المتعصبون للمستر ايليوت يقولون بدون تحفظ انه اكبر الشعراء المعاصرين واعظم النقاد على الاطلاق . والمتعصبون عليه يرون انه "موضة" زائلة وان شهريه هي من نوع شهرة الموضات في الازياء يلهج بها كل الناس مدة من الزمن ثم تصير موضه قديمة ويتركها كل الناس . والذين يتوخون الاعتدال والانصاف يعتبرونه "من اكبر الرؤوس الرجعية فى الفكر الحديث" .
اما هو فقد قال عن نفسه: اني انجلو - كاتوليكى فى الدين . كلاسيكي فى الادب . ملكى في السياسة .
يقال ان ايليوت متأثر بالادب الانكليزى فى القرن السادس عشر والسابع عشر وبالادباء الرمزيين الفرنسيين خصوصا laforgue
ان الذين قرؤوا نقد كتاب "السد" للمسعدى فى العدد الاخير من "الفكر" لابد ان يترددوا في قبول مثل هذا الرأي . قال الدكتور طبه حسن بثقة ان صاحب كتاب "السد" قد تأثر فيه بالبير كامو، فقال المؤلف ببساطة انه لم يقرأ مؤلفات البير كامو الا بعد تاليف "السد" بكثير ..
ان البحث في مسألة التاثير والتأثر في عصرنا هذا لمن اصعب الابحاث واقلها فائدة .
اذا علمت ان ت . س . ايليوت ولد ونشأ فى امريكا ، ودرس فى جامعة Harvard هناك على رجال من طبقة Sentayana و Babbitt وفى جامعة باريس على رجال مثل Bergson وفي جامعة اكسفور على كبار علمائها ، واتصل ببعض كبار المجددين في الادب مثلEzra pound وبجماعة التصويريين Imagists فى اوربا وامريكا اذا علمت هذا وعلمت ايضا انه اشتغل بتحرير مجلة criterion عدة سنين وهي من اهم المجلات الادبية في العالم ، وان اكثر مؤلفاته قد ترجمت الى اهم اللغات الحية ، وانه نال جائزة نوبل في الادب لسنة ١٩٤٨ . اذا علمت كل هذا تبين لك قلة فائدة
الكلام عن التأثر والتأثير بالنسبة لاديب من طراز ت س . ايليوت . توصف المجموعات الاولى من شعر ايليوت بأنها ثورة على الثقافة الغربية المعاصرة ، فيها ياس وتشاؤم واحتقار واشمئزاز من الرجل الغربى ، واعتباره تافها سخيفا لئيما خسيسا ، وبذلك يعللون تركه امريكا وتجنسه بالجنسية الانكليزية واستقراره بانكلترا حيث وجد من المحافظة والتقليد ما لم يجده فى امريكا وطنه الاصلى.
وتوصف المجموعات الاخيرة من شعره بأنها التجاء الى الدين والتصوف وجد فيه ايليوت راحة وطمآنينة ، اما القارىء المعاصر فلم يجد فيه شيئا من ذلك . هذه مسألة فيها نظر . لان قلق ايليوت في العهد الاول لم يكن من نوع قلق ابى العتاهية واشباهه ، وتشاؤه لم يكن من نوع تشاؤم المعرى ، بل كان قلقه ابعد وتشاؤمه اعمق . اما تصوفه فهو تصوف المفكر الواسع الثقافة المتمكن من الفلسفة وعلم النفس والانثرو بولوجيا ومقارنة الاديان ، فلا يفهمه حق فهمه الا من بلغ مستواه الثقافي او قاربه .
واما نظرياته الادبية واراؤه في النقد فهى مسائل شعلت عددا كبيرا من العلماء والادباء اكثر من ربع قرن ولا تزال تشغلهم .. قلما تنظر اليوم في فهرست كتاب جديد فى تاريخ الادب او فى النقد الادبى يصدر فى اوربا او امريكا ولا ترى فيه عدة اشارات الى T.S. Eliot هناك اتفاق او شبه اتفاق على ان نقده يمتاز بحسن التبصر ودقة التحليل وبراعة التعبير ، وهناك اجماع او ما يقرب من الاجماع على ان نتائجه لا تخلو من غموض .. فهو يؤكد ضرورة اتخاذ المقاييس الكلاسيكية مثلا ويحدد معاني الكلاسيكية ولكنه يبدو فى ذلك متناقضا .. ويقول ان الشعر ليس تعبيرا عن الذات بل خروجا او فرارا من الذات ويشرح ذلك ببراعة فائقة فتخرج من ذلك بنتائج كثيرة ولكنها نتائج غير واضحة ، ويقول ان القطعة الشعرية هي كل عضوى يحكم عليه بمقدار النجاح فى امتزاج العقل والعاطفة والاختبار .. "عضوى" ؟ " امتزاج " ؟ أفى علم الادب نحن ام في علم الكيميا ؟ ختررت قطعتين لاثنين من الشعراء العراقيين المعاصرين اعتقد ان احداهما تتمم الاخرى فى التماح اهم نواحي ايليوت ، اقول " فى التماح اهم نواحيه " ولا اقول "فى فهمه" لان مؤرخى الادب يعترفون بما فى فهم آرائه من الصعوبة ، والادباء لا ينكرون ما فى قراءة شعره من المشقة ، بل ان ايليوت نفسه كثيرا ما يكون مضطرا الى التعليق على ما يقوله من الشعر ...
