تابع لما سبق نشره فى العدد الماضى
٣ - فكرة الالتزام :
وفى اطار من الموضوعية الهادئة الهادفة أترك القلم يسترسل فى التجاوب مع المحاضرة ويستطرد فى عملية تقويمها غير جانح الى الانتقاص أو التشهير ، ولكنها الايجابية المتواضعة الحريصة على أن لا يضيع صوت حى وضمير يقظ فى متاهات اللامبالاة والصمت .
ولنقف أمام قضية ( الالتزام ) التى أثارها الاستاذ أحمد جمال فى محاضرته . وبين يدى هذه الوقفة لا بد من ابداء ملاحظتين :
أولاهما : ان الاستاذ الفاضل ذكر فى محاضرته انه قرأ للاستاذ السديرى دعوته لادبائنا الى ( أن يعيشوا فى مجتمعهم ليكون -
لهم أدب هادف وليتحدثوا عن الالتزام فى الادب . وليعالجوا مشاكل الافراد من التاجر الى الفلاح ) الى آخره ، وان الاستاذ أحمد جمال قد علق على تلك الدعوة فى كتابه : ( مذكراتى ) بهذه الجملة : " انها دعوة جميلة تنم عن فكر نير وضمير حى وقلم مخلص ولكنى مجيب ايام : أعطنى صحافة واسعة الصدر أعطك أدبا هادفا وأدباء يعيشون مجتمعهم بكل حسناته وسيئاته ويكل انجازاته وتعسراته وكل مشاكله وقضاياه " .
ومن خلال هذه الجمل والتعابير تبدو لنا قناعة الاستاذ أحمد جمال بالدعوة الى الفكرة المطروحة ( فكرة الالتزام ) وان كان يعلق الانتاج فيها على توافر ( صحافة واسعة الصدر ) .
ومجرد الاقتناع فى رأيى حسن يدل عبر تجاوب الاستاذ مع التجدد الفكرى وروح
العصر ، كما انه يمثل انضواء تحت راية ( الالتزام ) اذ ليس من المعقول أن تظل البيئة الثقافية قوقعة ضيقة تختنق فيها همسات التجديد والابداع ، كما انه ليس من المقبول أدبيا أن يضرب نطاق من الجمود الفكرى على محاولات التفاعل مع مطالب عصر التطور السريع السائر فى وثبات الى مزيد من الطموح .
ولذا كانت قناعة الاستاذ وتسليمه بتلك الدعوة أمرين جديرين بالتسجيل
اما الملاحظة الثانية فان المنطق يقتضى أن نرى ونلمس ايجابية اخرى تتمثل فى تبنى تلك الفكرة المطروحة ، والقاء الضوء على جوانبها وتحليلها ثم محاولة الخروج من كل ذلك بمضمون متميز محدد يمكن ان يمثل اتجاها في الفن .
ومن هنا أريد أن انظر الى مدى الشوط الذى بلغه الاستاذ أحمد جمال فى تناوله لقضية ( الالتزام ) .
كيف طرح الاستاذ قضية الالتزام في محاضرته ؟
للاجابة على هذا السؤال أرى انه لا مناص من ايراد عبارات الاستاذ فى محاضرته فهو يقول : " الالتزام مطلوب لادبنا ، فديننا دين الكلمة الطيبة ، دين قول الحق ، دين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ، دين الامر بالمعروف والنهى عن المنكر . . اننى أعد رسالة الفكر جهادا وعتادا فى سبيل الحق والخير ، لا ترفا أو سمعة أو تكسبا حيث يجوز الكذب ويهون النفاق وتروق الخديعة . . ان رسالة
الفكر هى رسالة الانبياء ورسالة ورثتهم العلماء والأدباء الذين يفكرون بنظافة ويكتبون بشرافة هم اخوان العلماء . . ان أدبنا فى وطن العروبة والاسلام ، وطنهما الاصيل الخالد يجب أن يكون ملتزما بالحق والخير وبالمكارم والعزائم " .
