الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 289الرجوع إلى "الثقافة"

للحقيقة والتاريخ، محمد عبده، والتنكر له ولآرائه

Share

بمناسبة الذكري التاسعة والثلاثين لوفاته فقد وافاه أحله عليه رحمة الله برمل الإسكندرية في الساعة الخامسة من مساء 11 يوليو عام 1905 .

اختلف الناس في أمر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، فمنهم من اتهمه بالإلحاد والكفر والزندقة ، وادعي أن ذلك أضعف من حجته أمام خصوم الإسلام ، كما أضعف من حجة أمثاله ممن اتهموا بمثل هذا الاتهام ، وافتري عليهم مثل هذا الافتراء . ومنهم من قال :

" عبده لم يعد من طراز هذا الزمن وتدقيقة في أمر البدع يعتبر تهيبا .

كل آراء محمد عبده في العلم والدين أصبحت متخلفة عن الزمن ، لا لأنها قد قدم العهد بها ، ولكنها أصبحت لا تلائم حال الشرقيين في توثبهم للحرية الكبرى(1) ،

ومنهم من قال فيه وفي أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني : " بيد أن كلا منهما حكيم عاقل ، وأن السيد جمال الدين رجل دين وإن غلبت عليه السياسة ؛ والشيخ محمد عبده رجل سياسة وإن غلب عليه الدين . بل هو أقرب من أستاذه إلي الموقف الوسط بين رجال الدين والدنيا من المرتقين فيهما)2) "

ومنهم من قال . أعتقد أننا إذا جاوزنا عصر السلف الصالح لا نجد رجلا رزق فهما في هداية القرآن . ووسع صدره أدق معانيه الاجتماعية والعمرانية ، مثل الإمام محمد

عبده . ولقد وهبه الله شروط الإمامة الدينية جميعها ، كما منحه البصر في أمور الدنيا " ) 1(

ولقد سرت تهمة إلحاد الإمام وزندقته إلي كثير من البيئات والأوساط ، وتأثر بها كثير من الناس حتي طلبة العلم ورجال الدين . غير أن الإمام لم يكن بين الزعماء المصلحين أول من تعرض للاضطهاد، وقوبلت جهوده من بعض الناس بالسخرية ؛ ولم يكن الإمام بينهم أول من رمي بالتهم وانتشرت حوله الأكاذيب والوشايات ، ولم يكن أول من تصدي له أعداء الفكر ، وحاربه دعاة الجمود ، ولكنه كان واحدا من هؤلاء ، عارضه أعداؤه في كل عمل قام أو حاول أن يقوم به ، ووقف الجاهلون أمامه حجر عثرة في كل مشروع أدبي بدأه أو فكر فيه ، وأساء الحاقدون عليه الظن بكل عمل خيري وفقه الله إلى فعله ، ومسخ دعاة الجمود كل مبدأ تعليمي نادي به أو سعي لتنفيذه .

وعزاؤنا في كل ما لاقاه الإمام أنه كان كما قلنا واحدا من هؤلاء المصلحين الذين تحدث عنهم التاريخ . وكم حوي التاريخ بين سطوره من قصص أمثال هؤلاء المضطهدين ، ما يقف بالفكر حائرا بين تصديقه والشك فيه . . وهؤلاء الأنبياء أنفسهم قد لاقوا من العنت والاضطهاد ما يهد عزائم الرجال ، ويفت من عضد أشجع الشجعان ، لولا عناية الله بهم ، وقوة إيمانهم ، وشدة إخلاصهم . وها هو ذا التاريخ قد امتلأت قصصه بأخبار كثير من رجال الفكر الحر الذين قدموا إلى الموت طائعين أو مكرهين ، لأنهم رأوا ما لم تره الدولة ، وجاءوا بما سما على عقول الجماهير ؛ وقد امتلأ التاريخ بأخبار الحروب التي شنت على دعاة الإصلاح فتلطخ من أجلها جبين الإنسانية ، وامتلأ بأنباء المحاكم التي فتحت أبوابها للتحقيق في تهم يعلم رجال القضاء قبل غيرهم تلفيق هذه التهم وبعدها عن

