1-
ربما كانت أهم موازنة أثيرت بين الشعراء في تاريخ النقد العربي المقارن هي الموازنة بين أبي تمام والبحتري ، فقد مثل كل منهما في الفن وصناعة الشعر منزعا يخالف منزع صاحبه . وقد وقف النقاد من العرب إزاء هذين المنزعين المتباينين في صفين متقابلين : قوم يتعصبون لأبي تمام على البحتري تعصبا شديدا ، حتى ليرضوا منه جميع أخطائه الفنية ؛ وقوم يتعصبون للبحتري علي أبي تمام فيرفضون حسناته ويتعلقون بسيئاته ، مشيدين بفن البحتري
الذي لم يفارق عمود الشعر العربي ، إذ كان يسير علي الدروب القديمة محتديا سيرة الأقدمين وأساليبهم الموروثة ، على العكس من أبى تمام الذي كان ينحرف عن تلك الأساليب الموروثة وما ينطوي فيها من مناهج محفوظة ، إذ كان يدخل الفلسفة في الشعر على أنها شيء أساسي ، ولا يكتفي بها ، بل كان يضيف إليها زخرفا من البديع والتصنيع .
وقد نشبت معارك جدل كثيرة حول فن الشاعرين ، وخلفت هذه المعارك كثيرا من الكتب والؤلفات التي تعني بالدفاع عن فن الشاعر ومنهجه في صناعة شعره ، ككتاب الصولي عن أبي تمام ؛ وتارة أخري تعنى باتهام الشاعر وتزييف فنه ، فتتحدث عن سرقاته وأخطائه ككتاب بشر بن تميم في سرقات البحتري . وقد ألف الآمدي في القرن الرابع الهجري كتابه " الموازنة بين
أبي تمام والبحتري "، فاستعان بأعمال من سبقوه من أمثال الصولي وبشر بن تميم في إحكام الموازنة بين الشاعرين ، وضبط المقاربة بين فنيهما وصناعة كل منهما ، بحيث لا نبالغ إذا قلنا إنه أطرف كتاب يفسر ما كان بين النقاد من صراع عنيف في التعصب للشاعرين .
وقد بدأ كتابه بالحديث عن ذلك المذهبين اللذين قاما في تاريخ الشعر العربي ، وهما مذهبان مختلفان من حيث فهم الشعر ونقده ، ثم من حيث صنعه وعمله . أما أولهما فمذهب المجددين أصحاب المعاني والفلسفة والبديع ، وهو مذهب أبى تمام الذي يفهم الشعر على أنه تعبير عن زخرف حسى من بديع ، وزخرف عقلي من ثقافة وفلسفة ، وقد استطاع تحت ضوء هذه الفكرة أن يحدث في الشعر العربي مذهبا جديدا من التصنيع ، فالشعر ليس تعبيرا عن وجدان فقط ، بل هو تعبير قبل كل شيء عن عقل وفكر دقيق وفلسفة ، وهذا التعبير لابد أن يخرج في شكل أنيق وزخرف بديع ، وهذا هو معني قول الآمدي في السطور الأولى من كتابه : " إن من يفضل أبا تمام على البحتري هم الشعراء أصحاب البديع ومن يميل إلي التدقيق وفلسفي الكلام . . والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة " .
وهذا المذهب كان يقابله مذهب آخر ، هو مذهب أصحاب الكلاسيك " أو مذهب المحافظين على الأصول الموروثة . وقد مثل البحتري هذا المذهب تمثيلا دقيقا ، إذ كان بدويا في نشأته فلم يستطع ان يستخدم الثقافة والفلسفة في شعره أو أن يحترفهما في صناعته ، كما هو الشأن عند أبى تمام ؛ وهو أيضا لم يستطع أن يستخدم أدوات البديع وأن يحترف صناعته على نحو ما كان يصنع أبو تمام ؛ لذلك كله ارتد إلى القيثارة القديمة ، قيثارة البدو الرعاة ، يحاول أن يستخرج منها أصواتا معجبة يتلافي بها ما يشعره من نقص في أدوات الفكر الجديد .
أو نقص في أدوات البديع الحديث ؛ وهذا هو معني ما يقوله الآمدي في أوائل كتابه ، من أن البحتري أعرابي الشعر على مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف ، وأنه كان سهل الكلام وقريبه ، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة ، وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق
وليس من شك في أن قيام هذين المذهبين المتباينين في صناعة الشعر العربي وعمله كان موضع طرافة في تاريخ أدبنا . غير أن نقادنا للأسف لم يثيروا الحديث في المذهبين إثارة واسعة ، فقد ظلوا في كثير من جوانب حديثهم عنهما يحتكمون إلي حسن في بيت وخطأ في آخر ، ومخالفة لغوية أو مخالفة أسلوبية ، ويجعلون ذلك أساس الحكم على الشاعر وفنه . ويعجب الناقد الحديث إذ يراهم يعدلون عن السؤال المفتوح في الموضوع ، وهو هل يحسن بالشعر أن يخضع للفلسفة أو لا يحسن ! وإذا كان يحسن فما مدى ذلك وما مظاهره عند شاعر كأبي تمام ؟ لقد كان من الممكن أن تكون هذه مسألة كبري ، وأن تؤلف فيها كتب منفصلة تعنى بها عناية واسعة ، فتبحثها من جميع جوانبها مستنيرة بما صنعه الشعراء من أمثال أبي تمام ومن خلفوه كالمتنبي وأبي العلاء ؛ غير أن النقد العربي عامة لا يعني بالبحث في الشعر بحثا واسعا في شكل نظريات كبرى تناقش مناقشة عميقة . وقد كان من آثار ذلك أن نجد نقصا دائما في تصوير النقاد لمذهب الشعراء تصويرا دقيقا .
