الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 289الرجوع إلى "الثقافة"

ألمانيا فى موقف الدفاع

Share

" ألمانيا في موقف الدفاع " عبارة توشك أن تكون من المتناقضات . فإن المانيا هي التي أخرجت إلي حيز الوجود الفكرة القائلة بأن " الهجوم خير وسائل الدفاع " ؛ والمانيا هي مبتكرة الحرب الخاطفة ، التي تكتسح وتدمر في أيام قلائل أو في أسابيع قلائل كل قوة أو عدة تعترضها ، والتي تستولي على المساحات الواسعة والأقطار الفسيحة في زمن وجيز . وألمانيا دخلت هذه الحرب بعدة عجيبة لم يشهد لها الزمان مثيلا ، كان لديها من المدافع والدبابات وأدوات الهجوم المختلفة عشرات ومئات الآلاف من القطع . حتى قال أحد قادة الأمم المتحدة إن الألمان قد حشدوا في هجومهم في صيف عام 1940 من المدافع عددا لم يسبق وجود مثله في العالم في أي وقت من الأوقات . وإلى جانب هذه العدة الضخمة عديد هائل من الجند قد

أحسن اختيارهم وتدريبهم علي استخدام تلك الآلات فكان الجيش الألماني في بداية الحرب يعمل كأنه آلة واحدة سخية يتحرك أجزاؤها بدقة وإحكام ، دون أن يعتريها خلل ، حتى لتوشك حركاتها ان تكون مسيرة طبقا لمواعيد وأوقات محددة . واندفعت تلك الآلة في خريف 1939 فاكتسحت بولنده في ثلاثة أسابيع ؛ ثم اندفعت في الربيع التالي فاستولت على دنماركه وتروج في سرعة مدهشة ؛ ثم بدأت اكتساحها الهائل في الميدان الغربي ، فلم تمض أسابيع حتى دانت لها الدول الغربية هولنده ويلجيكا ولكسمبورج وفرنسا . وفي ربيع العام التالي ) 1941 ( تقدمت تلك الآلة في دورتها الثالثة فلم تلبث أن اكتسحت البلقان حتى جزيرة كريد ، وأدمجت معها دول المجر ورومانيا .

جري هذا كله والجيش الألماني محتفظ بكامل قوته ،

بل لعله ازداد قوة وبأسا ، ولعله في صيف عام 1941 أقدر على الهجوم الخاطف منه في أي وقت آخر فإن اكتساح غرب أوربا والبلقان لم ينقص من عدده ولم يضعف من عدته شيئا . وفي ذلك الصيف الخطير - وربما ذكره الناس فيما بعد بأنه الزمن الذي قرر مصير الحرب - قذف النازيون بجيشهم الهائل - يعضده أعوان من المجر والفن والرومانيين والطليان - في ميدان ضخم لم يعرف العالم أكبر منه ، بل لم يعرف ما يدانيه ضخامة واتساعا ؛ قذفوا به في الميدان الروسي الممتد من البحر الأسود إلي المحيط الشمالي ، في جبهة طولها نحو ألفين من الأميال فكان ذلك الحادث تجربة هائلة لذلك الجيش الجبار ولحربه الخاطفة . وكانت أعظم تجربة للمبدأ الخطير : " الهجوم خير وسائل الدفاع " . فإن روسيا لم تكن بعد تريد الحرب ، بل لعلها كانت تفضل أن تظل بمعزل عنها ؛ ولكن هنالك احتمال أنها قد تغير على ألمانيا في يوم من الأيام ، فلابد من دفاعها بالهجوم عليها ، ولابد من التعجيل في هذا ما أمكن التعجيل ، فلا مناص من أن يوجه إليها الجبش الضخم في صيف عام 1941 بعد أن فرغ من واجباته وأعماله في الميادين الأخرى

فهل أبلي الجيش الجبار في ميدانه الجديد كبلائه السابق ؟ وهل ثبت لهذه التجربة الهائلة التى لم يمتحن بمثلها جيش من قبل ؟ وهل لقي من التوفيق مثل الذي صادفه في سهول بلجيكا وفرنسا في العام السابق ؟ أما أن الجيش الألماني قد أبلي في الميدان الروسي بلاء عظيما يفوق كل ما عمله من قبل ، فذلك أمر لا يحتمل الشك . ولكن من الظلم أن ينتظر منه في هذا الميدان الشرقي المترامي الأطراف أن يبلغ النتائج الباهرة التي أحرزها في الميدان الغربي ، وفي مدة من الزمن تعد بالأسابيع ، قبل أن يحل الشتاء الروسي ببرده وزمهريره . فالفرق بين الميدان الغربي والشرقي كبير . فهنالك الميدان محدود صغير المساحة ؛ وهاهنا ميدان واسع هائل يوشك ألا تكون له نهاية . وهناك جيوش

