والتى امكن لها ان تحدث انقلابا سريعا فى اتجاه المجلة خصوصا فيما يمس مفهوم الشعر ، اذ بتتالى الاعداد نرى ان الابواب التى استحدثت فى الاول بالنسبة للمساجلات الشعرية ، لم تلبث ان اختفت من تلقاء ذاتها ليبرز الشعر فى انتفاضة مفاجئة غيرت منه الاسلوب ، وأعطته تسمية جديدة .
كانت الحلية فى العدد الثانى قد فتحت بابا (( للاسئلة والاقتراحات )) , وطرحت مسابقة تقول : ( ان نثر المنظوم فى فن البديع يسمى بالحل ، وعكسه العقد ، والمطلوب حل أبيات أبى الطيب الآتية بعبارات رشيقة ) :
أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد الى ان نرى احسان هذا لذا ذنبا
وقد اضافت للنثر المنظوم ، والنظم المنثور مسابقات فى التشطير ودعوات ملحة للقراء فى ان يقبلوا على باب الاقتراحات والاسئلة هذا . ولكن ما عتم ان لمسنا بعد مقالات المسعودى فى الشعر تحولا طارئا ، كان من أهم ما أسفر عنه هو الغاء هذه الابواب ، وصدور قصيدة للشيخ الخضر بن الحسين فى العدد الموالى ، بعنوان (( الشعر العصرى )) . وهى تسمية جديدة للشعر , والتقاء بالافكار الجديدة التى وصفها المسعودى . وفى القصيدة زيادة عن الاسلوب غير المعتاد ، هناك الافكار المعاصرة ، المتلاقية بالواقع ، والمتجاوبة معه :
أيعاتب الزمن الذى لا يسعد وبنوه فى مهد البطالة هجد
مهلا فما هو بالملوم ومن رمى سهم الملامة نحوه فمفند
لو أفرغوا فى وسعه ما جل من عمل لاغدق فيه عيش أرغد
أرأيت كيف شدت بلابل سعده وزهت ببهجته غصون ميد
أبناء هذا العصر هل من نهضة تشفى غليلا ، حرة تتصعد
هذى الصنائع ذلت أدواتها وسبيلها للعالمين ممهد
وكذاك بذر العلم اخرج شطأه ودنا جناه فما لنا لا نحصد
وتسربت تسمية (( الشعر العصرى )) الى كثير من القصائد الاخرى ، فأمكن ان يتأثر سير الشعر وتدخل على مفهومه تغييرات عديدة . وينقلب القصيد فى نظر شعراء وعوا رسالتهم من مجرد اللعب بالشطرة والاخرى ، والتسلى بالتخميسة والتسبيعية الى محاولة لفهم ما يدور فى العصر ، وما يجرى فى دنيا الناس ، من وجوب الكفاح لاكتساب وسائل التصنيع ، ودعوة الى النهضة وانفتاح على مباهج الحياة ، ونداء الى التعاضد فى القصيد الذى نشره محمد الشاذلى خزندار سنة 1909 بجريدة ( التقدم ) تحت عنوان ( الشعر العصرى ) :
ألا بالتعاضد فلنبتد فمدوا يديكم فهذى يدى ( 5 )
فهذا بجاه وهذا بمال وهذا بعلم لكى نهتدى
وهذا برأى يشير علينا وهذا بروح لنا نفتدى
وتناقلت المحلات والصحف الشعر العصرى ، وأصبحت تفسح له مكانة محترمة فى صفحاتها ، فأخذ الرهط القديم يندحر ويختفى فى قبو الخيبة ، ويتضاءل (( تشحيذ الاذهان )) بالالغاز ، والتملق ، والاخوانيات ، وهو ما ثارت معه حركة معاكسة قادها السلفيون على الشعر العصرى فى غضب جامح على هذه الثورة المتجددة التى احالتهم فى لحظات قصار الى مجرد (( أحلاس للقديم )) واشباح من الماضى .