الصواب . حدث هذا كله؛ غير محققي التاريخ تعقبوه مستقصين أخباره ، باحتين عن الحقيقة التائهة بين سطوره ، واستطاع أولئك المحققون بما يبذلوه ان يعطونا في كل قصة أو نبأ رأيهم ورأي الناس في العصور المتعاقبة ، وإذا الرأيان ، رأي المحققين ورأي الأجيال المتعاقبة ، يتفقان على أن المسلمين المضطهدين كانوا علي حق فيما دعوا الناس إليه ، وأنهم لا يقدرون إلا بعد أن تنقضي ايامهم ويصبحوا في ذمة التاريخ

ولهذا الاضطهاد الذي يلقاه المصلحون أسباب كثيرة ودوافع مختلفة . يقول الأستاذ الكبير محمد كرد علي " ومن نظر نظرة مجردة عن الغرض في سيرة المناهضين المسلمين على اختلاف الأعصار ، يجدهم جروا علي غير ما يعتقدون ، وطلبوا مقاومة المصلحين إرضاء للعامة ونيل الحظوة لديهم ، واستتباع الجاهلين من الملوك والسلاطين ، وقليل جدا من كان الإخلاص رائدهم في أعمالهم ومآنيهم

" يقاوم في العادة الخامل النابه لتكون له مكانة كمكانته ، ويتحامل الجاهل على العالم ليعرف بين قومه بأنه قسيمه في صناعته ، ومثيله في فضيلته ويطعن الجاحد الممخرق على من يحب أن يعبد الله بعقل ، ويبحث في عالم الكون والفساد بروية ، ليتظاهر أنه بعيد الغور شديد الغيرة ، وما أقواله إلا رياء ، وما أفعاله إلا وساوس وأهواء " ) ? (

وحورب محمد عبده لكثير من هذه الأسباب ، فقد كان مقربا من سمو الخديو " عباس حلمي عند أول عهده بالحكم ، وكان يجتمع به سرا وعلانية في القاهرة والإسكندرية للنظر في الشؤون العامة ، والوسائل التي يمكن أن تنهض بها الأمة ، ويرتقي بها الأفراد ، وآلم هذا كثيرا من المحيطين بالخديو ، أو الذين كانوا يطمعون في التقرب منه ، وأدى بهم الألم إلى الوشاية بالإمام والسعاية

ضده . ولقد انتهي الأمر بإيعاز سموه إلي المعارضين من رجال الأزهر والعلماء بنقد طريقة الإصلاح الجديدة التي يسير عليها محمد عبده ، ويحاول بها - كما يظنون - فتنة الناس عن دينهم ، ومحاولة إظهاره بمظهر الرجل الذي لا يحافظ على دينه وكرامته ، وإفهام الشعب ان المفتي الأكبر يحاول منع المسلمين من أداء فريضة الحج بحجة الخوف من الوباء إلى غير ذلك من آثار الوشاية والسعاية ،

وكان الإمام مجدا في سعيه لإصلاح الأزهر ، وتطهير الدين مما لحق به من البدع والخرافات ، وآلم هذا كثيرا من رجال الدين الذين خشوا على مكانتهم بين العامة ، وخافوا أن تضيع تلك المرتبات التي يتقاضونها من غير جدارة أو استحقاق ، واستكثروا أن يظهر شاب كان أول أمره كارها للعلم ، راغبا عنه ، منصرفا إلي غيره من نواحي الحياة ، ثم إذا به بعد ذلك يقبل على العلم إقبال النهم ، وينكب عليه انكباب الملهوف حتي إذا بلغ منه غايته بدأ يسفه آراءهم ، وينعتهم بالجهل ، ويأخذ عليهم جمودهم وعدم إدراكهم معاني الحياة وتفهم أسرار الكون

ولقد اشتدت حفيظة أولئك الرجال علي محمد عبده ، ولكنها حفيظة بدأت توغر صدورهم منذ أن كان الإمام طالبا يتلقي العلم بالأزهر الشريف ويحضر على السيد جمال الدين الأفغاني . وبعض هذه الموجدة كما يقول الدكتور تشارلز آدمس : " يرجع إلي كراهيتهم لدرس الفلسفة التي كان جمال الدين يبعثها من جديد ، وبعضها إلى نزعته التجديدية على وجه عام ؛ على أنه يبدو أنه كان للغيرة أيضا شأن كبير ، فإن محمد عبده وغيره من الطلاب كانوا على الأرجح يهملون دروسهم في الأزهر ويتغيبون عنها ليقرأوا علي جمال الدين"(1) "

