منذ عشرين شهرا تضطرم الحرب في الشرق الأقصي ، بين الصين واليابان ؛ وقد استحالت هذه الحرب التي لم تعلن حتي اليوم بصفة رسمية ، والتي بدأت في صورة حملة تأديبية تقوم بها اليابان ضد الصين . إلي معركة شاملة تستغرق قوي اليابان ومواردها ؛ ومع ان الجيوش اليابانية استطاعت ان تستولي على معظم الثغور والعواصم الصينية الكبرى ،
مثل بكين وشنغهاي ونانكين وهنكاو وكانتون، وان تحتل معظم المناطق الساحلية، فإن الجيوش الصينية الوطنية، ما زالت تقاتل الغيرين بثبات، وتعرقل تقدمهم جهد طالتها وقد كانت اليابان تظن حينما جردت حملتها على الصين في يوليه سنة ١٩٣٧ بحجة اعتداء حاميه بكين على بعض الهنود اليابانية ، أن الأعمال العسكرية لن يطول أمدها ، وانها
متى استولت على شنغهاي اعظم الثغور الصينية، ونانكين مركز الحكومة الوطنية، فإنها تستطيع أن ترغم الماريشال تشانج كايشك، زعيم الصين الوطنية، وروح المقاومة الحقيقية للغزو الياباني ، على قبول الصلح الذي تري أن تفرضه على الصين تمهيدا لتحقيق اغراضها الاستعمارية ، وبسط نفوذها على الصين كلها
والواقع أن الحرب التي تشهرها اليابان على الصين ، لم تكن سوى خطوة جديدة في تنفيذ خطتها المرسومة لاستعمار الصين ؛ وقد بدأت هذه الخطة بصفة عملية في سنة ١٩٣١ حينما غزت اليابان إقليم منشوريا واقتطعته من الصين ، وأقامت فيه دولة صورية تحت حمايتها هي دولة ( منشو كيو ) ؛ ثم أخذت من ذلك الحين تتوسع في احتلال الأقاليم الصينية المجاورة ؛ ولم تخف اليابان خطتها الاستعمارية الشاملة ، بل صرحت غير مرة أنها لن تسمح للدول الغربية بأن تعمل علي توسيع نفوذها في الصين ، ووجهت إليها شبه إنذار بكف يدها عن التدخل في شؤون الصين ، ومحاولة استغلالها ، وهو ما فسر يومئذ بأنه نوع من السيادة الاقليمية تريد اليابان أن تطبقه على الصين تشبيها بمبدأ مونرو الأمريكي؛ ومضت اليابان في تطبيق خطتها بصورة عملية فاحتلت أقاليم الصين الشمالية في سنة ١٩٣٦ ، وأقامت بها حكومة صينية مستقلة مركزها في بكين ؛ وانذرت حكومة الصين الوطنية في نانكين بوجوب الاعتراف بهذه الحكومة الجديدة ؛ وهي ترمي بذلك إلي تمزيق الصين إلي وحدات اقليمية متعددة ، كما كانت قبل اجتماع كلمتها واتحادها تحت لواء الحكومة الوطنية التي حققها حزب الكومنتائج ( الحزب الوطني ) وعلى رأسه الماريشال تشانج كايشك في سنة ١٩٢٨.
ولكن الحكومة الوطنية رفضت أن تذعن لتهديد اليابان ووعيدها ، فانتهزت اليابان أول فرصة لتشهر الحرب
على الصين الوطنية ( الصين الجنوبية ) إرهابا لها وإرغاما ؛ ولكن الصين الوطنية هبت للدفاع والمقاومة ، ولما حققت اليابان مرحلة ظفرها الاولي بالاستيلا ، على بعض الاقاليم الوسطى وتغر شنغهاي ، اعتقدت امها تستطيع ان تملى شروطها على الصين ، فوجهت إلي الماريشال تشانج كابشك بواسطة السفير الألماني في الصين الشروط الآتية : ( ١ ) علم اتفاق اقتصادي تشترك اليابان تقتضاه في استغلال موارد الصين . ( ٢ ) انضمام الصين إلي ميثاف مكالحة الشيوعية ( ٣ ) إنشاء حاميات يابانية دائمة . ( ٤ ) إنشاء مناطق حرة مجردة عن التسليح ( ٥ ) إنشاء حكومة مستقلة في منغوليا الداخلية ( ٦ ) ان تدفع الصين لليابان تعويضا عن الحرب .