فكتب أبو تميم فى جريدة (( المنير )) سنة 1920 متصديا لهذا التيار ، وداعيا الشعب لمقاومته فى مقالة تحت عنوان (( الشعر )) فيها يقول : ( 6 ) ( الشعر أيها الادباء حفظكم الله ورعاكم ولا اخالكم الا تعلمون شعور تؤيده قوة روحية مدفوعة بعامل التأثر تمتلك بها المشاعر والقلوب ، وتستعبد الالباب . ذلكم هو الشعر الذى قرأتم من آثاره واطلعتم من أخباره على ما كون فيكم باعثا على حب الانتساب اليه . . ولكن بكل أسف ما كادت تبرز الصحافة التونسية أخيرا فى عالم الظهور حتى تراءت لنا فئة ظهروا بمظهر المرشدين للامة ، ودعاة للاصلاح شغفوا فيما يظهر بموالاة أسمائهم للقب أديب أو شاعر أو غير ذلك من ألقاب التضخيم ، فأخذوا يصورون القول فى صورة اوزان مقفاة على شاكله الاوزان الشعرية يخيل للرائى بحسب هيئتها انها شعر وما هى بالشعر فى شئ )) .
ويقول ابو تميم واصفا وسائل هذه الفئة المصلحة المارقة عن اصالة الشعر فى نظره : ( انهم احتكروا بعض الجرائد الراقية بصورة تكاد تذهب ببهاء الصحافة العربية ، وما ذلك يخفى على من وهبه الله ملكة التمييز بين الحسن وضده . . . على ان كثيرا من المطالعين اصبحوا اليوم لا يلتفتون الى القسم الشعرى منها لما تعودوه فى اكثر القصائد من القول المستهجن والكلام المتضارب ، والموازين المختلة , والالفاظ العامية )) . ثم فى انفعال وتوتر يصرخ صاحب المقال قائلا : ( على رسلكم أيها الشعراء العصريون فما كل كلام موزون مقفى بشعر ولا كل شعر صادر عن شعور ، لهذا أدهشنا ما حل بالادب من التشويه والمسخ . فمن ذا الذى يؤاخذ بهذه الخيانة ؟ فماذا تصنعون أشعرا ما تنظمون ام على تنسيق الانشاء الساذج فى صورة الشعر تكتبون . فان كان ما تسمونه شعرا فى عرفكم فلنندب الشعر (( الحقيقى )) ) . وينتهى المقال الذي كتبه أبو تميم عند هذه الحدة والاصرار على العودة الى مجارى الازل : مصب الخليل ، والآباء القدامى ومحكمة ابن شرف : ( ليتكم تؤسسون للشعر حكومة تسير على مقتضى دستوره القديم والا فالام تبقى هذه الفوضى سائدة بين الشعراء . والى متى نسمع هذه الغوغاء التى كادت تذهب بريح الادب التونسى . ذلك ما اوجب علينا القيام بالحث على تاسيس محكمة شعرية ومؤتمر انتقادى يحمى ذمار الادب ، ويحفظ حوزته من غوائل التقلبات الزمانية وعبث المعتدين . ورجاؤنا ان تؤسس هيئة المحكمة على أطلال محكمة أمير الشعراء وحكم البلغاء النقادة ابن شرف بمدينة القيروان الزاهرة . فافسحوا لنا أيها القيروانيون مجالا فى جريدتكم الغراء لانتقاد (( الشعر العصرى )) ولكم على الادب وأهله جزيل الشكر والامتنان )) ( 7 ) .
ولئن تبدت مقالة ابى تميم بهذا الهوج ، ناحبة ، ساخطة ملتاعة ترغى ، وتزبد ، وتنعى ، وتؤبن ، وتستعدى ، فلقد كانت هى آخر ما تبقى فى الشمعة من النفس الاخير . . كانت الاحتراقة النهائية ، والصدى الذى تردد وعاد الى الحلق مع ما تبقى منه . وبذلك انطوت آخر الكوابيس التى استمرت تستعبد الشعر ، سنوات عدة ، وشرعت الجرائد صفحاتها تتلقى اشعار سعيد أبى بكر ، لينشد فيما أنشد من الشعر العصرى فى جريدة ( صدى الساحل ) سنة 1921عنوان ( صدى الساحل يناجى الساحل والساحل يناجيه ؛ فاستمع يا جناب العميد تلك المناجاة ) :
جعلت شعارى خدمة الحق دائما واعلاء شأن الشعب ابغيه مشربا ( 8 )