وكان الإمام سياسيا اشترك في الثورة العرابية . ثم

نفي مع من نفي من زعمائها ، وقاسي بذلك ما يقاسيه الوطنيون على أيدي رجال الاستعمار ؛ ووقف الإمام نفسه بعد النفي علي خدمة مصر بل الشرق الإسلامي كله . وتوجيه أنظار المسلمين إلي مقدار العنت الذي يقاسونه ، ومقدار الأضرار التي تعود عليهم من الاحتلال ، وتسليم أمورهم لأمم لا تدين بدينهم ولا تربطها بهم رابطة ، اللهم إلا رابطة المنفعة والاستغلال . وآلم هذا كله ضعيفي الوطنية والمتملقين والمنافقين وأصحاب المطامع الذين وجدوها فرصة للطعن فيمن يريد أن يضيع عليهم الفرص ، ويحرمهم من آمالهم ، وإن كان تحقيقها على حساب الوطن والشعب .

وكان الإمام رجلا دينا خبيرا حر العقيدة والرأي ، يحاول أن يعبد الله على أساس من الفكر والعقل ، لأن الدعوة الأولى من دعوتي الإسلام لا يعول فيها إلا على تنمية العقل البشري ، وتوجيهه إلى النظر في الكون ، واستعمال القياس الصحيح ، والرجوع إلى ما حواه السكون من النظام والترتيب ، وتعاقد الأسباب والمسببات ، ليصل بذلك إلى أن للكون صانعا واجب الوجود ، عالما حكيما قادرا ؛ وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان)1) " )

حاول الإمام أن يعبد الله بيقين يسنده العقل كما وضح ذلك في تعليقه على الآية الكريمة ؛ " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون " ، فهو يقول : " إن الآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين ، وإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به ؛ فمن ربي على التسليم بغير عقل ، والعمل ولو صالحا بغير فقه ، فهو غير مؤمن . لأنه ليس القصد من الإيمان  أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان ، بل القصد منه أن يرتقي عقله ونفسه بالعلم والعرفان ، فيعمل الخير لأنه يفقه

أنه الخير النافع المرضي لله ، ويكره الشر لأنه يعلم سوء عاقبته ودرجة مضرته .

" ويكون فوق هذا علي بصيرة وعقل في اعتقاده ، فلا يأخذه بالتسليم لأجل آبائه وأجداده ، ولذلك وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل بقوله : صم ، لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم ؛ بكم ، لا ينطقون به عن اعتقاد وفهم ؛ عمى ، لا ينظرون في آيات الله وفي أنفسهم فهم لا يعقلون " ) ? (

حاول الإمام ذلك والدعوة إليه ، فقال الذين يتظاهرون بالورع والتقوي ولا يدركون من أسرار الكون أكثر من الملموسات التي بين أيديهم ، والذين لا يدركون من عظمة الخالق عز وجل أكثر مما قرأوه في كتب حشوها باطل ، ولا يتفق أكثر ما جاء فيها مع ما اتصف به الدين من تنزيه ، وما أنزل الكتاب لأجله من الهداية والرحمة . . قال أولئك الناس ) إنه مجتهد ، وإنه مبتدع ، وإنه لذلك خرج على الدين ، ومن خرج على الدين وجب أن يوضع في عداد الكفار . . وكان الاجتهاد في رأيهم جريمة . . وكيف لا يكون كذلك وقد تجاهلوا أن الإسلام " صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء وما ثوارثه عنهم الأبناء ، وسجل الحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السابقين ، ونبه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان ، ولا مسميا لعقول علي عقول ولا لأذهان على أذهان ، وإنما السابق واللاحق في التميز والفطرة سيان . بل للاحق من علم الأحوال الماضية ، واستعداده للنظر فيها والانتفاع بما وصل إليه من آثارها في الكون ، ما لم يكن لمن تقدمه من أسلافه وآبائه " ) ? (

ولم يجد أعداء الإمام على اختلاف مشاربهم ، وتباين نزعاتهم ، تهمة يمكن ان يصفوها فينتشر اثرها مثل تهمة

الكفر والإلحاد . . والغريب أن تسري هذه الفرية بين الناس فيصدقها بعضهم كأنها حقيقة وافية ، وكأن الأمر لم يكن اتهاما باطلا من قوم جبلت نفوسهم على الغيرة والحسد ، أو من قوم تسربلوا بأكفان الماضي وعاشوا فيه لا تبرحه عقولهم وأفكارهم .