هذا هو المضمون الذى جاء به الاستاذ وبادىء ذى بدء أريد أن أذكره بعبارة الاستاذ السديرى السابقة ، لالتمس سبيلا الى المقارنة بين تلك الالفاظ وهذه الجمل ، واذا سمح لى الاستاذ بالحكم بعد المقارنة فانى قد لا أجد حرجا من الادعاء بأن المفهومين للقضية المطروحة لم يكونا متساويين تماما ، فالاستاذ أحمد جمال صاحب مذهب فى التفكير تجلوه مؤلفاته وبحوثه التى لا اظن إنها تعنى بالمدارس والمذاهب الادبية المعاصرة عناية تهدف الى تحديد المضامين لها .
ومن هنا كانت ( فكرة الالتزام ) فى محاضرة الاستاذ كالجسم الغريب لان عباراته السابقة لم تحدد مضمونا فلسفيا أو نقديا للشعار الذى رفعه حينما قال : ( التزام مطلوب لادبنا ) مع أن هذه الدعوة مرتبطة كما هو معروف بفلسفة الآداب ونقدها ومذاهبها المختلفة ، ومن يرم التعرف على الجدل فيها فان مظانه ستكون تلك المراجع النفدية وكل ما يتصل بالدراسات الادبية
يضاف إلى ذلك ان الفكرة المطروحة لن تجد لها صدى أو قبولا أو تقديرا ما لم تقرن بقوة منطق يشرحها ويدعمها لتجد سبيلها الى الرواج والتجاوب فى دنيا الفكر والحياة إذا ما نظرنا الى بيئتنا الخاصة فاننا نجد ما
ذكرناه اكثر ضرورة واقوى مطلبا ، حتى تستطيع الفكرة ان تشغل الحياة الادبية عندنا فتؤتى ثمارها سلبا أو ايجابا .
يضاف الى ما سبق ان الاستاذ تناول القضية وكأنها فكرة سائدة لا تحتمل أخذا وردا وجدلا كثيرا تصدى لافتراضه والاجابة عليه كل من تناول ( قضية الالتزام ) وكان الاولى بالاستاذ ما دام يطرح دعوة أن يوفيها حقها من البحث والاستقصاء ، لانه قد يكون هنالك من يرى أن الالتزام يعنى التوجيه ، ومن يرى ان الالتزام يعنى كل ما هو ضد الحرية فى الفن والادب ، فماذا يكون الرد على مثل هذه الاثارة والاعتراضات ؟
ومهما كان الامر فلكى يتضح ما افتقدناه فى المحاضرة حول الدعوة الى الالتزام أرى من الخير ان ننظر - استطرادا - الى ما عند الآخرين الذين تناولوا قضية الالتزام ، ولنكتف بنموذجين احدهما لكاتب عربى والآخر لكاتب غربى يقتضى الاستئناس بالثقافة الانسانية أن ننظر فيه :
أ - لقد نشر الدكتور عز الدين اسماعيل (وهو استاذ ناقد ) فى مجلة العربى عدد ٩٥ عام ١٣٨٦ هـ مقالا تحت عنوان " فكرة الاحترام فى الفن والادب " جاء فيه :
١ - " المواقع المفهوم الالتزام قد ارتبط الى حد بعيد بمفهوم الادب ، نفسه ومدى علاقته بالحياة وبالدور الذى يقوم به الادب فى توجيه هذه الحياة " .
٢ - وان " فكرة الالتزام جاءت نتيجة لاحتكاك الاديب بمشكلات الحياة " .
٣- ويتحقق الالتزام عندما يقدم
الاديب للآخرين أعمالا ايجابية فى تأثيرها تمس حياتهم ومشكلاتهم مسا مباشرا " :
٤ - " ويتحدد الالتزام فى الادب بمدى ارتباط الاديب بقضايا الناس فى مجتمعه وما يتقدم به من حلول لهذه القضايا أو بمجرد التنبيه اليها ،
ويهمنا فى هذه المقتطفات طريقة عرض الفكرة ، وتحديد الالفاظ المنتقاة للتعبير عنها .
