التاريخ سجل يطوي فيه أسرار الأجيال. قلبت بين صفحاته عن بعض حالات المرأة اليونانية الغابرة، فوجدت كل معجب مدهش. . .
وفي الحق ليس من المستغرب أبداً أن وجدت سيدات من الدرجة الأولى في المواهب العقلية بين ناس امتازوا بالثقافة العالية كاليونانيين
وسافوsapho الشاعرة اليونانية مثال من الأمثلة الخالدة لهؤلاء السيدات . لقد كانت ذات سطوة قوية على بنات جيلها ، وظهر نتاج مجهود ذاتها الموفقة بين تلميذاتها الكثيرات ، واشتركت السيدات رغبة فى درس الشعر ونظمه . وشجعهن على الاستزادة من ذلك مناصرة عدد كبير لهن من مشاهير الرجال الغيورين على ترقبة المرأة ، فاستحسنوا آن تتعلم تعليما عاليا وساعدوها على المطالبة بذلك بكل ما أوتوا من قوة
من هذا نرى أنه منذ العصور المبكرة نودي بتعليم المرأة وبالمساواة بينها وبين الرجل في اليونان
ففي القرن السابع قبل الميلاد ، تشبث كليوبليس cleobulus - وكان أحد حكماء اليونان السبعة - بأن ينال النساء التمرين العقلي الذي يناله الرجال ، واوضح مبدأه بتعليم ابنته كليوبلين Cleobuline التى صارت شاعرة ذات شهرة واسعة فيما بعد
وبيثجوراس Pythagoras الذى احتفل بإعلان مذهبه الفلسفي فى القرن السادس بجنوب إيطاليا ، اشار بوضوح إلى
ضرورة المساواة بين الجنسين، واخترع خطة لتعليم النساء، كان من شأنها أن جعلتهن منتجات فيما يتصل بتدبير المنزل، كما جعلتهن ممتازات في الثقافة الفلسفية والأدبية
وأشار أفلاطون بضرورة تعليم المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وسمح بقبول النساء لسماع المحاضرات الجامعية
وفي أيام الإسكندر شجع تحرير المرأة بشكل قوي، ومن ذلك الحين نرى أن النساء اشتركن في دراسة جميع الفروع العلمية دراسة عملية
وفي الإسكندرية خاصة، تعلمت بنات الأساتذة العلماء، تعليمً عالياً، فواصلن دراسة الفلسفة واللغة، وعلم الآثار القديمة، وقد اشتهر منهن كثيرات
وفي الفترة اليونانية الرومانية، نادى بلوتارخ بتعليم النساء، وقد انتشر التعليم بينهن في أيامه إلى حد بعيد محمود
وأسبابيا Aspasia وضعت موضعة تعلم علم البيان والفلسفة ، كعمل تظهر به المرأة فى المجتمع الاثيني ، واصبح الانتماء إلى جماعة نصيرات التعليم العالي بدعة سارية ، حتى ان كثيرات من نساء الطبقات الراقية الشريفة شغلن اوقات فراغهن بقراءة الفلسفة والشعر ، وحصلن على نوع من التعليم ، وإن لم يكن شعبيا ؛ فقد كان خصوصيا من محاضرين فنيين
ميول النساء في ذلك العهد
ظل الكثيرون يعتقدون أن الشعر كان المجال الطبيعى للمرأة ؛ يضاف إلى ذلك الفلسفة فى الدرجة الثانية ، إذ صارت الفلسفة الحرفة العامة التى أجدن تعلمها حينئذ . ولكن لعله لا يغيب عن ذهن القارئ والقارئة ، وصف مدرسة سافو الشاعرة فى جزيرة Lesbian الجميلة التى أو إليها الهيلينيات لدراسة الشعر والفن
إن جمال جزائر لسبوني الطبيعي، وحياة الطبقة الأرستقراطية المترفة، وتوقد ذكاء وحذق سافو نفسها، وحبها الخالص لصديقاتها
الفتيات من بنات جيلها ، كانت كلها مؤثرات قوية محبوبة فعالة لأهل زمانها
ليس من المستغرب إذن أن اكتسبت النساء حب الشعر وأولعن به، كما طبعن على الجاذبية لكل شيء جميل في الطبيعة في تلك البيئة؛ كما اكتسبن من مخالطتهن لفنانة مطبوعة، ومعلمة ماهرة مثل سافو أعلى الصفات
