بمناسبة الذكري التاسعة والثلاثين لوفاته فقد وافاه أحله عليه رحمة الله برمل الإسكندرية في الساعة الخامسة من مساء 11 يوليو عام 1905 .
اختلف الناس في أمر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، فمنهم من اتهمه بالإلحاد والكفر والزندقة ، وادعي أن ذلك أضعف من حجته أمام خصوم الإسلام ، كما أضعف من حجة أمثاله ممن اتهموا بمثل هذا الاتهام ، وافتري عليهم مثل هذا الافتراء . ومنهم من قال :
" عبده لم يعد من طراز هذا الزمن وتدقيقة في أمر البدع يعتبر تهيبا .
كل آراء محمد عبده في العلم والدين أصبحت متخلفة عن الزمن ، لا لأنها قد قدم العهد بها ، ولكنها أصبحت لا تلائم حال الشرقيين في توثبهم للحرية الكبرى(1) ،
ومنهم من قال فيه وفي أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني : " بيد أن كلا منهما حكيم عاقل ، وأن السيد جمال الدين رجل دين وإن غلبت عليه السياسة ؛ والشيخ محمد عبده رجل سياسة وإن غلب عليه الدين . بل هو أقرب من أستاذه إلي الموقف الوسط بين رجال الدين والدنيا من المرتقين فيهما)2) "
ومنهم من قال . أعتقد أننا إذا جاوزنا عصر السلف الصالح لا نجد رجلا رزق فهما في هداية القرآن . ووسع صدره أدق معانيه الاجتماعية والعمرانية ، مثل الإمام محمد
عبده . ولقد وهبه الله شروط الإمامة الدينية جميعها ، كما منحه البصر في أمور الدنيا " ) 1(
ولقد سرت تهمة إلحاد الإمام وزندقته إلي كثير من البيئات والأوساط ، وتأثر بها كثير من الناس حتي طلبة العلم ورجال الدين . غير أن الإمام لم يكن بين الزعماء المصلحين أول من تعرض للاضطهاد، وقوبلت جهوده من بعض الناس بالسخرية ؛ ولم يكن الإمام بينهم أول من رمي بالتهم وانتشرت حوله الأكاذيب والوشايات ، ولم يكن أول من تصدي له أعداء الفكر ، وحاربه دعاة الجمود ، ولكنه كان واحدا من هؤلاء ، عارضه أعداؤه في كل عمل قام أو حاول أن يقوم به ، ووقف الجاهلون أمامه حجر عثرة في كل مشروع أدبي بدأه أو فكر فيه ، وأساء الحاقدون عليه الظن بكل عمل خيري وفقه الله إلى فعله ، ومسخ دعاة الجمود كل مبدأ تعليمي نادي به أو سعي لتنفيذه .
وعزاؤنا في كل ما لاقاه الإمام أنه كان كما قلنا واحدا من هؤلاء المصلحين الذين تحدث عنهم التاريخ . وكم حوي التاريخ بين سطوره من قصص أمثال هؤلاء المضطهدين ، ما يقف بالفكر حائرا بين تصديقه والشك فيه . . وهؤلاء الأنبياء أنفسهم قد لاقوا من العنت والاضطهاد ما يهد عزائم الرجال ، ويفت من عضد أشجع الشجعان ، لولا عناية الله بهم ، وقوة إيمانهم ، وشدة إخلاصهم . وها هو ذا التاريخ قد امتلأت قصصه بأخبار كثير من رجال الفكر الحر الذين قدموا إلى الموت طائعين أو مكرهين ، لأنهم رأوا ما لم تره الدولة ، وجاءوا بما سما على عقول الجماهير ؛ وقد امتلأ التاريخ بأخبار الحروب التي شنت على دعاة الإصلاح فتلطخ من أجلها جبين الإنسانية ، وامتلأ بأنباء المحاكم التي فتحت أبوابها للتحقيق في تهم يعلم رجال القضاء قبل غيرهم تلفيق هذه التهم وبعدها عن
الصواب . حدث هذا كله؛ غير محققي التاريخ تعقبوه مستقصين أخباره ، باحتين عن الحقيقة التائهة بين سطوره ، واستطاع أولئك المحققون بما يبذلوه ان يعطونا في كل قصة أو نبأ رأيهم ورأي الناس في العصور المتعاقبة ، وإذا الرأيان ، رأي المحققين ورأي الأجيال المتعاقبة ، يتفقان على أن المسلمين المضطهدين كانوا علي حق فيما دعوا الناس إليه ، وأنهم لا يقدرون إلا بعد أن تنقضي ايامهم ويصبحوا في ذمة التاريخ