كان ذلك في بناير سنة ١٩٣٨ ، أعلى منذا كثر من عام والحرب لازال فيدايتها ؛ ولكن الصين رفضت هذه الشروط الرهقة واستمرت في المقاومة ؛ وضاعنت اليابان من جهة اخري جهودها العسكرية ، واتسع نطاق الحرب حتى شمل مناطق الصين الساحلية كلها ، وهي أغي مناطق الصين وأهمها من الوجهتين العسكرية والاقتصادية ، وتوغلت الجيوش اليابانية في داخلها ، واضطرت ان تحتل مساحات كبيرة منها حسبما يبدو من الخريطة النشورة ؛ ومع ان الجيوش الصينية لم تفو علي رد هذا الغزو المنظم الذي تؤازر القوي والاستعداوات الفنية الكبيرة ، فأمها استطاعت ان تكبد الحيوش اليابانية خسائر فارحة ، وان تجعل تقدمها محفوا بأشد الصعاب ، وهي ما زالت تقاوم حتى اليوم بصورة مستمرة ، وإن نكن غير منتظمة
ولم يكن من السهل على اليابان أن تستمر في الاضطلاع بأعياء هذه الحرب الكبيرة إلى ما لا نهاية ، خصوصا وهي ثم تستطع أن تصل إلي هدفها الأصل وهو محطيم المقاومة العسكرية الصينية ، ولذلك نراها تعود فتعرض مند اسابيع قلائل على الصين شروطا جديدة المصلح ، وبراها تعدل
بالأخص عن إصرارها القديم في عدم الاعتراف بصفة المارشال نتاج كايشك ومفاوضته بصفته ممثلا للصين الوطنية وإليك نص هذه الشروط:
أولا - أن تعترف الحكومة الوطنية الصينية بحكومة منشوكيو ونظامها الحالي
ثانيا - أن يكون للبابان الحق في أن تضع حاميات عسكرية في انحاء الصين
ثالثاً - أن تحتل منغوليا الداخلية لكى تتخذها قاعدة لمكافحة البلشفية
رابعاً - أن تنضم العين إلى ميثاق مكافحة الشيوعية.
خامسا - أن تمنح الصين اليابان امتبازا باستغلال موارد الصين الطبيعية ، وان يعقد بينهما تعاون اقتصادي وثيق
وهذه الشروط ليست في جوهرها أخف وطأة من سابقتها ، وإن كانت اليابان تغفل فيها طلب التعويض الحربي ، وهى ما زالت تحتفظ في مجموعها بنفس الغاية التي ترمى إليها اليابان، وهي القضاء على استقلال الصين والتمهيد لاستعمارها ؛ ومن ثم فإن الماريشال تشانج كايتك قد رفض المفاوضة على أساس هذه الشروط بكل قوة ، وأبده حزب الكومنتائج كله ، وأعلن أنه سيستمر في المقاومة حتى تعترف اليابان باستقلال الصين ووحدتها
ويعتمد الماريشال تشاج كايشك في موقفه، فضلا عن المقاومة العسكرية، على عدة عوامل وظروف أخرى ، قد تنتهى في المستقبل القريب بإرغام اليابان على تعديل موقفها إزاء الصين
اليابان وروسيا
وأولي هذه العوامل وأهمها هو تخوف اليابان من روسيا السوفيتية وخططها ، خصوصا بعد أن طالت الحرب الصينية ، واتسع مداها واشتدت وطأنها على موارد اليابان العسكرية والاقتصادية . وروسيا ترقب سير الحرب الصينية باهتمام ، وتشجع الصين على المقاومة ، وقد تعاونها بالمال والذخائر ، وترجو أن نبهك هذه الحرب الطويلة قوي اليابان ، وتستنقد مواردها ؛ واليابان من جهة اخري تخشى إذا وقعت حرب عالية قريبة ان تلقي روسيا عدوها الطبيعي منهوكة القوي والموارد ، وقد ظهر ضعف اليابان إزاء روسيا في الواقع في حادثين ، وقعا أثناء الحرب الصينية ، واضطرت أن تنزل فيهما عند إرادة روسيا أولهما حادث " تشائح كوفنج " جزيرة نهر الأمور الفن نتزعتها البلبان عنوة من الروس ، وحاولت الاستيلاء عليها ، فعاد الروس واستردوها بالعنف ، وفرضت موسكو إرادتها على اليابان في وجوب فصل الحدود بين الدولتين على أساس