٥ - ولنمض مع صاحب المقال لنجده ينتقل الى الدفاع عن الفكرة ، فيذكر ان الذين يعادون فكرة الالتزام يحسبون أن التزام الاديب بقضايا الناس فى مجتمعه يعنى بالضرورة اشتغاله بالمشكلات العامة وأن هذا من شأنه ان يحط من جلال الادب ثم يدفع الكاتب ذلك بقوله : وهذا التصور خاطئ ، ويبرر هذا الحكم فى مقاله .
٦ - وفى ختام مقاله يتعرض للجدل النظرى الذى أثير حول الالتزام فيجزم بأنه جدل بين الايديولوجية والفن ، بين الفكر المحدد والفن الطليق .
وبمثل هذه الطريقة فى العرض - وهى هنا مركزة جدا - يمكن أن تلقى أية فكرة قبولا أو دفعا ونقدا ، وقد يقال ان المحاضر لم يكتب مقالة خاصة بدعوة الى مذهب ولكنى أعتقد انه طرح فكرة ودعا الى مذهب وهذان يوجبان عليه أن يشرح ويوضح ويفترض اعتراضات ويفندها ، وخاصة فى مجال التقويم لحركة أدبية معاصرة .
ب - ثم دعنا الآن ننتقل الى النموذج الثاني وهو يتمثل فى كتاب بكامله الفه
صاحبه الفرنسى حول قضية (الالتزام )، ويعد البعض انه أحسن ما ألف فى هذه القضية ، واذا لم تخن الذاكرة فانى أرجح أن بعض من يشتغل بشؤون الثقافة والفكر عندنا عرض تلخيصا لهذا الكتاب فى احدى صحفنا المحلية ، والعجيب انه لم يستطع أن يثير ضجة كالتى احدثها فى بعض البيئات الثقافية الاخرى ، ولذا فان ذلك العرض السابق لا أراه يعفينى من اقتطاف جمل من ذلك الكتاب للتدليل على توضيح الفكرة .
- يقول ذلك المؤلف الفرنسى " ان الكاتب هو فى موقف فى عصره اذ أن لكل كلمة صداها ولكل صمت ايضا " ومن هنا نعلم ان هذا الناقد يجعل اللامبالاة والسلبية مقابلين للالتزام يؤاخذ بهما الكاتب .
٢ - ويرى مرة اخرى ( أن مجرد اختيار الكتابة هو طريق الالتزام ) .
٣ - ويزعم ان " الكتابة هى طريقة معينة لارادة الحرية واذا ما بدأت فأنت ملتزم شئت أم أبيت "
٤ - وفى خلال كتابه نجده يفند كل ما أتى به دعاة الفن للفن من اعتراضات ، ليس أخرها أن الالتزام هو اغتيال للادب .
٥ - وهو اخيرا يؤلف فصول كتابه تحت عناوين :
ما الادب ؟ ما الكتابة ؟ لماذا نكتب ؟ لمن نكتب ؟
وقد سار فى كتابه هذا على نهج علمى يخاطب به العقل فتراه يثير الاعتراضات ، ثم يجيب عليها ويفند كل ما يختلف مع آرائه وافكاره ببراهين وأدلة منطقية وفلسفية قوية
وهكذا يكون شأن كل من يتصدى للتبشير بأى مذهب أو اتجاه .
وبعد ، فيبدو لى بعد هذه الجولة القصيرة التى أتاحتها لى محاضرة الاستاذ أحمد جمال اننا بحاجة ماسة الى استقلال فكرى قوى يثبت لتحديات العصر ويحل مشاكله ، ويزاحم فى مجال العظمة والاسر غيره ، حتى نستوعب هذه الثقافات الوافدة ونمحصها ونأخذ منها ما يغذى حياتنا الادبية المتطلعة . . كما يبدو لى اننا بحاجة الى أن يزدهر النقد الادبى عندنا ويتجه الى وجهة موضوعية علمية ذات سمات وخصائص متميزة ، وان يعنى هذا النقد بتقويم الانتاج الادبى على أساس المضامين والافكار التى تمس الادب والحياة وتوجههما وترسم المستقبل لهما ، وحينئذ قد لا تمثل أزمة الفكر والادب والنقد ظاهرة تبعث على القلق
( جدة )