ونحن نعود للآمدي لنري كيف قارن بين هذين المذهبين ، وهل احتكم في مقارنته إلى البحث العام في فن الشاعرين ، أو انه رجع إلي مسائل جزئية في النصوص ، تاركا للدراسة العامة والنظرة العميقة ؟ ولعل من الطريف أنه أفصح عن منهجه في أوائل كتابه إذ يقول : " ولست أفصح بتفضيل أحدهما علي الآخر ، ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما ، إذا اتفقتا في الوزن والقافية
وإعراب القافية ، وبين معنى ومعنى . فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة ، وفي ذلك المعنى ، ثم احكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علما بالجيد والرديء ، ونري من ذلك ان الآمدي سيقارن بين الشاعرين في القصيدتين تتفقان في وزنهما ورويهما وإعراب الروي ؛ وهو لا يجدد في هذا المنهج ، إنما يرجع بنا إلي الطريقة القديمة المعروفة في الموازنة بين الشعراء ؛ فنحن نعرف أن امرأ القيس وعلقمة حين احتكما إلي زوج الأول أيهما اشعر ، طلبت إليهما قصيدتين تتفقان في الوزن ، والروي . فالمنهج الذي يحتكم إليه الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري منهج معروف منذ العصر الجاهلي وقد كان الشعراء من القدماء حين يتهاجون بهذا اللون من القصائد المعروف باسم النقائض ، يشترطون على أنفسهم حين يردون على خصومهم أن يلتزموا نفس الوزن الذي صنعوا عليه قصائدهم ، كما يلتزمون نفس القافية .
وإذن فالآمدي يستعير منهجه في الحكم بين أبي تمام والبحتري من عمل الشعراء القدماء أنفسهم ، وما شاع بين النقاد من أن الموازنة الدقيقة لا تتم بين الشاعرين إلا في قصيدتين تتفقان في وزنيهما ورويهما ، ولكن هل هذا المنهج سليم أو هو منهج مدخول ؟ . الحق أن النقاد من أمثال الآمدي حين فزعوا إلي هذا المنهج ضيقوا على أنفسهم وعلي الشعراء . وقد يكون من حق الشاعر أن بقيد نفسه بما يشاء من قيود ليثبت مهارته وتفوقه على خصمه ؛ أما الناقد فينبغي أن يكون أكثر حرية ، فربما تفوق شاعر على آخر في قصيدتين اتحدتا وزنا وقافية ، ومع ذلك فزميله يتفوق عليه في قصائد أخري . وليس من شك في أن الآمدي كان يحسن به أن يفكر في قواعد للنقد المقارن أعم من الاتحاد في الوزن والروي . على أن الشيء الذي يلفت النظر حقا هو أنه سها سهوا غريبا حينما وضع هذا الميزان للمقارنة بين الشاعرين ، لأن أبا تمام
والبحتري لم يقم بينهما ضرب من الصراع الفني على نحو بشبه ما حدث في النقائض بين جرير والفرزق أو جرير والأخطل . ولسنا نرتاب في أن هذا السهو منه دليل على أن المقارنة بين الشعراء لم تكن قد وضعت لها مناهج واضحة حتى عصر الآمدي ؛ وهو يدل من طرف آخر على أنه حين بدأ كتابه لم يكن يعرف كيف يقارن بين الشاعرين ، ولا كيف يبدأ هذه المقارنة ، ومن أجل ذلك رجع إلي الفكرة التى عرفت في النقائض . ولكنه لم يتقدم في الكتاب حتى عرف خطأ فكرته ، فذهب يعلن أنه سيتحدث أولا عن مساوئ الشاعرين وسرقاتهما وإحالاتهما ، ثم يعمد بعد ذلك إلي الموازنة بين القصيدتين إذا اتفقتا وزنا ورويا ؛ وكأن شيئا من الأمل لا يزال يراوده في تحقيق فكرته ، غير أنه لا ينتهي من الجزء الأول ويشرف على القسم الثاني حتى يعرف خطأ منهجه الذي وضعه فيقول : " وقد انتهيت الآن إلي الموازنة بين الشاعرين ، وكان الأحسن أن أوازن بين البيتين أو القطعتين إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية . ولكن هذا لا يكاد يتفق مع اتفاق المعاني التي إليها المقصد ، وهي المرمي والغرض " . وإذن فالأمدي يعدل أخيرا عن منهجه الذي تقدم به في أول كتابه ، ولعل في هذا دلالة واضحة على ما نقوله من أنه لم توضع حدود معينة قبله للمقارنة بين الشعراء ، وهو نفسه حين بدأ كتابه لم تكن فكرة المقارنة واضحة في رأيه .