وأملت ان أطوى البلاد مناديا الى راحة ( الانسان ) شرقا ومغربا
بهذا تكلم يا صداى أمامه فأنت لسانى ان وقفت مخاطبا
وحدث عن الدستور فهو كجنة حوت لذة العيش السعيد وأطيبا
ولعل اروع ما أنشد من (( الشعر العصرى كان فى هذا القصيد الجريح ، الممعن سخرية وتهكما ولذاعة ، والمفعم وعيا واحساسا . الطاهر الحداد يتحدث فى سنة 1923 بجريدة ( الاتحاد ) عن نتائج الميزان :
لا كنت يا أيها الميزان منتعشا أضعت شعبا ضعيف العد والعدد
أوقعت قومك فى ضيق وغيرهمو بالقبض منك غدا فى عيشة رغد
جوعتنا أيها الميزان وانتفخت منك البطون لغير الاهل والولد
وتدعى العجز بهتانا إذا طلبوا وأنت للغير وهاب بلا عدد
والقصيدة مطولة تضم واحدا وثلاثين بيتا ، اقتطفت منها جملة الابيات التى أوردتها تدليلا على أن الشعر العصرى هو ما تمثلت معاصرته فى التعبير عن أحاسيس الشعب ، ورغبات البلاد ، وقد طال الجدال حول (( الشعر العصرى )) والشعر التقليدى الى حد دعا بعض الكتاب الى انهاء الخصام ، ووضع حد للمعركة . فكتب سعيد أبو بكر مقالا بعنوان ( يا ضيعة الاوقات ) بلسان الشعب ) يقول : ( شهور ( 9 ) عديدة قد مضت والكتاب التونسيون يشتغلون بتلك المسألة الخطيرة التى أصبحوا يملأؤون بها أعمدة الصحف العربية التى لا تزيد عن تحليل كلمتى القديم والحديث أو الالحاد والجمود ، صفان من الكتاب يرمي كلاهما الآخر بنعوت أكثر ما يقال فيها أنها حبر على ورق لا مضرة فيها ولا فائدة منها . هذا يرى خصمه كافرا وجاهلا يستمد ما يكتبه من بعض أفكار رجال مصر . وذاك يرى خصمه جامدا وفى حاجة الى من يعلمه حروف الهجاء ويعنون له رسالته )) . وكتب مصطفى خريف فى مقال له فى نفس الفترة مساندا رحال الشعر العصر العصرى مهاجما أولئك الذين يريدون حبس التجارب الادبية فى محال الخيال قائلا : ( لم ( 10 ) يعهد منذ القديم أو الحديث أن الحضارة البشرية تقام أصولها على الخيال أو تبدر ثمارها وتصلح اذا سقيت بماء الوهم ، أو تعطى أكلها بالمباحث الادبية والمساجلات الشعرية والافتتان فى ضروب البديع والاضطلاع بأصول البلاغة )) . ومساهمة أمير الشعراء الشاذلى خزندار فى الانتصار لهذه الحركة كانت بالقاء محاضرة عن ( حياة الشعر وأطواره ) سنة ( 1919 ) بقاعة الخلدونية نشرت مفصولة فى نشرية خاصة ، ذهب فيها عند تعريفه للشعر )) ( إلى أنه ( 11 ) شئ يجيش بالصدور
فتتنفسه الالسنة على اختلاف لهجاتها فهو فى كل الامم عنوان الرقى ولسان الشعور ، وصوت الضمير ، ورائد الوجدن وترجمان الاحساس ، وما تلكم القواعد الفنية الا تعريف للنظم ، وهى المظاهر التى يظهر فيها هذا النور الباهر بل هى الاوانى التى يسكب فيها هذا الرحيق الزلال )) .
ويتضح جليا أن المعركة أفضت الى كسب حتمى نتيجة إثمار الشعر العصرى ، وأن الصراخ الذي ارتفع سرعان ما استعاد بعد لأى هدوءه واتزانه . وأصبح الشعراء العصريون يجدون بعد أن اتضحت الغاية ، وراء خلق منهج لهم ، واتجاه ثابت مدعم ، بعيدا عن الغوغاء . وإنا لنعد هذه الحركة ثورة من الثورات ( 12 ) التى عرفها الشعر التونسى فى الربع الاول من هذا القرن لما أتت به من تحويل جذرى لمبنى القصيد ، ووضع مشكلات عديدة للبحث منها : الشعر من أين . . والى أين ؟ .
والشعر ما هو . . وكيف يكون ؟ وما هى مهمته ؟ .
