يقظة الوعى القومى فى مصر ، هو حديثنا الليلة . واقصد بالوعى القومى هنا تركز فكرة النهوض والاستقلال بشؤون الوطن الداخلية والخارجية فى ادمغة الأمة فرادى وجماعات .
وهذا الوعى القومي ما خامر شعبا من شعوب الارض بحق الا ونال مكانته تحت الشمس، رضى من رضي أو ابي من أبى، وعلى ضوء هذه النظرية سنقوم بجولة في مطاوى التاريخ الحديث ، لنسلم المامة موجزة بمن تمثلت فيهم يقظة الوعى القومى من الشعوب فخرجوا من ربقه الانحطاط وارتفعوا الى ذرى الاستقلال والنهوض . سنرى فى جولتنا هذه فى أول ما نرى انه خليطا من شتى امم الغرب . تكونت من هذا المزيج المتباين . وسكنت فى منطقة نائية فى اقصى اركان الدنيا ، بعد المحيط الهادى وبعد المحيط الاطلسي وقد ساعد اختلاف شياتها ، واقوامها ، وكثرة خيراتها ، على احتلال ارضها من قبل قوم هم من
لحمها ودمها . وقد تمادى هؤلاء القوم فى تسحيرهم لمصالحهم امدا من الزمن غير قليل فلما احس السكان بوجود كيان قومي لهم وبذر الزعماء والقادة فى نفوسهم بذور الوعى القومى ونما فيهم هذا الوعى عندئذ سرعان ماهبوا فى وجوه المحتلين وجالدوهم جلادا رهيبا ، على تضعضع حالتهم الاجتماعية وقلة ذات يدهم فى لعدة الحربية ، ولكنهم تمكنوا اخر الامر بقوة العزيمة من اخراج المحتلين المستغلين من بلادهم تدريجيا ، ثم تمكنوا من الاستقلال بوطنهم الجديد كليا ، ثم تغلبوا على المصاعب والمتاعب فنسوا آخر الامر لهذا الوطن الضخم الطويل العريض مجدا لايكاد يسامى وقد اعترف بمجدهم واستقلالهم محتلوهم السابقون واصبحوا يزدلفون اليهم فى كل مناسبة ، واصبحوا آخر الامر يلجأون اليهم بمختلف الوسائل كلما حزبهم امر أو ألمت بهم كارثة ، واذا بهم يقومون بمهمة الاسعاف والانقاذ هؤلاء الملتجئين لهم الآن ، المحتلين لهم من قبل .
هذا الشعب المحتل من قيل والمستقل من بعد والذي طغت عليه يقظة الوعى القومى حتى قذف بمحتليه الى البحر هو سكان امريكا .
ونترك هذا الميدان الغربي ، لنذهب الى ميدان شرقي يقابله في اقصى شرق الارض فنرى امة شرقية تنطن وحيدة فى جزر متقاربة وبمعزل عن الناس ، واذا باصابع المستعمر تمتد اليها امتدادا خفيا أول الامر واذا بها تمتد اليها امتدادا جليا آخر الامر ، واذا بهذه الاصابع تنقلب الى اسود ضوار تشن الغارات الشعواء على الوطن المنعزل الخصيب واذا به تحتله احتلالا واذا به تستغله استغلالا ، وعلى اسوه اشكال الاستغلال ، ويمتد حبل هذا الاحتلال وهذا الاستغلال ما شاء الله ان يمتد ، ويقوم بعض زعماء الوطن الشرقى يبذر بعض بذور من الوعى القومى فى نفوس القوم ، ويمند زرع هذه البذور وتنتشر فى كل حي وفى كل منزل واذا بالامة المهيضة تقلب الى اتون ساحق واذا بها تقاوم المحتلين مقاومة شديدة . واذا بها نخرجهم عنوة من سائر اجزاء الوطن واذا بالوطن ناهض صناعيا وزارعيا وتجاريا وعلميا وسياسيا وادبيا واذا به مستقل . واذا به ينتج اكثر مما ينتجه من كانوا محتلين له من قبل هؤلاء القوم هم امة اليابان الذين يقول عن لسانهم حافظ ابراهيم :
هكذا الميكادو قد علمنا ان نرى الاوطان اما وابا
فاذا عدنا من جولتنا فى الماضى الى الحاضر فاننا نجد الوعى القومى قد امتد انتشاره فى كثير من سكان المعمورة ، وفى الشرق خاصة . والآن نشاهد غليان هذا الوعى فى الامم العربية وفي الامم الاسلامية ، حيث نرى بعضها كاندونسيا وكالباكستان وكلبنان وسوريا والهند تظفر باستقلالها الخالص بعضه والمثوب بعضه حق الآن بشوائب .
