تفضل الدكتور حسين فوزي على بإهداء هذا الكتاب إلي في اخر العام الجامعي حين يتأهب الأساتذة للامتحان كما يتأهب له الطلاب أو أكثر مما يتأهب له الطلاب ، وحين تكثر المجالس واللجان وتزدحم في الجامعة ووزارة المعارف لتقضي في كثير من الامور قضاء لا يفني ولا يجدي ، ولكنه محتوم على الذين يقضونه مهما تكن الظروف . وحين اتهيأ للسفر إلي أوربا إذا قضى الله لي السفر إلي أوربا .
فتلقيت الكتاب شا كرا وطلبت إلي صاحبي ان يقرأ لي منه فصلا أو فصلين أو فصولا لا أدري . ولكن الكتاب استقر في نفسي علي كل حال ، واستقر في نفسي انه من الكتب التي يجب ان تقرأ من أولها إلي آخرها ، وان تقرأ في عناية واناة وفي روية وتفكير . وان تقرأ لأنها تحقق النفعة والمتعة جميعا . فهي تعلم قارئها ما لم يكن يعلم فتنمية بذلك وتقويه وتضيف إلي شخصيته ما لم يكن فيها ، وهي في الوقت نفسه تسره وترضيه او تسوؤه وتسخطه ، فتحدث في نفسه هذه الذة الفنية التي ليست كلها سرورا ورضي ، ولكنها مزاج من السرور والرضى ومن السخط والضيق .
فطلبت من صاحبي أن يحفظ هذا الكتاب بين الكتب التي أريد أن اقراها إذا أتيح لي الوقت وأذنت لي بذلك الظروف . ولست أدري لم لم اصطحبه في سفري ولكني لم افعل على كل حال ، فصرفت عن الكتاب اشهر
الصيف ولم أعد إليه إلا في أول هذا الشتاء .
ولم اكن اعرف من أمر صاحبه شيئا إلا أنه مثقف عميق الثقافة في العلم والأدب جميعا ، ينفق حياته في البحث الخالص وفي الإدارة العلمية إن صح هذا التعبير . ولكنه لايتيح للعلم الخالص ان يستغرق حياته كلها ويأخذها من جميع اقطارها . وإنما يتيح لنفسه الاستمتاع باللذة الأدبية والفنية العليا ، قارئا للشعر والنثر ، مصطنعا للموسيقي متأملا في الصور والتماثيل والوان العمارة . ذائقا لهذا كله ، مقدرا له متحدثا فيه . وكنت اعجب منه بهذه الخصلة وأود لو استطعنا أن نحصى بين علمائنا جماعة تذهب مذهبه وتسير سيرته .
ثم عرفت آخر الأمر انه تخرج في مدرسة الطب واختص في الرمد ، وذهب إلي فرنسا بعد ذلك فأطال فيها الإقامة متخصصا في الاحياء المائية ، ثم عاد إلي مصر فعمل فيما يعمل فيه الآن .
فهو إذا طبيب وهو من علماء الحياة ، وهو بعد هذا كله رسالة يضرب في أقطار البحر والمحيط شرقا وغربا وشمالا وجنوبا . ويكتب لرحلاته هذه قصصا رسمية قوامها الدقة والتحفظ والاحتياط وإيثار الجد وحده وإحصاء الألفاظ والمعاني على نفسه . ولكنه دفع ذات يوم إلي رحلة طويلة في البحر الاحمر والمحيط الهندي على سفينة صغيرة جدا ضئيلة جدا خطيرة جدا . قد جمعت أربعين
من الانجليز والمصريين ، منهم العلماء ومنهم المدبرون لأمر السفينة بعقولهم والعاملون فيها بأيديهم وهم على ما كان بينهم من اختلاف الجنس والطبقة والمرتبة العقلية واللغة والدين والتقاليد ، قد عاشوا عيشة مشتركة وخضموا لطائفة من الظروف القاسية أو اللينة ، فرضت عليهم لونا بعينه من الحياة ولا ءمت بين حاجاتهم واحساسهم وشعورهم في غير موقف وفي غير وقت . وقد ألموا بكثير من المدن والجزر في أفريقيا والهند ، فاتصلوا بالناس وانفصلوا عنهم . وقد رأوا في البر والبحر أعاجيب مختلفة أثارت في نفوسهم ألوانا من الخواطر ، وفنونا من العواطف ، وضروبا من الأهواء ، ودفعتهم إلي قليل من العمل وإلي كثير من القول . وقد وفقوا إلي ما كانوا يريدون إليه من رحلتهم ، وظفروا بما كانوا يبتغون من من سفرهم الشاق الطويل ، وعادوا موفورين إلي وطنهم المصري أو الإنجليزي . وقدم الدكتور حسين فوزي قصته الرسمية لهذه الرحلة التي نسميها تقريرا . ولكنه لم يكتف بهذه القصة ، ولم يكن يستطيع أن يكتفي بها ، فقد ثارت في قلبه عواطف ، واضطربت في نفسه آراء ، وعرضت لعقله خواطر ، ولم يستطع أن يكظم من هذا كله شيئا ، فاضطر إلي تسجيله . ولم يستطع أن يسجل هذا لنفسه ، فاضطر إلي إذاعته ، وأنبأنا بأنه سعيد مغتبط ، إن قبل أصدقاؤه كتابه هذا على علاته ، ورضوا عنه ، وشاركوا صاحبه فيما وجد من حس ، وما آنس من شعور ، وذهبوا معه إلي حيث ذهب ، وأقاموا معه حيث أقام . وصدقوه في أنه لا يتكلف أدبا ولا فنا ، ولا يتصنع إجادة ولا جمالا ، وإنما يرسل نفسه على سجيتها حين يفكر ، ويجري قلمه علي على سجيته حين يكتب .