وإذا أردنا أن نعرف كيف انتهت فكرة المقارنة أخيرا عند الآمدى ، وجدناها تنحل إلي بيان سرقات الشاعرين وأخطائهما الفنية ، ثم المقارنة بين بعض معانيهما في الغزل وغير الغزل ، وبذلك يطلع القارئ على معايبهما من طرف ، ومحاسنهما أثناء الحديث عن معانيهما من طرف آخر . ولعل من الغريب أننا إذا ذهبنا نتتبع الآمدي في كتابه ، وجدناه ينحرف انحرافا تاما عن بيان مذهبي
أبي تمام والبحتري وتفسير خصائصهما الفنية إلي إحصاء لسرقاتهما ، ومقارنات بين بعض أبياتهما لا تذيع فنا ولا سرا من أسرار الفن ، إنما تذيع شغبا لغويا يتحامل فيه تحاملا شديدا على أبي تمام . وقد كان ذلك التحامل سببا في أن يسقط زمام المقارنة العلمية بين الشاعرين من يده ؛ فإن الشرط الأساسي في نجاح مقارنة بين شاعرين ألا يتجني الناقد على أحدهما ، وأن يقف قاضيا نزيها يعدل بينهما بكل ما يستطيع من موازين العدل الدقيق ولكن الآمدي لم يستطع التخلي من هوي نفسه في إيثار البحتري علي أبي تمام ، وقد تلومه القدماء من أجل ذلك ؛ يقول ياقوت أثناء وصفه لكتبه " ومنها كتاب الموازنة بين البحتري وأبي تمام ، وهو كتاب حسن وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه ، ونسب إلي الميل مع البحتري فيما أورده ، والتعصب على أبي تمام فيما ذكره . . فإنه جد واجتهد في طمس محاسن أبي تمام وتزيين مرذول البحتري ، ولعمري إن الأمر كذلك ، وحسبك أنه بلغ في كتابه إلي قول أبي تمام:
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
وشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين ، فتارة يقول هو مسروق ، وتارة يقول هو مرذول ، ولا يحتاج المتعصب إلي أكثر من ذلك ، إلى غير ذلك من تعصباته . ولو أنصف وقال في كل واحد بقدر فضائله لكان في محاسن البحتري كفاية عن التعصب بالوضع من أبي تمام " . وياقوت محق فيما يقوله ، فقد تجني الآمدي على أبي تمام كثيرا ، وشوه فنه وصناعته تشويها قبيحا . وأكبر الظن أن ذلك جاءه من أنه لم يتصور عمل أبى تمام ومذهبه تصورا واضحا ، ولو أنه بحث المسألة في أفق أرحب لعرف أنه صاحب مذهب جديد ، ولكل مذهب جديد أخطاؤه والشاعر لا يحكم على تجديده مما قد يقع فيه من أخطاء ، إنما يحكم عليه بصنيعه العام ،
ومدى نجاحه أو إخفاقه داخل ما يحدث لنفسه من مذهب جديد يحتكم إليه في صناعة شعره .
ومع ذلك فالآمدي لا يقف عند أخطاء أبي تمام الحقيقية والتي تأتيه من استغراق مذهبه له ، بل هو يوسع عمله إلي هجوم عنيف علي صاحبنا ، فتراه ينبذ محاسنه وطرفه ، بل إنه يحاول أن ينقل هذه المحاسن والطرف إلي مساوئ ومعايب ؛ وكأنه يؤلف كتابه ليرد الشعراء عن الاحتذاء على هذا المذهب الجديد في الشعر والفن والاقتداء بنماذجه وأمثلته وهو حين يصنع ذلك لا يتخذ منهجا واضحا لنفسه في مناقشة المذهب ومناقشة أصوله وأكبر الظن أنه لم يكن يفهم هذا المذهب الجديد فهما صحيحا ، ومن أجل ذلك حمل حملات منكرة على ما وجد عند صاحبه من صعوبة في التعبير ، أو غرابة في التصوير ، متناسيا أنه يدخل الغموض والفلسفة والفكر الدقيق في شعره ، وأنه يعمد عمدا إلي تحريف الصورة القديمة في فنه .
وأظننا لا نسرف بعد ذلك إذا قلنا إن كتاب الموازنة فقد قيمته الأساسية في توضيح فن الشاعرين أبي تمام والبحتري وبيان مذهبهما وخصائصهما الفنية ، لولا ما تقدم . به في صفحاته الأولى من حوار طريف نشب بين أنصار الشاعرين في فنهما وإيثار أحدهما على الآخر . وسنعرض لهذا الحوار في مقال مقبل