اما مصر فان من يدرس تاريخها الحديث يشهد هذا الوعى اولا فى دائرة ضيقة ، ولكنها عميقة بعيدة التاثير ، وكانت تتمثل هذه اليقظه على اكبر تقدير وفى احفل مظهر ، فى الجوانب الادبية والقولية والفكرية ، محصورة بعوامل داخلية ضمن هذا النطاق المحدود ، وكانت تحاول اختراق السدود والقيود الموضوعة فى طريقها . والحدود والسدود والقيود مجمعة على الحيلولة بينها وبين شم النسيم والانطلاق فى الآفاق والاجواء لئلا تعيد المجد إلى الوطن العزيز . ولم تكن اليقظة القومية اذن شاملة ولا قريبة من الشمول ولذلك تأخر اثمارها - وتأخر ظهور آثارها . فالذين كانوا يتولون امر هذه اليقظة والذين تتمثل فهم ، كانوا فئة من الشعراء والادباء والعلماء وقلة من الزعماء وفئة من كبار الموظفين ، وهم كانوا مراقبين وكانوا يتعرضون للنفي والسجن والاضطهاد ، كلما بدرت منهم بادرة يخشى ان تكون ذات دوى فى البلاد ومع ذلك فقد عملوا مجهودهم وكافحوا وواظبوا على السعى فى بذر بذور الوعى القومى غير مبالين بالعقبات التى توضع امامهم ولا بما تتعرض له حياتهم من مشاكل وآفات جسام . حتى اسلموا الامانة قوية للجيل الحاضر متمثلة فى انشاء (الجامعة المصرية) التى كانت أول فاس ركبت فى ارض مصر لقلع الاشجار الاحتلالية التى سدت آفاق الوطن وامتصت الجهود والمال والماء ، وقد اراد بها منشؤوها الافذاذ من اقطاب مصر وامرائها وزعمائها ان تكون النواة الضخمة لتأثيل مجد الوعي القومى من طريق بث المعرفة فى الشباب الذين هم عماد الحياة فى البلاد . ومن طريق رفع مستوى الشعب فى تفكيره واهدافه وفي معلوماته وفي طريق حياته وفى صناعته وزراعته
وتجارته وعقائده وسائر الوان اعماله وانتاجه وسارت الجامعة متعرجة الخطوات أول الامر ، بما يكاد لها . ولكنها ظلت ثابتة ماضية فى تأدية رسالتها المرسومة ، متوسعة تدريجيا ، حتى انشأت جيلا متعلما واعيا ، وامتد اتساعها وامتد مع اتساعها انتشار يقظة الوعي القومى آخر الامر ، فانشئت لها زميلات الهبت حماسة اليقظه القومية فى بني مصر قاطبة .
ومن الجدير بالذكر ان للأدب فى مصر اثرا بارزا فى هذا الذى حدث وله نصيب الاسد فى ابراز مشروع الجامعة الى حيز الوجود ، وله نصيب الاسد فى ابراز زميلاتها الى حيز الوجود ، فوزير المعارف الآن اديب من الطراز الاول ووزير المعارف حينما انشئت الجامعة مثقف من الطراز الاول .
وكان العلم الذى انتشترت اضواؤه فى ارض مصر تاثير رائع فى مد انوار الى شتى آفاقها حتى استطاعت ان تضم بين جوانحها طائفة القبط الى المسلمين فى اليقظة القومية المطلبة بالاستقلال وتدعيمه وتخليده ، عقب الحرب العالمية الاولى وهكذا عجز المستغلون عن اتخاذ هذا الجانب القوى ذريعة للنشبث فى البقاء .
وقد اراد الله الخير لمصر فسارت يقظتها القومية آخر الامر فى الطريق الانجع الاقوم . وخرجت مصر على نطاق الفرعونية البائدة الى ميدان العروبة الخفاقة الممتلئة حيوية واشراقا ، فالتف العرب حول مصر العربية الناهضة ، وكان لهم تأثير طيب فى تقوية معنويتها وشد أزرها كلما المت بها الحوادث ، وهكذا أنشئت فى ظلال الوعى القومى العربى فى مصر وغير مصر "جامعة الدول العربية" وهي ما تزال تسير فى الطريق المرسوم . ونرجو من الله ان يهيئ لها اسباب النجاح والتوفيق المنشود.
لقد كان من آثار يقظه الوعي القومى فى مصر ان ادرك المصريون ان الاستعمار السياسي انما ترسخ اقدامه على أساس من الفرائد الاقتصادية من الاراضى التى يحتم عليها ، فسعوا من يوم ادركوا هذه الحقيقة الى تمزيق تلك المزايا الاقتصادية من طريق تقوية دعائم الاقتصاد القومى ، وانشاء الشركات الوطنية المساهمة المحدودة ، وغير المحدودة ؛ لتحل محل الشركات الاجنبية التى تمتص خيرات البلاد امتصاصا ، والتي تفقد الامة القوة وتوجد فيها الضعف ، وتسبب لها الخنوع على الدوام .