المعاهدات القديمة التي رفضت اليابان أن تعترف بها أولا والثاني مشكلة المصابد في مياه جزيرة سغالين التىملك روسيا نصفها الشمالي وملك اليابان نصفها الجنوبي فقد كانت اليابان تتمتع بحق الصيد في المياه الشمالية للجزيرة منذ معاهدة بورت ارتر ، فلما انهت مدة التعاقد ابن روسيا ان تحدده لليابان ، ولما كانت اليابانتعلق تعلق على هذا الحق بعض الاعتبارات العسكرية ، فقد الحت على موسكو في التجديد فرفضت
ولو لم تسكن اليابان مشغولة بحرب الصين لكان من المشكوك فيه ان تسلم بوجهة نظر موسكو بهذه السهولة .
ومن جهة أخرى فإن ألمانيا خليفة اليابان في ميثاقها ضد الشيوعية ، أو بعبارة أخرى ضد روسيا ، تخشى أن تضعف اليابان في حرب منهكة كالحرب الصينية إلى الحد الذى لا تستطيع معه أن تعتمد ألبانيا على معاونتها ضد روسيا إذا قامت حرب عالية ، ومن ثم فإن السياسة الألمانية تبذل جهدها لحمل اليابان على اختتام الحرب الصينية وعقد الصلح مع الصين
معاهدة الدول التسع
وهناك العامل الدولى وهو لا يقل أهمية وخطورة ؟ ذلك أن الدول ذات المصالح الكبرى في الصين، وفى مقدمتها أمريكا وانجلترا وفرنسا، أخذت تتحرك المقاومة اليابان بعد أن طال سكونها
فمنذ نشوب الحرب الصينية توجه الدول نظر اليابان إلي . سالخها التي أضرت بها الحرب انما ضرر ، وتقدم إليه مد ) الاحتجاج المتوالية ، بيد امها لم تقم في ذلك بعقل مشترك ؛ ولكن امريكا وانكلترا وفرنسا رأت الجديد أن تقوم لدي البابان بمسمي مشترك ، فتلفت نظرها إلي خطورة الحال ، وتحذرها من التماري في عملها ؛ وكانت
أمريكا هي البادية بتقديم مذكرة احتجاجها ثم تليها بريطانيا العظمى ففرنسا ؛ ومضمون هذه المذكرات واحد وخلاصتها أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا ، لا يسعها إلا أن تذكر اليابان بأن عملها في الصين يناقض معاهدة الدول التسع ، وأن ما يبدو من تصريحاتها الرسمية وتصرفاتها الفعلية يدل على أنها ترى إلى تخزيق الصين ومحاولة استعمارها، خلافاً لما نصت عليه الماهدة من وجوب احترام وحدة الصين واستقلالها ، وأن الدول الثلاث لا يسمعها أن تتسامح في نقض المعاهدة من جانب واحد ، وأن كل تغيير في نصوصها وأحكامها يجب أن يتم بالاتفاق مع جميع الدول الموقعة عليها ؛ وقد أفرغت المذكرات الثلاث في لهجة قوية حازمة