ولن يمكن أن يسقط من الحساب ، أن الشعر العصرى ، استهدف من أول وهلة خدمة الشعب . . ومطامح الشعب . . ونبل الشعب ، والثأر لكرامة الشعب ، يطارحه المشاكل ، ويعى حلولها لأن : ( للشعر مفعولا قويا وأن للشعراء مكانتهم فى كل انقلاب ، وجد على وجه الارض . ولا أعنى بهذا الا من يصدق عليه لفظ شاعر ، وينطبق عليه انطباقا صحيحا ، ولا نعنى به من يضع كلامه فى كفتين فاذا تساوتا أرسله ، وقال هذا شعر مبين
تصفح كتب التاريخ ونقب فى حوادث الانقلابات التى حدثت فى الامم من سياسية وعلمية وأخلاقية ودينية وغيرها ، تجد للشعر والشعراء فى كل انقلاب أثرا لا ينكر ، وعملا عظيما لم يهمله التاريخ . إذا فللشاعر وظيفته فى الحياة العملية وله عمله ، وله أثره طبعا . واننا اليوم فى بداية نهضة وفى عصر انقلابات مختلفة يوشك أن ينالنا منها ما قدر لنا وما أعددنا أنفسنا لقبوله وهضمه فخليق أن نضيف الى تلك الروح السياسية روحا أدبية حتى تستكمل
النهضة أركانها وتتم أسباب التطور والحياة . إذا فنحن فى حاجة الى شاعر والى شعراء ، وفى حاجة الى شعر ( 13 ) )) .
هذه الوجهة الأخيرة ، وقد قيلت سنة ( 1923 ) هى تمت بصلة الى المنحى السياسى ، حيث أنها لأحد الذين مثلوا الحزب الحر الدستورى التونسى فى أولى فتراته . وإيرادها هنا يعطى شكلا جديدا للمعركة ، كيف تمت على نطاق شاسع شمل فيما شمل السياسة والصحافة والادب ، وشاركت فيه كل الاطراف بما يوائم مناهجها ويماشى مخططاتها ، وهو برهان مشرق على أن التجديد ، - وهذه الثورة فى الشعر بالخصوص - كان لها مساس بحياة البلاد وبحاجة الناس الى التغيير ، والتحرك فى عفن التقليد والتحنيط الذى ران وسيطر . وإنى لأبصر من خلال آراء زين العابدين السنوسى فى هذا الموضوع بالذات جراءة واعتدادا قل أن توفرا لغيره ، ونفاد بصيرة ما كان له شبيه بين كتاب جيله . واستسمح القارئ مسبقا إذا ما طال مكوثى واغترافى من صفحات ما كتب فيما يختص بموسيقى التركيب فى سنة 1925 ، عندما يقول : ( إن العرب ( 14 ) اعتبروا الشعر المظهر الأسمى للأدب لما اختص به من اتزان الكلمات وتناسقها وترجيعة القافية ، وعلى ذلك توسع الاندلسيون فى زيادة أقسام جديدة لأبحر الشعر الستة عشر ، وأخذ المعاصرون فى تغيير نظام القافية وهو عمل لا بأس به إذ لا منافاة فيه لمرمى الوحدة التى هى الغاية المعقولة لوضع القواعد وتدوين التآليف .
نعم إن مرور الزمن أثر فى بهجته من حيث ابتعاد ذوق هذا الجيل عن الموسيقى والانغام الاندلسية إلا أن ذلك أمر ضرورى لكل مجتمع ، والفن دائب التحول بطبعته لأن الاذواق تستبدع الطريف بطبيعتها وتميل الى التحول على أى حال )) .