والاستعمار كالذئب الجائع كلما وجد فى واد فرائس سهلة ، اقام وخيم واذا امتنعت عليه هذه الفرائس او وجد الخطر جائما بين يديها هرب ، الى اودية اخرى خالية من الخطر سهلة الافتراس .
وقد انشئ البنك المصرى من اموال المصريين لخيرهم على هذا الاساس وانشئت فروعه وشركاته ومحالجه على اساس السعي وراء الاكتفاء الذاتى لمصر كما انشئت شركات عبود باشا وغيره لهذا السبب . وانشىء الاسطول التجارى المصرى لهذا الغرض ، كما يكتفى به المصريون عن امتطاء البواخر الاجنبية . وليكون لهم خير عون فى نقلياتهم وتنقلاتهم . وكذلك الاسطول الجوي التجارى الذى تمثل فى شركة (سعيدة) المصرية لحما ودما . وسعى القوم لانشاء مصانع الزجاج والسماد ومعالج القطن ومعامل الكيمياء وكل ما من شأنه ان يسد حاجة البلاد عن الاستيراد من بلاد الاجانب . وانتم ايها المستمعون الكرام - ترون في كل هذا تقليصا واضحا لظلال الاستعمار وتقليما بينا لاظافره .
وقد ارتقي الوعى القومى أخيرا فى مصر إلى الرغبة فى الاستقلال بكل شئ وازالة أسباب الاستعمار فى كل شئ بعدما لمس الشعب المصرى طلائع النجاح فى علومه واقتصادياته وسياسياته وعندما يستكمل هذا الوعى أسباب الشمول والعمق والسموق عندها يلفظ الاستعمار آخر أنفاسه بمصر ان شاء الله .
وقد رسمت سياسة مصر على أساس يقظة وعيها القوى فحددت وأوجزت فى كلمتين هما : "الجلاء ووحدة وادى النيل"
وحينما طرق سمعي لأول مرة هذا التحديد الموجز العجيب ايقنت أن الوعى القومى فى مصر قد بدأ فى النضج والشمول
ونالت مصر حظا طيبا من .. تجاربها السياسية الماضية ، الماثلة في معاملة المستعمرين وفهم وجوه تقلباتهم وألوان خدائعهم ومكرهم وتلاعبهم بالاشخاص والاهداف ، وقد صارت اليوم تحاربهم بنفس علومهم وأساليبهم وقوانينهم وفيها من اقطاب القانون الدولى ودهاقنة السياسية العالمية، من يحسب لهم حساب عالمى ، فقد جلس هؤلاء مع زملائهم من انجليز وأمريكان وروسيين وفرنسيين فى المجالس الدولية العليا فشرفوا سمعة مصر والعرب وتفوقوا وقد ظهرت براعتهم وعبقريتهم فى أروقة مجلس الأمن، وفي هيئة الأمم المتحدة وفي محكمة العدل الدولية بلاهاى .
ولا أود أن اختتم حديثي عن يقظة الوعي القومى دون أن اشيد بأثر الصحافة المصرية فيه . فان الصحافة المصرية صحافة ناهضة ، وقد ساوت زميلتها فى الغرب وتفوقت على كثير منها فى المظهر والمخبر.
أذكر انى كنت ذات ليلة سامرا فى دار أحد الأصدقاء بمكة وكان عنده صحف منها "المصور" المصرى ، و"لا يف" الأمريكية، فبدا لى أن اعمل مقارنة بين الصحيفتين المشهورتين وقد تجلى لى أن عدد المصور ذلك أرقى وأجمل فى الرسوم والمظهر والمخبر من عدد لايف، وعرضت فكرتى على دكتور مثقف يحيط باللغتين العربية والانجليزية وتأمل العددين تأملا عميقا، فوافق على ما قلته كما وافق عليه صاحب الدار وهو رجل مثقف وتاجر مفكر .
هذه الصحافة المصرية المتفوقة كان لها اثرها البارز فى بعث اليقظة القومة فى مصر وفى غير مصر ايضا من بلاد العروبة . فانها سرعان ما تنبه المصريين الى ما يحدق بهم من اخطار فى الداخل والخارج . وترسم لهم طرق الاصلاح والنهوض على أساس إحاطتهم بما يجرى فى بلادهم وفى بلدان العالم وعلى أساس تفتيق ذهن المصرى وتوسعة معلوماته حيال كله وحيال ما يحاك
فى الظلام من أسرار دولية خطيرة ومفاهمات ومعاهدات مختلفة وبالجملة فان الصحافة فى مصر كانت وما زالت ركنا من أركان ايقاظ الوعي القومى وحارسا أمينا لمصالح مصر ورائدا من رواد مجدها الحديث واستقلالها ونهوضها الحثيث ولسانا منطيقا ذريا بالدعاية الحسنة لها وللعرب والاسلام
