الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الثقافة"

مع ادبائنا المعاصرين، سندباد عصرى

Share

تفضل الدكتور حسين فوزي على بإهداء هذا الكتاب إلي في اخر العام الجامعي حين يتأهب الأساتذة للامتحان كما يتأهب له الطلاب أو أكثر مما يتأهب له الطلاب ، وحين تكثر المجالس واللجان وتزدحم في الجامعة ووزارة المعارف لتقضي في كثير من الامور قضاء لا يفني ولا يجدي ، ولكنه محتوم على الذين يقضونه مهما تكن الظروف . وحين اتهيأ للسفر إلي أوربا إذا قضى الله لي السفر إلي أوربا .

فتلقيت الكتاب شا كرا وطلبت إلي صاحبي ان يقرأ لي منه فصلا أو فصلين أو فصولا لا أدري . ولكن الكتاب استقر في نفسي علي كل حال ، واستقر في نفسي انه من الكتب التي يجب ان تقرأ من أولها إلي آخرها ، وان تقرأ في عناية واناة وفي روية وتفكير . وان تقرأ لأنها تحقق النفعة والمتعة جميعا . فهي تعلم قارئها ما لم يكن يعلم فتنمية بذلك وتقويه وتضيف إلي شخصيته ما لم يكن فيها ، وهي في الوقت نفسه تسره وترضيه او تسوؤه وتسخطه ، فتحدث في نفسه هذه الذة الفنية التي ليست كلها سرورا ورضي ، ولكنها مزاج من السرور والرضى ومن السخط والضيق .

فطلبت من صاحبي أن يحفظ هذا الكتاب بين الكتب التي أريد أن اقراها إذا أتيح لي الوقت وأذنت لي بذلك الظروف . ولست أدري لم لم  اصطحبه في سفري ولكني لم افعل على كل حال ، فصرفت عن الكتاب اشهر

الصيف ولم أعد إليه إلا في أول هذا الشتاء .

ولم اكن اعرف من أمر صاحبه شيئا إلا أنه مثقف عميق الثقافة في العلم والأدب جميعا ، ينفق حياته في البحث الخالص وفي الإدارة العلمية إن صح هذا التعبير . ولكنه  لايتيح للعلم الخالص ان يستغرق حياته كلها ويأخذها من جميع اقطارها . وإنما يتيح لنفسه الاستمتاع باللذة الأدبية والفنية العليا ، قارئا للشعر والنثر ، مصطنعا للموسيقي متأملا في الصور والتماثيل والوان العمارة . ذائقا لهذا كله ، مقدرا له متحدثا فيه . وكنت اعجب منه بهذه الخصلة وأود لو استطعنا أن نحصى بين علمائنا جماعة تذهب مذهبه وتسير سيرته .

ثم عرفت آخر الأمر انه تخرج في مدرسة الطب واختص في الرمد ، وذهب إلي فرنسا بعد ذلك فأطال فيها الإقامة متخصصا في الاحياء المائية ، ثم عاد إلي مصر فعمل فيما يعمل فيه الآن .

فهو إذا طبيب وهو من علماء الحياة ، وهو بعد هذا كله رسالة يضرب في أقطار البحر والمحيط شرقا وغربا وشمالا وجنوبا . ويكتب لرحلاته هذه قصصا رسمية قوامها الدقة والتحفظ والاحتياط وإيثار الجد وحده وإحصاء الألفاظ والمعاني على نفسه . ولكنه دفع ذات يوم إلي رحلة طويلة في البحر الاحمر والمحيط الهندي على سفينة صغيرة جدا ضئيلة جدا خطيرة جدا . قد جمعت أربعين

من الانجليز والمصريين ، منهم العلماء ومنهم المدبرون لأمر السفينة بعقولهم والعاملون فيها بأيديهم وهم على ما كان بينهم من اختلاف الجنس والطبقة والمرتبة العقلية واللغة والدين والتقاليد ، قد عاشوا عيشة مشتركة وخضموا لطائفة من الظروف القاسية أو اللينة ، فرضت عليهم لونا بعينه من الحياة ولا ءمت بين حاجاتهم واحساسهم وشعورهم في غير موقف وفي غير وقت . وقد ألموا بكثير من المدن والجزر في أفريقيا والهند ، فاتصلوا بالناس وانفصلوا عنهم . وقد رأوا في البر والبحر أعاجيب مختلفة أثارت في نفوسهم ألوانا من الخواطر ، وفنونا من العواطف ، وضروبا من الأهواء ، ودفعتهم إلي قليل من العمل وإلي كثير من القول . وقد وفقوا إلي ما كانوا يريدون إليه من رحلتهم ، وظفروا بما كانوا يبتغون من من سفرهم الشاق الطويل ، وعادوا موفورين إلي وطنهم المصري أو الإنجليزي . وقدم الدكتور حسين فوزي قصته الرسمية لهذه الرحلة التي نسميها تقريرا . ولكنه لم يكتف بهذه القصة ، ولم يكن يستطيع أن يكتفي بها ، فقد ثارت في قلبه عواطف ، واضطربت في نفسه آراء ، وعرضت لعقله خواطر ، ولم يستطع أن يكظم من هذا كله شيئا ، فاضطر إلي تسجيله . ولم يستطع أن يسجل هذا لنفسه ، فاضطر إلي إذاعته ، وأنبأنا بأنه سعيد مغتبط ، إن قبل أصدقاؤه كتابه هذا على علاته ، ورضوا عنه ، وشاركوا صاحبه فيما وجد من حس ، وما آنس من شعور ، وذهبوا معه إلي حيث ذهب ، وأقاموا معه حيث أقام . وصدقوه في أنه لا يتكلف أدبا ولا فنا ، ولا يتصنع إجادة ولا جمالا ، وإنما يرسل نفسه على سجيتها حين يفكر ، ويجري قلمه علي على سجيته حين يكتب .