ومن هؤلاء الذين صدقوا هذه الفرية الكاذبة والتهمة الباطلة شباب لا يعلم كثيرا ولا قليلا عن الإمام ، إما لأنه لا يميل بطبعه إلي قراءة شيء يتعلق بالناحية الدينية وانشغاله عن ذلك بشئون السياسة أو شئون الثقافة الحديثة ، وإما لخوفه من القراءة لهذا الرجل وتتبع آرائه وأفكاره فيتهم في عقيدته كما اتهم الرجل نفسه . . وصدق الفرية عامة يسهل التأثير فيهم ، ثم هم فوق ذلك أكثر رغبة في الاحتفاظ بالقديم ، قليلو الرغبة في مجاراة الجديد ما لم يثبت نفعه أو يرغموا عليه ؛ وصدقها كذلك معارضون يترقبون التهم لترويجها كسبا لقضيتهم الخاسرة أولا وأخيرا . .

ومن الغريب أن تلصق هذه الفرية برجل كان شأنه أجل وأعظم من مئات مجتمعين بل من ألوف . . لقد واجه محمد عبده عالما إسلاميا مفكك الإوصال ، واهي القوي ، يضرب في ظلمات من الجهل لا يدري معها إلى اين ينتهي به الطريق . . وواجه عالما مستذلا يخضع لسلطان دولة مخالفة في الدين ، أو رؤساء واقعين في قبضة النفوذ الأجنبي ، أو ملوك ظلمة تتحكم فيهم الشهوات والمطامع ونادي الإمام على صفحات العروة الوثقي وغيرها بمقالات كأنها شعل من نار بإحلال التآلف بين دول ذلك العالم الإسلامي المشتت ، ونظمها في وحدة تستطيع أن تصد هجمات المغيرين ، وتعيد للإسلام عزه الغابر ومجده القديم .

وواجه محمد عبده حياة اجتماعية لا رابط بينها ، وخلقية بلغت الدرك الأسفل من الانحطاط ، وفكرية تثير الأسي والألم.. انتشر التنابذ بين الناس والأمم ، والدين بدعو إلي الوحدة والإخاء . . وعم الفساد وكثر إتيان المحرمات

والدين ينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وانتشر الجهل فضل الناس سبل الرشاد . ونادي محمد عبده بالرجوع إلي الإسلام الصحيح فهو المنقذ من كل فساد .

يقول الإمام : " إلا إن الدين مستقر السكينة ، ولجأ الطمأنينة ، به يرضي كل بما قسم له ، وبه يدأب كل عامل حتى يبلغ الغاية من عمله ، وبه تخضع النفوس إلي أحكام السنن العامة في الكون ، وبه ينظر الإنسان إلى من هو فوقه في العلم والفضيلة ، وإلى من دونه في المال والجاه ، اتباعا لما وردت به الأوامر الإلهية " ) 1 ( .

لقد تنكر الناس لمحمد عبده ولآرائه ، وحاربه كثيرون في عقيدته وإيمانه ، وفي خلقه وأعماله ، ولكنهم - علم الله - كانوا في الخطأ واقعين ، وعن الصواب معرضين ، وكانوا في كل ذلك مغرضين . ولقد نصره الله على القوم الجاحدين والمنكرين ، وأدرك العالم الإسلامي كله أنه فقد بوفاته رجلا قل أن يجود الزمان بمثله .

ولقد لقي الإمام بعد وفاته من التقدير والإعجاب أضعاف ما لقيه في حياته . وسجل التاريخ كلمة الحق . ونحن نسجلها الآن بمناسبة ذكراه التاسعة والثلاثين .

رحمه الله رحمة واسعة ، وألهم رجالنا العمل على تخليد ذكراه

) أسرة الشباب بعين شمس (

اشترك في نشرتنا البريدية