وأنا أريد أن أصدقه فيما يقول من هذا كله على شيء من التردد في هذا التصديق ، ساظهر مصدره بعد حين . ولابد من أن أبدا بتسجيل إعجابي بهذا الكتاب إلي أبعد
حد ممكن من الاعجاب ، ورضاي عنه إلي أقصى غاية ممكنة من الرضي ، لولا أن هناك أمورا تكاد تردني عن هذا الامجاب ردا عنيفا ، وتصدني عن هذا الرضي صدأ قاسيا . فموضوع الكتاب خليق أن يلذ ويتمتع ، وهو يلذ ويتمتع بالفعل وما رأيك في كتاب يصف صاحبه فيه رحلة بحرية طويلة قصد بها أصحابها إلي العلم الخائض ، ولكن صاحب الكتاب لم يصور لنا من هذا العلم الخالص شيئا ، وإنما أشرف بنا عليه ، وجعلنا نحس بحث العلماء وتقديرهم وتفكيرهم واستنباطهم ، ونشعر بأن هذا كله يجري وراء ستار ، فتعجب بهؤلاء العلماء دون أن نشاركهم في قليل أو كثير من التعب الذي يجدونه ، والجهد الذي يبذلونه ، والثمر الذي يجتثونه . ولكنا نري علي هذا الستار مناظر رائعة رائقة ، أو مروعة مفزعة ، ونسمع في المكان الذي نحن فيه أحاديث فيها العبث الذي يضحك ، ولكنه يضحك في إفادة وإمتاع . وفيها الصور التي تخلب بروعتها أو بترويعها ، وفيها الجد الذي يدعو إلي الروية والتفكير ، وفيها الشعور الذي يؤثر في النفس ويشيع فيها عن رضي أو عن كره ما يثور في نفس الكاتب من عاطفة ، وما يضطرب فيها من هوي أو ميل
الكتاب من غير شك مثير للذة والامتاع ، مملوء بالمنافع المختلفة التي تغني العقل ، وتكاد تثقل الذاكرة ، وهو من هذه الجهة كنز قيم جدا . ثم هو قيم من جهة أخري لأنه يثير التفكير في بعض الأمور الخطيرة ، وأول هذه الأمور حرية الكاتب ، فهو قد اخذ لنفسه من الحرية قدرا غير مألوف عند الذين يكتبون باللغة العربية في هذا العصر الحديث .