ولهذا الاضطهاد الذي يلقاه المصلحون أسباب كثيرة ودوافع مختلفة . يقول الأستاذ الكبير محمد كرد علي " ومن نظر نظرة مجردة عن الغرض في سيرة المناهضين المسلمين على اختلاف الأعصار ، يجدهم جروا علي غير ما يعتقدون ، وطلبوا مقاومة المصلحين إرضاء للعامة ونيل الحظوة لديهم ، واستتباع الجاهلين من الملوك والسلاطين ، وقليل جدا من كان الإخلاص رائدهم في أعمالهم ومآنيهم
" يقاوم في العادة الخامل النابه لتكون له مكانة كمكانته ، ويتحامل الجاهل على العالم ليعرف بين قومه بأنه قسيمه في صناعته ، ومثيله في فضيلته ويطعن الجاحد الممخرق على من يحب أن يعبد الله بعقل ، ويبحث في عالم الكون والفساد بروية ، ليتظاهر أنه بعيد الغور شديد الغيرة ، وما أقواله إلا رياء ، وما أفعاله إلا وساوس وأهواء " ) ? (
وحورب محمد عبده لكثير من هذه الأسباب ، فقد كان مقربا من سمو الخديو " عباس حلمي عند أول عهده بالحكم ، وكان يجتمع به سرا وعلانية في القاهرة والإسكندرية للنظر في الشؤون العامة ، والوسائل التي يمكن أن تنهض بها الأمة ، ويرتقي بها الأفراد ، وآلم هذا كثيرا من المحيطين بالخديو ، أو الذين كانوا يطمعون في التقرب منه ، وأدى بهم الألم إلى الوشاية بالإمام والسعاية
ضده . ولقد انتهي الأمر بإيعاز سموه إلي المعارضين من رجال الأزهر والعلماء بنقد طريقة الإصلاح الجديدة التي يسير عليها محمد عبده ، ويحاول بها - كما يظنون - فتنة الناس عن دينهم ، ومحاولة إظهاره بمظهر الرجل الذي لا يحافظ على دينه وكرامته ، وإفهام الشعب ان المفتي الأكبر يحاول منع المسلمين من أداء فريضة الحج بحجة الخوف من الوباء إلى غير ذلك من آثار الوشاية والسعاية ،
وكان الإمام مجدا في سعيه لإصلاح الأزهر ، وتطهير الدين مما لحق به من البدع والخرافات ، وآلم هذا كثيرا من رجال الدين الذين خشوا على مكانتهم بين العامة ، وخافوا أن تضيع تلك المرتبات التي يتقاضونها من غير جدارة أو استحقاق ، واستكثروا أن يظهر شاب كان أول أمره كارها للعلم ، راغبا عنه ، منصرفا إلي غيره من نواحي الحياة ، ثم إذا به بعد ذلك يقبل على العلم إقبال النهم ، وينكب عليه انكباب الملهوف حتي إذا بلغ منه غايته بدأ يسفه آراءهم ، وينعتهم بالجهل ، ويأخذ عليهم جمودهم وعدم إدراكهم معاني الحياة وتفهم أسرار الكون
ولقد اشتدت حفيظة أولئك الرجال علي محمد عبده ، ولكنها حفيظة بدأت توغر صدورهم منذ أن كان الإمام طالبا يتلقي العلم بالأزهر الشريف ويحضر على السيد جمال الدين الأفغاني . وبعض هذه الموجدة كما يقول الدكتور تشارلز آدمس : " يرجع إلي كراهيتهم لدرس الفلسفة التي كان جمال الدين يبعثها من جديد ، وبعضها إلى نزعته التجديدية على وجه عام ؛ على أنه يبدو أنه كان للغيرة أيضا شأن كبير ، فإن محمد عبده وغيره من الطلاب كانوا على الأرجح يهملون دروسهم في الأزهر ويتغيبون عنها ليقرأوا علي جمال الدين"(1) "
وكان الإمام سياسيا اشترك في الثورة العرابية . ثم
نفي مع من نفي من زعمائها ، وقاسي بذلك ما يقاسيه الوطنيون على أيدي رجال الاستعمار ؛ ووقف الإمام نفسه بعد النفي علي خدمة مصر بل الشرق الإسلامي كله . وتوجيه أنظار المسلمين إلي مقدار العنت الذي يقاسونه ، ومقدار الأضرار التي تعود عليهم من الاحتلال ، وتسليم أمورهم لأمم لا تدين بدينهم ولا تربطها بهم رابطة ، اللهم إلا رابطة المنفعة والاستغلال . وآلم هذا كله ضعيفي الوطنية والمتملقين والمنافقين وأصحاب المطامع الذين وجدوها فرصة للطعن فيمن يريد أن يضيع عليهم الفرص ، ويحرمهم من آمالهم ، وإن كان تحقيقها على حساب الوطن والشعب .