حتى لقد قيل: إنه وجدت ست وسبعين شاعرة من بين نساء اليونان القديمة، غير أنه لسوء الحظ لم يحتفظ لنا سجل
التاريخ إلا بأسماء قليلات منهن، بلغ عددهن تسع شاعرات؛ لقبن بآلهة الشعر الأرضيات
عندما اتسع المجال اكثر أمام المرأة فى عهد البطولة Heroic Age مهرت النساء فى استعمال النباتات فى فنون الحر ، وفى تطبيب الجروح . وعندما أصبح الطب علما ، اشتغلت النساء بفنون منه . وظهر اختلاف امرزجتهن واستعداداتهن وميولهن الطبيعية ، فمنهن من اشتغلت بالعلوم الطبيعية ، وعلم البيان والتاريخ واللغة ، وأحبت كثيرات علم النقد ، وانتشر بين بنات العلماء
ومن هذا يتضح فساد زعم من ظنوا أن مجال المرأة الطبيعي كان الشعر فحسب. ولعلنا نطمئن إلى هذا الحكم الذي يؤيده علم النفس المقنن في القرن العشرين
بنات الشاعرات
شاعرات اليونان اللائي سبقت الإشارة إليهن وشبيهاتهن، كوّن نهضة مباركة من بناتهن اللاتي ورّثنهن الميول القوية للفنون والآداب؛ فكان منهن الموسيقيات، والمصورات، والشاعرات، والفيلسوفات
والتاريخ وإن لم يدلنا على أنه وجد من بينهن نحتات للتماثيل أو مكونات لها ، يذكر الفضل فى اختراع هذا الفن إلى فتاة من كرثيا Corinthia
والأثر إن صح يروي الآتي : كانت الفتاة كورا Cora ابنة بوتادس Butades على وشك أن تودع حبيبها ، وربما كان الوداع الأخير ، لأنه كان معتزما القيام برحلة طويلة . واتفق ان خياله انعكس على الحائط ، إذ كان الوقت ليلا ويضئ المكان مصباح . فخطر للفتاة أن يحتفظ ولو بهذه الذكرى من حبيبها ، فرسمت محيط خياله فى حياء . قلما رأى والدها ذلك العمل ، دفعته غريزته الفنية إلى أن يملأه لها بالصلصال ؛ فكون تمثالا لحبيبها ، كان ناجحا بعد حرقه فى النار
المصورات
كانت لالا lalla من نساء مدينة سيزكس CyZicus من اقدر المصورات بالالوان ، وكان من اخص صفاتها السرعة فى العمل مثل الملكة فكتوريا، ومع ذلك لم ينقص ذلك
شيئاً من مزايا نتاجها، واعتبرت أول مصورة في وقتها حذقت الرسم بالألوان وعلى العاج. وكل ما لونته من الرسوم كان صوراً لسيدات
واخبرنا يلينىPliny انها صورت نفسها فى المراة وهى تجوز ، وقد عرضت هذه الصورة فى معرض نايل
وعثر على صورة أخرى لها في بمباي، وتمثل فتاة تجلس على مقعد يقرب من الأرض وتنظر إلى تمثال، وفي يدها اليمنى ريشتها ممتدة إلى صندوق ألوانها وفي يسراها لوح للتصوير. وثيابها منسدلة بأناقة حولها. ويحيط شعرها المتموج رباط لطيف يتدلى حول رقبتها وأكتافها، ويظهر على محياها مسحة تفكير وعلم تضيء أسارير وجهها الرقيق. فإذا صح أن هذه تمثل صورة (لالاّ) فإنها لابد كانت جميلة فاضلة
الفيلسوفات
تبغت كثيرات من بثات اليونان فى الفلسفة والحرف العقلية فى مدارس بيثجوراس " Pythagoras
جاء فى الأثر أن تأثير بيجوارس فى كارتون " Karton كان عظيما جدا ، حتى ان نساء المدينة احضرن ملابسهن الثمينة وحليهن من عقود واساور ، إلى هيكل هيرا Hera واودعنها كمنحة للفضيلة العائلية . والين على انفسهن منذ تلك الساعة ان يكون الحزم والحشمة رائديهن ، ولن نكون الثياب الثمينة بعد الان ما يتحلى به جنسهن ، مستعيضات عن ذلك بالعلوم العالية والثقافة .