أطلق لنفسه حرية التفكير إلي أبعد حد مستطاع . فلم يرع لشيء حرمة ، ولم يرج لشيء وقارا . وأطلق لنفسه حرية التعبير إلي أبعد حسد مستطاع ايضا ، فلم يتحرج ، ولم يتحفظ ، ولم يصطنع هذا النفاق الذي يفرضه
الكتاب على انفسهم ، لأن العرف يفرضه عليهم ، ولانهم يؤثرون العافية ، ويريدون ان يعيشوا في هدوء وامن ودعة ، وان يتجنبوا سخط الساخطين ، ولوم اللائمين بل اطلق لنفسه حرية اخري ، مهما اكن من انصار الحرية ومؤيديها ، ومن الدعاة إليها ، والذائدين عنها ، والمستعدين للتضحية في سبيلها ، فأنا لها مبغض ، وعليها ساخط ، وبها شديد الضيق . وهي حرية مسخ اللغة العربية وإفسادها ، والعبث بأصولها وأشكالها في غير تحفظ ولا احتياط
هذه الحرية المطلقة التي أخذها الكاتب لنفسه أخذا ، تدعو إلي كثير جدا من التفكير ، والناس جميعا يعلمون أني أدعو إلي حرية الأدب ، وأريد ان يكون الأديب فوق ما يفرضه العرف على الناس من القيود ، ولكني مع ذلك أسأل نفسي: إلي أي حد يجب أن يستمتع الأديب بهذه الحرية ؟ أو بعبارة أخري : ما نوع هذه الحرية التي يجب أن يتمتع بها الأديب ؟ أمن حق الأديب أن يتعمد إفساد اللغة ، ويعبث بأصولها وأشكالها ، ويضع الالفاظ المبتذلة التى تنبو عن الذوق ، وتتجافي عن الطبع المثقف الصقول ، في موضع الألفاظ الصحيحة النقية اليسيرة ، التي تؤدي ما اراد تأديته من المعاني ، دون ان تؤذي الذوق ، أو تسوء الطبع ، أو تثقل على المزاج ؟
من الناس من لا يحسنون اللغة العربية ، ولا يقدرون على التصرف فيها ، ولا يستطيعون إخضاعها لما تضطرب به نفوسهم من العواطف والأراء ، فهم مضطرون إلي ان يؤدوا معانيهم كما يستطيعون ، وباللغة العامية ، وبالهجات المبتذلة التى يحسنونها وبقدرون عليها . ولكن الدكتور حسين فوزي ليس من هؤلاء ، فهو يحسن لغته العربية ، وملكها ، ويجيد اتخاذها اداة للتصوير والتعبير . ولست أزعم أنه يستطيع أن يطاول الجاحظ أو ابن المقفع ، أو ان يرتفع بلغته إلي حيث يعد من اصحاب الأساليب الرائعة
والألفاظ المختارة ، والتبريز في البيان . ولكني أزعم وكتابه نفسه يؤيدني فيما أزعم ، انه يستطيع ان يؤدى معانيه باللغة العربية تأدية حسنة لا بأس بها ، وقد لا تخلو أحيانا من روعة أو جمال . وإذا فما تعمد هذا الافساد ؟ وما حبه لهذه الألفاظ المبتذلة البغيضة التي لا استطيع ان أسمعها ، فضلا عن أن أطلق بها لساني ، أو أجري بها قلم صاحبي ، والتي لا تصور امتياز في الفن ، ولا صفاء في الطبع ، ولا اعتدالا في المزاج ؛ وإنما تصور نقائص هذه الخصال تصويرا بشعا مرذولا ؟ وهذا هو الذي يحملني على الا أصدق ما انبأنا به الكاتب من انه قد ارسل نفسه على سجيتها في التفكير والتعبير . فهو عندي وعند اصدقائه أرفي ذوقا ، وأصفى طبعا من أن يصطنع هذه الألفاظ مضطرا إليها . وأكبر الظن أنه قد تعمد اصطناعها تعمدا ، لأن له في الخصومة بين اللغة الفصحى واللغة العامية المبتذلة رايا يدفعه إلي هذا الشطط ويورطه في هذا الاسراف .
وأنا أعلم أن بين الكتاب الأوربيين ، والكتاب الفرنسيين خاصة ، من يذهبون في لغاتهم هذا المذهب البغيض . وقد قرأت كتب سيلين ووجدت في قراءتها لذة جاءتني من المعاني والآراء ، وإن كنت قد ضقت بألفاظها السخيفة المبتذلة ضيقا تشاركني فيه كثرة المثقفين من الفرنسيين . أفيكون من الحق أن نسير في لغتنا العربية سيرة سيلين وامثاله في لغتهم الفرنسية ؟ اليس من الحق علينا أن نفكر في أن إسفاف سيلين وأصحابه لن يضر اللغة الفرنسية شيئا ؟ لأن هناك ادباء بارعين لا يكادون يحصون ، وهم يؤثرون اللغة الفرنسية الممتازة بعنايتهم ويحمونها بإنتاجهم الرائع ، من سخف سيلين واشباهه . على حين أن الأدباء البارعين في لغتنا العربية يكادون يحصون في سهولة ويسر ، وان بلاءهم في حماية اللغة من الفساد لا يكاد يذكر ، وان كاتبا كالدكتور حسين فوزي قادر يمثل بهذا الكتاب الذي أذاعه في الناس على أن يسيء إلي اللغة العربية
وإلي ذوق الشباب من القراء ا كثر الف مرة ومرة مما يحسن إلي العقل والخيال مما يعرض عليهما من الخواطر والصور .