وكان الإمام رجلا دينا خبيرا حر العقيدة والرأي ، يحاول أن يعبد الله على أساس من الفكر والعقل ، لأن الدعوة الأولى من دعوتي الإسلام لا يعول فيها إلا على تنمية العقل البشري ، وتوجيهه إلى النظر في الكون ، واستعمال القياس الصحيح ، والرجوع إلى ما حواه السكون من النظام والترتيب ، وتعاقد الأسباب والمسببات ، ليصل بذلك إلى أن للكون صانعا واجب الوجود ، عالما حكيما قادرا ؛ وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان)1) " )
حاول الإمام أن يعبد الله بيقين يسنده العقل كما وضح ذلك في تعليقه على الآية الكريمة ؛ " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون " ، فهو يقول : " إن الآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين ، وإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به ؛ فمن ربي على التسليم بغير عقل ، والعمل ولو صالحا بغير فقه ، فهو غير مؤمن . لأنه ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان ، بل القصد منه أن يرتقي عقله ونفسه بالعلم والعرفان ، فيعمل الخير لأنه يفقه
أنه الخير النافع المرضي لله ، ويكره الشر لأنه يعلم سوء عاقبته ودرجة مضرته .
" ويكون فوق هذا علي بصيرة وعقل في اعتقاده ، فلا يأخذه بالتسليم لأجل آبائه وأجداده ، ولذلك وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل بقوله : صم ، لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم ؛ بكم ، لا ينطقون به عن اعتقاد وفهم ؛ عمى ، لا ينظرون في آيات الله وفي أنفسهم فهم لا يعقلون " ) ? (
حاول الإمام ذلك والدعوة إليه ، فقال الذين يتظاهرون بالورع والتقوي ولا يدركون من أسرار الكون أكثر من الملموسات التي بين أيديهم ، والذين لا يدركون من عظمة الخالق عز وجل أكثر مما قرأوه في كتب حشوها باطل ، ولا يتفق أكثر ما جاء فيها مع ما اتصف به الدين من تنزيه ، وما أنزل الكتاب لأجله من الهداية والرحمة . . قال أولئك الناس ) إنه مجتهد ، وإنه مبتدع ، وإنه لذلك خرج على الدين ، ومن خرج على الدين وجب أن يوضع في عداد الكفار . . وكان الاجتهاد في رأيهم جريمة . . وكيف لا يكون كذلك وقد تجاهلوا أن الإسلام " صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء وما ثوارثه عنهم الأبناء ، وسجل الحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السابقين ، ونبه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان ، ولا مسميا لعقول علي عقول ولا لأذهان على أذهان ، وإنما السابق واللاحق في التميز والفطرة سيان . بل للاحق من علم الأحوال الماضية ، واستعداده للنظر فيها والانتفاع بما وصل إليه من آثارها في الكون ، ما لم يكن لمن تقدمه من أسلافه وآبائه " ) ? (
ولم يجد أعداء الإمام على اختلاف مشاربهم ، وتباين نزعاتهم ، تهمة يمكن ان يصفوها فينتشر اثرها مثل تهمة
الكفر والإلحاد . . والغريب أن تسري هذه الفرية بين الناس فيصدقها بعضهم كأنها حقيقة وافية ، وكأن الأمر لم يكن اتهاما باطلا من قوم جبلت نفوسهم على الغيرة والحسد ، أو من قوم تسربلوا بأكفان الماضي وعاشوا فيه لا تبرحه عقولهم وأفكارهم .