لعمري لقد كان قسما شريفا ومقصدا ساميا صنعت به المرأة اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الحق. وهل من شك في أن العامل الأول في أي نهضة يتوقف على المرأة؟ إذن عليها أن تبادر بوضع بذور كل نهضة لتأخذ بيد الإنسانية مسرعة.
إن آثار النساء اللاتي تشربن مبادئ بيثجوراس تمت عن بسمعة يغبطن عليها في العالم اليوناني كله، حيث كانت نتائج تعاليمه بالنسبة لهن، مبادئ سامية لأخلاق المرأة، وعناية تامة بواجبات الأسرة، والنهوض بوسائل المعيشة الصحيحة في الحياة ولاسيما تربية الأطفال، مما لا يزال بعض آثاره باقياً إلى الآن.
وقد كان شعارهن " Saphrosyne " وهو تعبير يعنى الاعتدال والاعتداد بالنفس والحياء ، والفضيلة الزوجية ، وبالاختصار :
كل ما هو جدير بأن تكون عليه المرأة. وفيما يلي مثال مما يشير إليه ما ذكر:
زوج بيثجوراس
النساء اللاتى نشأ على مبادئ بيئجوراس على ما امتزن به من تلك الصفات العالية والقوى الإنسانية التى هيأن بها حياة ناجحة ، لم تضارع إحداهن TheanOثيانو ذات العقل الراجح زوج ييثوراس فلقد مزجت الفضيلة بالحكمة مزجا متناسقا ، بحيث مثلتها الآثار لها لأكأول امرأة ممتازة فحسب ، بل . مثلتها كالنموذج الأول لنشأة المرأة الذكية الصحيحة أيضا
نعرف عن حياة (ثيانو) بعض حوادث أخلاقية فقط، وهذا يجعلنا ننفذ إلى حقيقة أخلاقها. وأهمها الأقوال المأثورة التي قالتها في مناسبات خاصة:
سئلت مرة عما تتمنى أن تتميز به؟ أجابت ببيت من شعر هومر تمثلت به: (اكتراثي بالمغزل، واعتنائي بفراش زواجي) وسئلت مرة أخرى: ما الذي تسأل عنه الزوجة؟ أجابت: أن تعيش خالصة لزوجها
وسئلت أيضاً: ما هو الحب؟ قالت: الحب هو غرام النفس الوالهة حدث مرة أنها ألقت ردائها وظهرت ذراعها، فرآها رجل ودهش من جمال تكوينها، فقال: ما أجملها من ذراع! فقالت: ليست لنظرات العامة، وأسرعت بتغطيتها.
وقد استعار هذه الملاحظة بلوتارخ ، وغيره من رجال الدين من بينهم كليمنت بالإسكندرية ، كما استعارته المؤلفة البيزنطية أنا Anna ، وقد كانت ثيانو شاعرة وكاتبة نائرة ، وقد عثر على قليل من أعمالها الفلسفية والدينية يستدل منها على مقدار نمو مواهبها فى التعليل ، وفي مناقشة مسائل تربية الاطفال ، ومعاملة الخدم ، وكبت الحسد والعواطف الجامحة ، كل ذلك بأسلوب مؤثر حساس لطيف
ولقد كانت أمينة إلى أقصى حد، في نشر مبادئ وتعاليم زوجها كمعلمة وكاتبة، أما موتها وظروفه فغير معروف
هذه صفحة من صفحات المرأة اليونانية الغابرة، فلعمري هل يكون نتاج أختها اليونانية الحديثة، يونانية عصر النور والراديو، والحديد والنار، أشبه بنتاجها أو أرقى منه؟ هذا ما نرجوه
