إلى القارئ
إن حرصنا على أن يستوعب كافة التونسيين عامة ، ورجال الثقافة والمربون خاصة ، ابعاد المعركة الفكرية من أجل الوجود الفردى والقومى الأكمل ، يملى علينا أن نميز عند الحديث عن وجوب إقامة نظام أصيل للتربية - بين التوسنة والتعريب
فالتونسية تقضى أن يهدف الهيكل الجديد لنظامنا التربوى إلى تجسيم كل مقومات الأمة وغرس العقيدة الوطنية فى نفس الشباب بحيث يؤمنون بأنهم يتنسبون إلى وطن له خصائصه الحضارية وله تاريخه وأمانيه فيعتزون بالانتساب اليه ويندمجون فيه ويستعذبون البذل والتضحية من أجل نصرته ومناعته . وهذا لن يكون ما لم يتم الاتفاق بين أهل الحل والعقد ورجال الفكر على محتوى هذه التونسة ، وما لم يتيسر ضبط مقومات الأمة التونسية ومعرفة خصائصها وما لم يشيد سلم القيم الروحية والاخلاقية الذى به يكيف الشباب أعمالها ومنه يستوحون سلوكهم وآتجاهاتهم .
و لا تنحصر التونسة كما يظن البعض فى دروس التربية المدنية بل هى تقتضى أن يعاد النظر فى كل المواد التعليمية والبرامج التثقيفية بحيث تكون الروح والمقصد والمنزع والاطار التربوى ترمى كلها إلى تأصيل الشباب فى وطنهم من دون مبالغة أو تعصب . وهذا صحيح بالخصوص بالنسبة لتدريس اللغة العربية والتاريخ والحغرافيا والفلسفة ، بل وحتى اللغات الأجنبية . وعلى هذا المعنى ننادى بتونسة برامج اللغة العربية مع ما قد يوجد فى هذا التعبير من غرابة فى الظاهر - مع العلم بأن خطوة هامة تم إنجازها ابتداء من الموسم الدراسى الحالى - أى أننا نطالب بأن تكون أغلب النصوص المختارة للتفسير والمطالعة منتخبة من كتب ودواوين تونسية ، تصور البيئة القومية وترسخ التلميذ فى وسطه وتحبب اليه أهله وتدفعه إلى الاعتزاز بقومه - على ما هم عليه من قوة وضعف - بل إنها قد تبعث فيه الحماس للمساهمة فى تقدم بلاده سياسيا أو علميا أو اجتماعيا . . . أما الآن فان التلميذ يتجاوز مرحلتى التعليم الابتدائى والثانوى وهو لا يكاد بحد فى برامج اللغة والأدب العربية ما يفيده بأن هذه البلاد انجبت ولا تزال أفذاذا فى الفقه وعلوم اللغة والقصة والشعر ، فيدخل الجامعة يتيما ثقافيا جائعا روحيا متلهفا إلى التهام كل ما يرد عليه من الشرق أو الغرب فيعيش منبتا مقطوعا من أصله رغم ما قد يحرزه من شهائد علمية ممتازة .
أما التعريب الذى هو مقوم من مقومات التونسة كالدين الاسلامى الحنيف فهو ضرورة حتمية ما دامت لغة البلاد التونسية هى العربية ولا بد من مجهود شجاع لتعريب مواد رئيسية كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة - التى كانت تدرس فروع كثيرة منها كالأخلاق وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التربية بالعربية فى سنوات التطبيق بمدارس الترشح وبالنسبة لذوى اللسانين أيضا ، فى عهد الحماية وإدارة السيد لوسيان باى بصورة أدق - وحتى العلوم الطبيعية - التى كانت تدرس فى بعض أقسام المدرسة الصادقية - الى جانب مدارس الترشيح - فى عهد السيد باى أيضا بله الخلدونية والشعب العصرية بالمعاهد الزيتونية - ..... على مراحل معقولة وفى نطاق سياسة قومية حازمة لتكوين الاطارات التونسية ، وما دامت دراسة اللغات الحية وخاصة اللغة الفرنسية واجبة حتى فى الابتدائى - على أساس انها لغة حية وحسب - فانه من الممكن فى أجل يمكن تصوره ، تدريس العلوم الصحيحة بالعربية على أن يتمكن الاساتذة والباحثون بما يكونون قد حذقوه من لغات حية من الاتصال المباشر والمستمر مع سير هذه العلوم فى الخارج ومواكبة قافلة الأمم المتقدمة فى هذا الميدان ريثما يدخلون فى طور الاكتشاف والانتاج .
والخلاصة فان التعريب إذا اقتضت بعض المعطيات التاريخية والبشرية والتربوية التمهل فى تعميه وشموله بالنسبة لبعض العلوم الصحيحة فانه لا يمكن اذا كنا مخلصين مع انفسنا وبارين بوطننا ان نتردد فى التونسة بل يتعين ان نحققها ونصبغ كل برامجنا بروح منها فى نطاق الجدوى والاعتدال .