وأنا أريد أن أصدقه فيما يقول من هذا كله على شيء من التردد في هذا التصديق ، ساظهر مصدره بعد حين . ولابد من أن أبدا بتسجيل إعجابي بهذا الكتاب إلي أبعد

حد ممكن من الاعجاب ، ورضاي عنه إلي أقصى غاية ممكنة من الرضي ، لولا أن هناك أمورا تكاد تردني عن هذا الامجاب ردا عنيفا ، وتصدني عن هذا الرضي صدأ قاسيا . فموضوع الكتاب خليق أن يلذ ويتمتع ، وهو يلذ ويتمتع بالفعل وما رأيك في كتاب يصف صاحبه فيه رحلة بحرية طويلة قصد بها أصحابها إلي العلم الخائض ، ولكن صاحب الكتاب لم يصور لنا من هذا العلم الخالص شيئا ، وإنما أشرف بنا عليه ، وجعلنا نحس بحث العلماء وتقديرهم وتفكيرهم واستنباطهم ، ونشعر بأن هذا كله يجري وراء ستار ، فتعجب بهؤلاء العلماء دون أن نشاركهم في قليل أو كثير من التعب الذي يجدونه ، والجهد الذي يبذلونه ، والثمر الذي يجتثونه . ولكنا نري علي هذا الستار مناظر رائعة رائقة ، أو مروعة مفزعة ، ونسمع في المكان الذي نحن فيه أحاديث فيها العبث الذي يضحك ، ولكنه يضحك في إفادة وإمتاع . وفيها الصور التي تخلب بروعتها أو بترويعها ، وفيها الجد الذي يدعو إلي الروية والتفكير ، وفيها الشعور الذي يؤثر في النفس ويشيع فيها عن رضي أو عن كره ما يثور في نفس الكاتب من عاطفة ، وما يضطرب فيها من هوي أو ميل

الكتاب من غير شك مثير للذة والامتاع ، مملوء بالمنافع المختلفة التي تغني العقل ، وتكاد تثقل الذاكرة ، وهو من هذه الجهة كنز قيم جدا . ثم هو قيم من جهة أخري لأنه يثير التفكير في بعض الأمور الخطيرة ، وأول هذه الأمور حرية الكاتب ، فهو قد اخذ لنفسه من الحرية قدرا غير مألوف عند الذين يكتبون باللغة العربية في هذا العصر الحديث .

أطلق لنفسه حرية التفكير إلي أبعد حد مستطاع . فلم يرع لشيء حرمة ، ولم يرج لشيء وقارا . وأطلق لنفسه حرية التعبير إلي أبعد حسد مستطاع ايضا ، فلم يتحرج ، ولم يتحفظ ، ولم يصطنع هذا النفاق الذي يفرضه

الكتاب على انفسهم ، لأن العرف يفرضه عليهم ، ولانهم يؤثرون العافية ، ويريدون ان يعيشوا في هدوء وامن ودعة ، وان يتجنبوا سخط الساخطين ، ولوم اللائمين بل اطلق لنفسه حرية اخري ، مهما اكن من انصار الحرية ومؤيديها ، ومن الدعاة إليها ، والذائدين عنها ، والمستعدين للتضحية في سبيلها ، فأنا لها مبغض ، وعليها ساخط ، وبها شديد الضيق . وهي حرية مسخ اللغة العربية وإفسادها ، والعبث بأصولها وأشكالها في غير تحفظ ولا احتياط