دول لم تكن تنتظر الحرب ، ولم تعد لها العدة اللازمة ؛ وها هنا دولة روسيا السوفياتية التي جاهر النازيون بمعاداتها ، ولم يخفوا عن العالم بغضهم لها ، فهي جديرة أن تتأهب لحربهم ، وأن تستعد لها أ كمل استعداد . ولذلك وجد النازيون أمامهم للمرة الأولى جيشا يستطيع أن يحاربهم وأن يوقع بهم الخسائر ، وأن يضعف من شوكتهم شيئا فشيئا .

ومع ذلك فقد مضي النازيون في هجومهم الخاطف ، واندفعوا في الميدان الروسي في ثلاث شعب رئيسية : في الجنوب نحو أوكرانيا ، وفي الوسط جنوب موسكو ، وفي الشمال نحو ليننجراد . وأخذ جيشهم الضخم يخوض المعارك الهائلة التى لم يسبق له أن خاض مثلها ، ويفتح الأقطار ويخضع البلدان ، ولكنه يفقد في كل خطوة شطرا من صفوة رجاله ، وجزءا غير قليل من عدته . ولا يستطيع منصف أن يصف الجيش النازي بالعجز أو التقصير . فلقد اندفع في الجنوب حتى بلغ أبواب القوفاز ، وانطلق في الميدان الأوسط حتى صار على أبواب موسكو ، وفي الشمال حتى أوشك أن يستولي على ليننجراد ؛ وكان هذا كله نجاحا عظيما ، ولكنه لم يكن كافيا ، وأدرك الألمان الشتاء دون أن يعدوا له العدة ، فاضطروا لأن يتراجعوا عن موسكو وعن القوقاز ، وأن ينتظروا الصيف .

وجاء الصيف التالي عام 1942 والجيش الألماني لا يزال مالكا لقوته ، قادرا علي هجومه الخاطف العنيف ؛ ولكنه اكتفى بأن يكون هجومه في روسيا مركزا في ميدان واحد يكون النصر فيه من الأعمال ذات النتائج الباهرة ، وذات الأثر الفعال في الميادين الأخري . فاختارت القيادة النازية للجيش العظيم عملا يعد متواضما بجانب الهجوم العام في الصيف السابق ، إذ اكتفت بأن يكون الهجوم الجديد مركزا في الميدان الجنوبي وحده ، وموجها للاستيلاء على القوقاز وآبار البترول ، وعزل هذا الإقليم  عن سائر روسيا . ومع هذا فإن هذا الميدان " المتواضع "

نسبيا كان عبارة عن جبهة عرضها أربعمائة من الأميال ، وقد اتسع بعد اختراق نهر الدون إلى مسافة ألف من الأميال .

ولعل هذا الهجوم في صيف 1942 أن يكون آخر هجوم كبير قام به الجيش الألماني . وقد مضي في فتحه وغزوه على مألوف عادته ، فاخترق نهر الدون ، وتوغل في القوفاز ، وكان عليه أن يخترق نهر الفلجا من أقرب نقطة عند بلدة تسمى اليوم ستالينجراد ، وكانت فيما مضي تدعي تسارتسن . أشرف الجيش الألماني علي هذه المدينة التي تحرس معابر الفلجا في أواخر شهر أغسطس ، ثم أخذ يتأهب للاستيلاء عليها . لم تكن هذه أكبر ولا أمنع من مدن أخري سبق للجبش النازي أن غزاها واستولي عليها في غير مشقة كبيرة ، وذلك في روسيا نفسها ، بقطع النظر عما غزا وفتح في أقطار وممالك أخري ؛ ومع ذلك فإنه قضى أسابيع طوالا - أسابيع كلها هول وويل يعجز العقل عن تصوره - دون أن يبلغ مأربه من تلك المدينة . فقد قرر الروس أن يدافعوا عن كل متر من الأرض ، وعن كل جدار وحجر في كل بناء من أبنيتها ، وألا يسلموا ركنا من أي شارع من شوارعها إلا بعد أن يدافعوا عنه دفاع المستميت . وانقضي شهر سبتمبر وأكتوبر سنة 1942 ، وليس من الإسراف في شيء أن يقال إن هذه الحرب العالمية الضخمة كانت مركزة حول بلدة واحدة متهدمة المنازل والمصانع على الضفة اليمني لنهر الفلجا ، هي بلدة ستالينجراد ، التي اضطر زعيم النازيين أن يعلن في اليوم الثامن من نوفمبر سنة 1942 أنه مكتف بما أحرزه منها ، وأنه لا يريد الاستيلاء علي سائرها ، " وكفى ما سفك من الدماء " .