ومعاهدة الدول التسع التي اشير إليها ، هي المعاهدة التي عقدت في سنة ١٩٢٢ في واشنطون بين أمريكا ويريطانيا العظمي وفرنسا واليابانات والصين وإيطاليا وهو لنده والبرتغال ، ونص فيها على وجوب احترام سيادة السين واستقلالها ووحدتها الإقليمية والإدارية ، وتقديم كل فرصة ممكنة لمعاونها على التهوض والتقدم ، والمحافظة على مبدأ الفرص المتساوية في التجارة والصناعة لجميع الأمم في الصين ، وعدم انهاز الدول فرص الأحوال في الصين للحصول منها على حقوق وامتيازات خاصة
وقد ردت اليابان علي كل من الدول الثلاث بمذكرة . خلاصها ان اليابان ترفض بحث مسألة الشرق الأقصى في مؤتمر دولي ، ولكنها على استعداد المفاضة مع الدول ذات الشأن في وضع نظام جديد للصين ، لأن النظام الحالي لا يتفق مع سير الظروف فضلا عن أنه نظام شبه استعماري ولم تقف الدول الثلاث الثلاث في سبعها عند الاحتجاج النظري ، ولكن امريكا وبريطانيا بدأنا يعاونة الصين على مقاومة اليابان بصورة عملية ، ففتحت كل منهما اعتمادات
مالية كبيرة بعقد قروض الصين الوطنية تمكنها من شراء الذخائر والعدد اللازمة ، وينتظر أن يبدو أثر هذه المعاونة فى اشتداد المقاومة السينية وثباتها.
وقد حدث أخبرا حادث جديد بؤذن باتساع الأعمال العسكرية البابانية من جهة ، ويؤذن يتفاقم الخلاف بين البابان وبين الدول الغربية من جهة أخري . ذلك أن البابان احتلت فجأة جزيرة هينان الصينية الواقعة بخط الهند الصينية الفرنسية ، وعلى مقرية من هو شج كح البريطانية وجزائر القلبين الأمريكية . وقد احتجت انكلترا وفرنسا على هذا الاحتلال ، وردت اليابان بأمها تختلل الجزيرة بصفة مؤقتة ولضرورات عسكرية ، وانها يخلو عنها مني سمحت الظروف بذلك ؛ علي أن مثل هذه الوعود لا يمكن إن يركن إليها ، ومن ثم فانكلترا وفرنسا تنظران إلي احتلال الجزيرة بعين الريب وتتوجسان منه شرا على مصالحهما وسيادتهما في الأراضي والمستعمرات القريبة منها ؛ خصوصا إذا صح ما يقال من أن احتلال البابان للجزيرة إنما هو تنفيذ لسياسة الضغط التي تتبعها الدول الدكتانورية إزاء الدول الديمقراطية ، واليابان كما نعلم حليفة محور برتين روما
وهذا يتسع مدي النضال العسكري والسياسي ، ونري اليابان نفسها أمام مغامرة عسكرية خطيرة لانهاية لها ، ويجد الدول الغربية نفسها أمام مشاكل جديدة في الشرق الأقصى . وقد ادر كان اليابان ان احتلال الأراض وحده لا يكي لإحراز النصر ، ولا بد لها من أن تقضي على المقاومة الصينية ، ولكن هذه غاية دونها صعاب جمة . والصين قطر عظيم ، بل قارة شاسعة الانحاء ، فهل ستمضي اليابان في جهودها العسكرية لكي ممثل من الصين مناطق اخري أو لكي تحتلها جميعا ؟ وهل تمضي في تحدي الدول الغريبة إلي النهاية ؟ وهل تقوي مواردها على المضي طويلا
في مثل هذه المغامرة؟ أم ثراها ، احتفاظاً مركزها المسكرى ، وضنا بتبديد قواها على هذا النحو ، تجنح في خطتها إزاء الصين والدول إلى سياسة أكثر اعتدالا ؟ هذا ما قد يوضحه لنا المستقبل القريب .