هذه الحرية المطلقة التي أخذها الكاتب لنفسه أخذا ، تدعو إلي كثير جدا من التفكير ، والناس جميعا يعلمون أني أدعو إلي حرية الأدب ، وأريد ان يكون الأديب فوق ما يفرضه العرف على الناس من القيود ، ولكني مع ذلك أسأل نفسي: إلي أي حد يجب أن يستمتع الأديب بهذه الحرية ؟ أو بعبارة أخري : ما نوع هذه الحرية التي يجب أن يتمتع بها الأديب ؟ أمن حق الأديب أن يتعمد إفساد اللغة ، ويعبث بأصولها وأشكالها ، ويضع الالفاظ المبتذلة التى تنبو عن الذوق ، وتتجافي عن الطبع المثقف الصقول ، في موضع الألفاظ الصحيحة النقية اليسيرة ، التي تؤدي ما اراد تأديته من المعاني ، دون ان تؤذي الذوق ، أو تسوء الطبع ، أو تثقل على المزاج ؟

من الناس من لا يحسنون اللغة العربية ، ولا يقدرون على التصرف فيها ، ولا يستطيعون إخضاعها لما تضطرب به نفوسهم من العواطف والأراء ، فهم مضطرون إلي ان يؤدوا معانيهم كما يستطيعون ، وباللغة العامية ، وبالهجات المبتذلة التى يحسنونها وبقدرون عليها . ولكن الدكتور حسين فوزي ليس من هؤلاء ، فهو يحسن لغته العربية ، وملكها ، ويجيد اتخاذها اداة للتصوير والتعبير . ولست أزعم أنه يستطيع أن يطاول الجاحظ أو ابن المقفع ، أو ان يرتفع بلغته إلي حيث يعد من اصحاب الأساليب الرائعة

والألفاظ المختارة ، والتبريز في البيان . ولكني أزعم وكتابه نفسه يؤيدني فيما أزعم ، انه يستطيع ان يؤدى معانيه باللغة العربية تأدية حسنة لا بأس بها ، وقد لا تخلو أحيانا من روعة أو جمال . وإذا فما تعمد هذا الافساد ؟ وما حبه لهذه الألفاظ المبتذلة البغيضة التي لا استطيع ان أسمعها ، فضلا عن أن أطلق بها لساني ، أو أجري بها قلم صاحبي ، والتي لا تصور امتياز في الفن ، ولا صفاء في الطبع ، ولا اعتدالا في المزاج ؛ وإنما تصور نقائص هذه الخصال تصويرا بشعا مرذولا ؟ وهذا هو الذي يحملني على الا أصدق ما انبأنا به الكاتب من انه قد ارسل نفسه على سجيتها في التفكير والتعبير . فهو عندي وعند اصدقائه أرفي ذوقا ، وأصفى طبعا من أن يصطنع هذه الألفاظ مضطرا إليها . وأكبر الظن أنه قد تعمد اصطناعها تعمدا ، لأن له في الخصومة بين اللغة الفصحى واللغة العامية المبتذلة رايا يدفعه إلي هذا الشطط ويورطه في هذا الاسراف .

وأنا أعلم أن بين الكتاب الأوربيين ، والكتاب الفرنسيين خاصة ، من يذهبون في لغاتهم هذا المذهب البغيض . وقد قرأت كتب سيلين ووجدت في قراءتها لذة جاءتني من المعاني والآراء ، وإن كنت قد ضقت بألفاظها السخيفة المبتذلة ضيقا تشاركني فيه كثرة المثقفين من الفرنسيين . أفيكون من الحق أن نسير في لغتنا العربية سيرة سيلين وامثاله في لغتهم الفرنسية ؟ اليس من الحق علينا أن نفكر في أن إسفاف سيلين وأصحابه لن يضر اللغة الفرنسية شيئا ؟ لأن هناك ادباء بارعين لا يكادون يحصون ، وهم يؤثرون اللغة الفرنسية الممتازة بعنايتهم ويحمونها بإنتاجهم الرائع ، من سخف سيلين واشباهه . على حين أن الأدباء البارعين في لغتنا العربية يكادون يحصون في سهولة ويسر ، وان بلاءهم في حماية اللغة من الفساد لا يكاد يذكر ، وان كاتبا كالدكتور حسين فوزي قادر يمثل بهذا الكتاب الذي أذاعه في الناس على أن يسيء إلي اللغة العربية

وإلي ذوق الشباب من القراء ا كثر الف مرة ومرة مما يحسن إلي العقل والخيال مما يعرض عليهما من الخواطر والصور .