ومن هؤلاء الذين صدقوا هذه الفرية الكاذبة والتهمة الباطلة شباب لا يعلم كثيرا ولا قليلا عن الإمام ، إما لأنه لا يميل بطبعه إلي قراءة شيء يتعلق بالناحية الدينية وانشغاله عن ذلك بشئون السياسة أو شئون الثقافة الحديثة ، وإما لخوفه من القراءة لهذا الرجل وتتبع آرائه وأفكاره فيتهم في عقيدته كما اتهم الرجل نفسه . . وصدق الفرية عامة يسهل التأثير فيهم ، ثم هم فوق ذلك أكثر رغبة في الاحتفاظ بالقديم ، قليلو الرغبة في مجاراة الجديد ما لم يثبت نفعه أو يرغموا عليه ؛ وصدقها كذلك معارضون يترقبون التهم لترويجها كسبا لقضيتهم الخاسرة أولا وأخيرا . .
ومن الغريب أن تلصق هذه الفرية برجل كان شأنه أجل وأعظم من مئات مجتمعين بل من ألوف . . لقد واجه محمد عبده عالما إسلاميا مفكك الإوصال ، واهي القوي ، يضرب في ظلمات من الجهل لا يدري معها إلى اين ينتهي به الطريق . . وواجه عالما مستذلا يخضع لسلطان دولة مخالفة في الدين ، أو رؤساء واقعين في قبضة النفوذ الأجنبي ، أو ملوك ظلمة تتحكم فيهم الشهوات والمطامع ونادي الإمام على صفحات العروة الوثقي وغيرها بمقالات كأنها شعل من نار بإحلال التآلف بين دول ذلك العالم الإسلامي المشتت ، ونظمها في وحدة تستطيع أن تصد هجمات المغيرين ، وتعيد للإسلام عزه الغابر ومجده القديم .
وواجه محمد عبده حياة اجتماعية لا رابط بينها ، وخلقية بلغت الدرك الأسفل من الانحطاط ، وفكرية تثير الأسي والألم.. انتشر التنابذ بين الناس والأمم ، والدين بدعو إلي الوحدة والإخاء . . وعم الفساد وكثر إتيان المحرمات
والدين ينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وانتشر الجهل فضل الناس سبل الرشاد . ونادي محمد عبده بالرجوع إلي الإسلام الصحيح فهو المنقذ من كل فساد .
يقول الإمام : " إلا إن الدين مستقر السكينة ، ولجأ الطمأنينة ، به يرضي كل بما قسم له ، وبه يدأب كل عامل حتى يبلغ الغاية من عمله ، وبه تخضع النفوس إلي أحكام السنن العامة في الكون ، وبه ينظر الإنسان إلى من هو فوقه في العلم والفضيلة ، وإلى من دونه في المال والجاه ، اتباعا لما وردت به الأوامر الإلهية " ) 1 ( .
لقد تنكر الناس لمحمد عبده ولآرائه ، وحاربه كثيرون في عقيدته وإيمانه ، وفي خلقه وأعماله ، ولكنهم - علم الله - كانوا في الخطأ واقعين ، وعن الصواب معرضين ، وكانوا في كل ذلك مغرضين . ولقد نصره الله على القوم الجاحدين والمنكرين ، وأدرك العالم الإسلامي كله أنه فقد بوفاته رجلا قل أن يجود الزمان بمثله .
ولقد لقي الإمام بعد وفاته من التقدير والإعجاب أضعاف ما لقيه في حياته . وسجل التاريخ كلمة الحق . ونحن نسجلها الآن بمناسبة ذكراه التاسعة والثلاثين .
رحمه الله رحمة واسعة ، وألهم رجالنا العمل على تخليد ذكراه
) أسرة الشباب بعين شمس (