كانت هذه الجملة ، التي فاه بها قائد النازيين ، عبارة عجيبة حقا ، وكان غريبا جدا أن تصدر من ممثل للقيادة العليا ، التى لم تتورع عن تدمير مدينة روتردام من غير أدنى سبب وبلا مبرر حربي ، ومن غير إثم ارتكبه

الهولنديون ! وكذلك لم تتردد تلك القيادة عن تخريب جزء كبير من مدينة بلغراد وغيرها من البلاد العزلاء ، التي لم يقترف أهلها ذنبا ، ولم يضمروا للنازيين شرا . ومع ذلك لم ينطق زعيم ألمانيا بتلك العبارة المأثورة : " كفي ما سفك من الدماء!" إلا حين عجز عن اختراق نهر الطونة بالاستيلاء علي ستالينجراد .

ويجوز لنا أن نعد تلك الجملة نقطة التحول في عقلية الحرب الألمانية ، ونقطة الانتقال من خطة الهجوم إلي خطة الدفاع . وقد صادف الارتداد عن ستالينجراد عملا حربيا آخر فيما وراء البحر المتوسط ، وهو التقهقر الألماني في الميدان الليبي . وكثير من الناس يزعم أن خطة الألمان الحربية في صيف 1942 كانت تربط بين الميدانين الروسي والليبي ، وأنها كانت ترمي إلي أن يتجه جيش الصحراء إلي الشرق الأوسط بعد أن يخترق الشام والعراق حتي يصل إلي بلاد  إيران ، وهناك يلتقي بالجبش الألماني المظفر الذي اخترق جبال القوفاز . وليس بمستبعد على خيال القيادة العليا الألمانية أن تعد حربها الخاطفة لقطع هذه الآلاف من الأميال ، وأن توجهها هذا التوجيه الضخم . ولكن ثلاثة أعمال عسكرية متقاربة الموعد ، أبادت ذلك الحلم ومزقته كل ممزق . أولها : معركة العلمين ، والثاني : تحرير ستالينجراد ، والثالث : نزول الحلفاء في بلاد المغرب وفتح ميدان إفريقي جديد . وهكذا قدر للجيش الألماني الجديد منذ شهر نوفمبر سنة 1942 أن يلزم خطة الدفاع ، وأن يتعلم فنا جديدا من فنون الحرب ، لعله لم يكن يعرفه ، أو لم يكن يتقنه ، ولكنه اضطر لأن يمارسه وأن يحاول بالتدريج إتقان هذه الخطط الجديدة ، ونستطيع أن نحس هذه الروح الجديدة في أعمال القيادة النازية ، وفي خططها الحديثة ، مثل التخلي عن روما من غير حرب ، وإعلان فلورنسا مدينة مفتوحة حرصا علي كنوزها الفنية ، فإن هذه النغمة جديدة في صدورها عن القيادة النازية ؛ وهي متفقة تماما مع خطة الدفاع التي تسير عليها

تلك القيادة الآن . وهذه الأعمال الدفاعية لا تمنع بالطبع أن يقوم الألمان بهجمات مضادة في أجزاء مختلفة من الميادين الثلاثة التي تدور فيها الحرب اليوم . ولكن ليس هنالك مفر من التسليم بأن الجبش الألماني قد اتخذ خطة الانسحاب منذ شتاء عام 1942 إلى اليوم . وقد تم له التخلي عن نصف مساحة إيطاليا ، وعن جميع ما احتله من أقطار روسيا ، وعن 1300 ميل مربع من أرض فرنسا ، وهو في كل هذه المدة يحارب متراجعا ، فلا يتخلى عن مساحة كبيرة إلا بعد حرب دفاعية ، قد تكون ضخمة كبيرة ، وقد تكون مجرد إلقاء عراقيل تعوق تقدم العدو ، وتيسر للحبش الألماني أن يتم تراجعه دون خسارة كبيرة . ولذلك أمكن لألمانيا أن تحتفظ بالشطر الأعظم من قواتها دون خسارة كبيرة . ولا يزال الجيش الألماني اليوم قوة قهرها يتطلب جهودا عظيمة