وأي لذة يجدها كاتب مثقف له ذوقه النقي الصافي في أن يصطنع هذه الألفاظ التي لا تسمع إلا في أهون البيئات شأنا واقلها حظا من رقي ، دون ان تدعو إلي ذلك ضرورة فنية أو تدفع إليه الحاجة إلي تصوير ما لا سبيل إلي تصويره إلا باصطناع هذا الشر . وانا ادعو إلي حرية الأديب ، ولكن حرية الأديب كغيرها من الحريات ، في حاجة إلي ان تنتظم ، والي إن تحد بعض الشئ ، لا بالقانون

فما ينبغي ان يكون للقانون على حرية الفن سلطان ، ولكن بالذوق العام ، وبهذا الحس المشترك الذي يصرف المثقفين الممتازين عن أشياء قد يتورط فيها غيرهم من الناس . وهذا الذوق العام يختلف باختلاف البيئات ، فهناك أشياء يقبلها الذوق العام الأوربي ، وينبو عنها الذوق العام المصري ، وليس علي مصر من ذلك بأس ،

فليس من الضروري أن نشبه الأوربيين في كل شئ . ولا ان نقلدهم في كل شئ ، وربما كان من الخير ان نرد انفسنا عن تقليدهم في بعض الأشياء ، لأنهم هم يضيقون بها وينفرون سها ، ولانها ليست في نفسها خيرا ولا سبيلا إلي الخير .

اخص شئ يمتاز به هذا الكتاب انه يعجب ويغيظ في وقت واحد ! يعجب ما فيه من المعاني والآراء ومن الصور الفنية الجميلة التي تثير النشاط وتدفع إلي التفكير ، ويعجب بهذه الجراءة التي تثب بالكاتب إلي أشياء لم يكن يخطر لي ان الأديب يستطيع ان يعبر عنها في صراحة

قبل وقت طويل وتطور بعيد المدى ، ولكنه يغيظ لهذه الجرارة نفسها لان الكاتب قد تجاوز بها الحد واعتدى بها لا أقول على العرف ، فأمر العرف عندي ليس بذي خطر عظيم ، ولكن على الذوق ، وعلي ما ينبغي للفن من الرقي والأمتياز والارتفاع عن السخف والإسفاف . وقد تسالني عن أمثلة لهذا السخف والإسفاف ، فما رأيك في أني ا كره ان امثل لهما في هذا الفصل ؟ واحيلك علي الكتاب نفسه إن شئت أن تظهر على شيء منها ، فهي شائعة فيه بغير حساب .

والصورة التي بقيت في نفسي بعد قراءة هذا الكتاب

مؤلة حقا داعية إلي السخط وإلي الإشفاق ، فهي صورة شئ جميل قيم في جوهره ، ولكن صاحبه تعمد تشويهه وإفساده وإشاعة القبح فيه ، فوفق إلي بعض ذلك ، ولكنه مع السرور لم يوفق إلي ذلك كله . وأنا واثق كل الثقة بأن الدكتور حسين فوزي يستطيع في غير مشقة ولاجهد أن يبرئ كتابه من هذا القبح ويخلصه

من هذا الفساد ، ويرده كتابا أدبيا رائعا ممتاز من أمتع ما كتب للناس في هذه الأعوام القليلة الماضية . ولعله لا يتكلف في ذلك إلا ان يأذن لصديق من اصدقائه بأن يعيد النظر فيه ويزيل منه هذا الحك الذي يجعل ملمسه خشنا مؤذيا ، وما اكثر الآراء التي لا أشارك فيها الكاتب ولكن اختلاف الرأي ليس عيبا  يعيب الكاتب ولا الناقد . فلست اري معه مثلا ان كل ما في الغرب جميل . وما اظن أن تطوافي في الشرق إن أتيح لي ان اطوف فيه يردني إلي الإعجاب بالغرب في غير احتياط ، فقد يكون الغرب خيرا من الشرق وخيرا من الهند خاصة في أشياء كثيرة .

ولكن الغرب ليس خيرا كله ، ولم يخلق الله بعد حضارة هي خير كلها . وقد لا اوافق الكاتب على التصريح بأشياء لا خير في التصريح بها ، ولكن هذه قصة اخري . على أن لهذا الكتاب ولكتابين أو ثلاثة قد أتحدث عنها فيما يستقبل من الزمان ، دلالة مؤلة حقا ، فهي تدل إما على أن الناس لا يقرأون ، وإنما على أن الذوق العام والشعور مما يقرأ قد أدركهما كثير من التبلد والفتور ، وقد عشنا دهرا من الزمان كان الذوق العام فيه لا يكاد يتلقي كتابا فيه بعض ما في هذا الكتاب مما يصدمه او يؤذنه ، حتي ينشط للذود عن نفسه ويكون ما يسميه الناس رد الفعل . فأما الآن فاكتب ما شئت واعبث بالذوق ما شئت وثم ملء جفونك ، فالناس لا يقرأون أو هم يقرأون ولا يذوقون ، وكلا الأمرين شر . ومن يدري ؟ لعل هذا الفتور مقدمة نشاط أرجو أن يكون قريبا وان يكون شديدا .

اشترك في نشرتنا البريدية