ويتخذ زين العابدين السنوسى من الوان الابداع الاخرى مجالا ليقارن بينها وبين طبيعة الشعر كفن قابل للتحول ، نام ، متطور ، فيضيف : ( خذ لذلك مثلا ، الموسيقى الاوروبية ، فانها بعد ان تغلغلت فى الرقة على المنهاج الالمانى انقلت بعد الحرب فجأة ، فاذا زنوج أمريكا يرأسون حفلات القصور الكبيرة ، ويضربون ( الجازباند ) بنغماتها الخشنة التى لا تلبث ان تنهك قوى الراقصين بهزاتها المتوارة المتتابعة ، وقد كتب الكتاب كثيرا لردع المجتمع عن هذا الصخب الوحشى الذى حل مكان الفن الرقيق فجر معه فنا آخر للتدهور اذ
اصبح الرقص ايضا تشنجات عصبية يلتصق فى اثنائها الجنس الخشن بجسوم الجنس اللطيف المتجرد )) !. ومثال آخر من فن الاكساء ، والتحلية: ( بل يمكننا ان نمثل ايضا لتبدل الذوق بمناظر الدهان ، فقد كان جمال الرياش والتصوير واللبوس فى تناسب الالوان وتماثلها حتى اذا قضى عنها بالتغاير تغايرت فى انسجام شيئا فشيئا منظور فيه الى عدم التنافر فأصبحت اليوم على العكس من ذلك تماما . فالستائر والاثاث التى كانت من الوان محتشمة ، اصبحت لا تقل تلونا عن علم دولة الشريف حسين فيها الابيض (( اليقق )) والاحمر القانى ، والأخضر الزبرجدى والاسود الفاحم وربطة العنق التى كانت فى السنين الفائتة اما سوداء او بيضاء ، اصبحت اليوم كقوس قزح فيها سبعة الوان متضاربة فى رقاعة بهيجة . بل ان نفس تدمية الوجه وتحسينه قد سارت فى هذا المهيع الغريب ، فالفتاة التى لا تصور من فمها مثلثا ملتهبا قائم الاضلاع ولا تحيق بعينيها هالة من الزرقة المخضرة، ولا تلبس من بين معقد زرها الى ركبتيها خمسة الوان متنافرة حتى تصبح أشبه بطيور المنطقة الحارة ، فيها جميع الوان الطبيعة ، واشكالها . ان الفتاة التى لا تسلك هذا الطريق اليوم لا تعد من صاحبات الذوق .)) وتصل بنا موازنة الزين فى أسلوبها الشعرى الخصب الى هذه النتيجة التى تقول : ( وسواء حكمنا بصواب هذا التطور او خطئه فان تياره جارف لا يمكن وقاية امة تعد المائة مليون منه . فان الذوق عنصر من عناصر العاطفة ، وهو عنصر تعلم استخدام العقل فلا يمكن ان نجعل من العقل والمنطق سلطانا عليه )) . ويخلص الى مسالة الشعر ثانية فيؤكد انه ( لا يرى فائدة من محاولة كبح جماح لعاطفة التطور فى الاوزان الشعرية والموسيقى . لا وزنا وقافية واحدة . لكننا نلاحظ ان ذلك التطور يجب ان يكون طبيعيا لا من نوع التعلق بالشذوذ والتفرد. وهو لابد واقع . على اننا لا نكاد نجد من لا نعتقد ان اسقاط القيود الزائدة مساعد على استثمار مواهب قد يوقف تيارها ذلك الارهاق الذى لا طائل تحته من القواعد والقوانين )) . ويجد الزين مرة اخرى وراء المقارنات فيضرب امثالا لنمو الموسيقى بما قرا من أشعار صفى الدين الحلى : ( فعجبت برقته وانسجامه الا أنى لم أر له قصيدا مدرسيا ( Classique ) يضارع موشحه الذى مطلعه :
شق جيب الليل عن نحر الصباح أيها الساقون
ودعانا للذيذ الاصطباح طائر ميمون ... الخ
وتساءل بعد عرض القصيدة بأكملها قائلا : ( وهل كدر خيالها ولغتها الجميلين ، تغاير القافية ، وخروج الوزن عن أنغام قحطان !. فالتطور إذا واقع الآن ومن قبل فى هذا القسم من الأدب وهو حيوى بالنسبه للمستقبل خصوصا متى ازداد روجان العربية بين العموم بفضل الوسائل الحديثة من التعليم الاجبارى وروجان الصحف مما لم يكن موفورا للأوائل )) .
أقف أخيرا بعد هذا العرض الخاطف للثورة الاولى التى غيرت وضع الشعر التونسى المعاصر فى مطلع هذا القرن ، لأقول : أوكان ممكنا أن ينسى جيلنا صفحة رائعة من تاريخه الأدبى ؟ أو كان باستطاعتنا أن نفخر ، ونتباهى ، ونزهو ، لولا افكارهم هذه التى أعطتنا الفرصة ؟ وأمدتنا بشعور التغيير المستمر ، والصيرورة الدائمة ؟ ولكن لنتساءل بعد هذا كله . هل وقف الشعر عند حدود الربع الاول من القرن يجتر الذكرى . . ويعيش على ثورة من سبقوه ؟ . هل حقق الجيل الآخر ثورته ، ووجد نموذجه ، وطابعه ؟. هل كانت له فى يوم ما صفحة رائعة مثل هذه ؟. أعد بالحديث عن هذا فى عدد مقبل .
