كثيرا ما نتساءل عن الروح التونسى أهو حقيقة كائنة ذات معلم يبين بها عن غيره وان اكتنفه الغموض وتجللته الاسرار ، أم هو محض وهم ، صورة ابتدعها الخيال فى لحظة من لحظات عبثه ، دمية من دمى الفكر يصنعها لنفسه ثم يخدع بها فتنة وغرورا ؟
هذا الروح ماذا عساه أن يكون ؟ أله صلة بالاشكال والخطوط والالوان أم هو شىء باطنى نحس به ماثلا فى النفس احساسا عميقا وان كنا لا نتبينه ؟
أهو شئ بسيط محدود ، أم كائن شائع مشترك يلتبس بعدة أشياء ويتحد ... كالهواء نلفيه فى كل مكان ، ولا يختص به مكان ، ثم هو يتكون ويتشكل ويتنوع ولا يستحيل ولا يفقد طبيعته الاولى وجوهره الاصيل،
أو كميزة الشخصية الطريفة القوية مهما تباينت وتقلبت أحوالها ، فان أبسط حركة وسكنة من حركاتها وسكناتها موسومة بصبغة خاصة تميزها عن غيرها !؟
الروح ... كلمة تتردد كثيرا على الالسن ولا تجهد الاذهان فى تحديدها وجمع شتات عناصرها وتأليف مقوماتها ومع ذلك ... فهل هى من الخفاء والغموض والامتناع الى الحد الذى قد نتوهم؟
هذا الروح الذى قد نحار فى أمره ونلج فى تحسسه والتماسه لعله أقرب الينا مما نظن ؟ فقد تجده صدفة ، محض اتفاق ،وأنت فى ساعة تحفز احساسك وتفتحه وانيثاقه اذ يطالعك بارقا خاطفا من وجه امرأة ناضجة .. وجه شهى عليه مسحة رقيقة من فتور كئيب يزيده رونقا وبهاء ،رقة ووقارا ، فهي الانوثة البالغة المكتملة الخالدة ... أو من ابتسامة فتاة أرقها الدلال تملأك بشرا وصفاء وخفة ومراحا ، فهى الانوثة البرعم والظرف الوليد .
وليس هذا الروح وقفا على الوجوه والشمائل فحسب ، ولا منحصرا فى الزى والاثاث وأصناف المتاع والرياش كل على انفراد ، وانما يتوفر ويخصب ويشيع ويمتد فاذا هو جو كامل يشمل حيا برمته ، أو بلدة بأجمعها تركز فيها هذا الروح وتجمع فكأنه لها سمة وعنوان .
وهذا شأن " جبل المنار " فاذا كنت من رواد هذا الجو وعشاقه فيمم شطر هذه القرية وحج اليها فان أول ما يروعك ويستخف طربك حيثما تلفت
وتوجهت البياض والزرقة ... البياض والزرقة منسجمين أرشق انسجام على الابواب والجدران .
هذه الثنائية الظريفة العجيبة ، هذه الخاصة التقليدية العريقة المميزة لذوق الشعب ، انها لسيت ثمرة الصدفة والارتجال بل قد تنخلتها الايام وأثبتتها العصور .
نعم البياض والزرقة منسجمين أيضا فى البحر والسماء ... زرقة السماء الابدية وفضة الاشعة المنعكسة على المياة الوهاجة فكأن هذا من ذلك ، وهو له رمز وصورة ومثال .
الآن وقد ارعيت نظرك سحر الالوان ،ورويت نفسك من بشاشتها واشراقها ، الآن فمل الى شوارع القرية وتوغل فيها صاعدا هابطا واندس فى الازقة وتسمع الاصوات المنبعثة منها ، كل الاصوات أيا كانت ، الجهورى منها والرقيق ، الساخط منها والراضى ، الفتى والعجوز . نغمة واحدة ، نغمة واحدة أصيلة تنتظم كل هذا الشتات ، لهجة واحدة تصافح أذنك ولا تنى تداعب وتطرف سمعك وتتردد فى أرجاء نفسك اصداء بعيدة قريبة ، غامضة جلية ، محببة حلوة ، وأنت تنزل درجات هذه الربوة السامقة تائها فى منعرجاتها وزواياها المليئة سرا وخفاء ، وبهجة واغراء .
هنا يكمن الروح ملوحا اليك فى صمته البليغ ، هنا موطنه ومسرحه ومغناه .
ولا يفوتك وأنت فى هذه النشوة الحالمة أن تتشمم ملء خياشيمك روائح الاطعمة المتسللة من الايواب المفتوحة أو المنفرجة فتجد لها نكهة لذيذة نفاذة تباشر ذوقك في الحين وتغمرك وتغمسك فى جوك الذى أنت فيه ، فتوقن عندئذ أن كل ما خصت به هذه الارض الفتية العجوز روعة تخاطب الحس والقلب معا .
ولا تحسبن هذا الروح ملكا للحضر غير مشاع ، فمهما بلغت خشونة رجل الريف أو البدوى ، ومهما تجد عندهما من غلظة وجفاء ، فانه لا يعييك أن تستنشق وراء القشر والشكل من الظرف وخفة الروح عين ما تلحظه عند الحضر . تلمح ذلك في دعابة أهل الريف الفكهة وحكمتهم الرصينة الباسمة وتطلع قلوبهم الى الحياة فى شغف وثقة وتفاؤل على الرغم مما قد يحيق بهم من خصاصة وبؤس .
انه الروح الطلق المبتسم المتفتح الى النور ... سواء تجسد فكرا أو غناء أو رقصا .
انها نفس النظرة الى الحياة . وما الحياة ؟ فرصة عبقرية المثال ، روضة رائعة الجمال وانها لكذلك مهما حف بها ، ولما حف من مكاره ومآس وأهوال