وهنالك سؤال يخطر للكثير ، وهو : أليس من الجائز أن الجيش الألماني يتراجع اليوم ويتخذ خطة الدفاع ، لكي يتيح لنفسه الفرصة ريثما يتم إمداده وتزويده بالعدة الكاملة ، وتدريب قوات جديدة لم يتم بعد تجهيزها وتدريبها ، ثم يقوم بعد ذلك برد القوات المهاجمة ، وباتخاذ خطة الهجوم مرة أخري ؟ إن الناس الذين اعتادوا من الجيش الألماني خطة الهجوم دائما يجدون من الصعب أن يسلموا بأنه قد قرر أن يركن إلي الدفاع .

ويساعدنا في الرد على هذا السؤال أن نتأمل الميادين الثلاثة التي تدور فيها الحرب الآن ؛ ففي ميدان نورمنديا يبدي الألمان اليوم مقاومة هائلة على ضفاف نهر الأرن حول مدينة كان ؛ وكأنهم يريدون أن يثبتوا ريثما تتاح لهم الفرصة لحشد جيش عظيم . وهنا يضحي الألمان بكثير من جنودهم وعدتهم لكي يحولوا دون توغل الحلفاء السريع في فرنسا . ومن الجائز أن يتصور المرء أن الألمان لا يزالون مصممين على القيام بهجوم كبير ضد الحلفاء ، بمجرد أن يتم لهم حشد القوة الكافية لمثل هذا العمل العظيم ،

ولكننا إذا نظرنا إلي الميدان الجنوبي في إيطاليا ، يصعب علينا أن نتصور أن القيادة الألمانية التي تراجعت في الشهر الأخير نحو مائتين من الأميال ، تنوي الكر مرة أخري علي جيش الأمم المتحدة واتخاذ خطة الهجوم لاسترداد إيطاليا . إننا نستطيع أن نقرر أن مثل هذا العمل ليس في برنامج القيادة الألمانية علي الأقل في الوقت الحاضر

وهذه الحال نري لها نظيرها بدرجة أعظم في الميدان الشرقي فهناك نري الجيوش الروسية هي البادئة بالعمل ، وهي التي تقرر الخطة وتختار مكان الهجوم . وقد بدأت هجومها بالتوغل في فلنده ؛ ثم أخذت تزحف في روسيا البيضاء ، وكانت هي الإقليم الروسي الوحيد تقريبا الذي لا يزال الألمان يحتلونه ، فلم تمض أيام حتى اخترقت خطوط الدفاع الألمانية ، واحتل الروس فيتبسك ، وحرروا منسك ، وأخذوا يخترقون حدود روسيا ) لسنة 1939 ( ، ويندفعون في اتجاه قلنا ، ووارسو ، والجيش الألماني ملتزم خطة الدفاع في كل مكان . ومن الصعب أن يتصور المرء أن يتخذ الجيش الألماني خطة أخري هنا . فإن الجيش الألماني اليوم خلاف جيش عام 1941 . وليس مما يقبله العقل أن تحاول القيادة الألمانية احتلال غرب روسيا مرة أخري ، فتوجه نحوها هجوما جديدا .

وبعد ، فإن أحدا لا يستطيع أن يزعم أنه قادر على التكهن بما تنويه القيادة الألمانية ؛ ولكن من الجائز أن يكون من أغراضها الآن تصفية الميدان الإيطالي ، والمقاومة جهد الطاقة في الميدان الشرقي ، وتركيز ما بقي لدى الألمان من القوة الهجومية في الميدان الغربي . لعل هذا أن يمكن الألمان من استبقاء جيوشهم دون خسارة كبيرة إلى ما بعد هذا الصيف ؛ ولعل شعور الملل من طول الحرب أن يجعل من الممكن ان تنتهي بصلح لا بتسليم

اشترك في نشرتنا البريدية