١ سوق القرية
الشمس ، والحمر الهزيلة ، والذباب
وحذاء جندى قديم
يتداول الايدي ، وفلاح يحدق فى الفراغ :
"فى مطلع العام الجديد
يداى تمتلئان حتما بالنقود
وسأشترى هذا الحذاء"
وصياح ديك فر من قفص ، وقديس صغير :
"ما حك جلدك مثل ظفرك "و"الطريق الى الجحيم
من جنة الفردوس أقرب" والذباب
والحاصدون المتعبون :
"زرعوا ولم نأكل
ونزرع صاغرين ، فيأكلون"
والعائدون من المدينة : "يا لها وحشا ضرير !
صرعاه موتانا ، واجساد النساء
والحالمون الطبيبون"
وخوار ابقار ، وبائعة الاساور والعطور
كالخنفساء تدب : "قبرتي العزيزة ؛ ياسدوم !
لن يصلح العطار ما قد افسد الدهر الغشوم"
وبنادق سود ، ومحراث ، ونار
تخبو ، وحداد يراود جفنه الدامي النعاس :
"ابدا على اشكالها تقع الطبور
والبحر لا يقوى على غسل الخطايا ، والدموع"
والشمس فى كبد السماء
وبائعات الكرم يجمعن السلال :
"عينا حبيبي كوكبان
وصدره ورد الربيع"
والسوق يقفر ، والحوانيت الصغيرة ، والذباب
يصطاده الاطفال ، والافق البعيد
وتثاؤب الاكواخ في غاب النخيل
٢ لمن البلاد ؟
هدأ الفرات وهوم الثوار فعلام هذى الذكريات تثار
ماذا تبقت من معالم ثورة كبرى سوى ما تزعم الاخبار
عقبي الجهاد مغانم مسلوبة ومضارب منهوبة وبوار
هذى بقايا الثائرين هياكل يلهو بها التجويع والافقار
قسما لو ان على السواعد لمحة من سمنة ما عفها الجزار
آمنت انك قاهر جبار الموت يرعد منه والاقدار
وبأن عزمك قوة سحرية يحثو الرصاص لها وتخبو النار
وبأن وعيك ثورة يعنو لها جيد الزمان وينحنى الاعصار
مهج الضحايا الداميات شواهد للشعب تشهد انه جبار
يا جار ! هبنا لهبة يا جار ! ملء الثرى زيت ، فأين النار ؟
أممت زيتك ، والعراق مؤمم فيه الشقا والجهل والافقار
هبنا اللهيب نهبك أروع غضبة هى للشعوب الحائرات منار
الشعب يطحنه البلاء وتحته ذهب يسيل مجاريا ونضار
وعلى ظهور الكادحين بأمتى رفعت لمصاصى الدماء ديار
غرقت بلادى فى الظلام ومن سنى أبصارنا تتألق الانوار
الزيت من عرق الشعوب مقطر ومن الجفون تفجر الآبار
ياجار ! هات يديك فالشرق ارعوى فاليوم لا غبن ولا استئثار
القطعة الاولى تذكرنا فى الحال بشعر ايليوت المعروف فى كتب المنتخبات . فيها اسلوب التصويريين الذى يعدد الاشياء كما ترى ويذكر الاقوال كما تسمع وفيها هذا "الكل العضوى" الذى يدعو اليه ايليوت رغم ما يبدو فيها من التفكك لاول وهلة، وفيها هذا التكرار المعبر الذى برع فيه ايليوت . تكرار لفظة "ذباب" فى القطعة الاولى هو ابلغ واقوى من استعمال مرادفات الوسخ والقذارة.
وفي مطلع القطعة الثانية نلمح شيئا من التهكم اللاذع الذي برع فيه ايليوت غير ان تهكم ايليوت هو تهكم مهذب مضبوط والآخر تهكم فيه شدة وعنف ؛ وتذكرنا القطعة الثانية بشعر ايليوت من حيث احتياجها الى بعض الشرح والتعليق ساسة العراق الداخلية والخارجية وحياة زعمائها ومسألة البترول و"الجار" المستنجد به الخ . وهي بعد قطعة كلاسيكية الشكل وذلك شرط اساسى عند ايليوت .