وأي لذة يجدها كاتب مثقف له ذوقه النقي الصافي في أن يصطنع هذه الألفاظ التي لا تسمع إلا في أهون البيئات شأنا واقلها حظا من رقي ، دون ان تدعو إلي ذلك ضرورة فنية أو تدفع إليه الحاجة إلي تصوير ما لا سبيل إلي تصويره إلا باصطناع هذا الشر . وانا ادعو إلي حرية الأديب ، ولكن حرية الأديب كغيرها من الحريات ، في حاجة إلي ان تنتظم ، والي إن تحد بعض الشئ ، لا بالقانون
فما ينبغي ان يكون للقانون على حرية الفن سلطان ، ولكن بالذوق العام ، وبهذا الحس المشترك الذي يصرف المثقفين الممتازين عن أشياء قد يتورط فيها غيرهم من الناس . وهذا الذوق العام يختلف باختلاف البيئات ، فهناك أشياء يقبلها الذوق العام الأوربي ، وينبو عنها الذوق العام المصري ، وليس علي مصر من ذلك بأس ،
فليس من الضروري أن نشبه الأوربيين في كل شئ . ولا ان نقلدهم في كل شئ ، وربما كان من الخير ان نرد انفسنا عن تقليدهم في بعض الأشياء ، لأنهم هم يضيقون بها وينفرون سها ، ولانها ليست في نفسها خيرا ولا سبيلا إلي الخير .
اخص شئ يمتاز به هذا الكتاب انه يعجب ويغيظ في وقت واحد ! يعجب ما فيه من المعاني والآراء ومن الصور الفنية الجميلة التي تثير النشاط وتدفع إلي التفكير ، ويعجب بهذه الجراءة التي تثب بالكاتب إلي أشياء لم يكن يخطر لي ان الأديب يستطيع ان يعبر عنها في صراحة
قبل وقت طويل وتطور بعيد المدى ، ولكنه يغيظ لهذه الجرارة نفسها لان الكاتب قد تجاوز بها الحد واعتدى بها لا أقول على العرف ، فأمر العرف عندي ليس بذي خطر عظيم ، ولكن على الذوق ، وعلي ما ينبغي للفن من الرقي والأمتياز والارتفاع عن السخف والإسفاف . وقد تسالني عن أمثلة لهذا السخف والإسفاف ، فما رأيك في أني ا كره ان امثل لهما في هذا الفصل ؟ واحيلك علي الكتاب نفسه إن شئت أن تظهر على شيء منها ، فهي شائعة فيه بغير حساب .
والصورة التي بقيت في نفسي بعد قراءة هذا الكتاب
مؤلة حقا داعية إلي السخط وإلي الإشفاق ، فهي صورة شئ جميل قيم في جوهره ، ولكن صاحبه تعمد تشويهه وإفساده وإشاعة القبح فيه ، فوفق إلي بعض ذلك ، ولكنه مع السرور لم يوفق إلي ذلك كله . وأنا واثق كل الثقة بأن الدكتور حسين فوزي يستطيع في غير مشقة ولاجهد أن يبرئ كتابه من هذا القبح ويخلصه
من هذا الفساد ، ويرده كتابا أدبيا رائعا ممتاز من أمتع ما كتب للناس في هذه الأعوام القليلة الماضية . ولعله لا يتكلف في ذلك إلا ان يأذن لصديق من اصدقائه بأن يعيد النظر فيه ويزيل منه هذا الحك الذي يجعل ملمسه خشنا مؤذيا ، وما اكثر الآراء التي لا أشارك فيها الكاتب ولكن اختلاف الرأي ليس عيبا يعيب الكاتب ولا الناقد . فلست اري معه مثلا ان كل ما في الغرب جميل . وما اظن أن تطوافي في الشرق إن أتيح لي ان اطوف فيه يردني إلي الإعجاب بالغرب في غير احتياط ، فقد يكون الغرب خيرا من الشرق وخيرا من الهند خاصة في أشياء كثيرة .
ولكن الغرب ليس خيرا كله ، ولم يخلق الله بعد حضارة هي خير كلها . وقد لا اوافق الكاتب على التصريح بأشياء لا خير في التصريح بها ، ولكن هذه قصة اخري . على أن لهذا الكتاب ولكتابين أو ثلاثة قد أتحدث عنها فيما يستقبل من الزمان ، دلالة مؤلة حقا ، فهي تدل إما على أن الناس لا يقرأون ، وإنما على أن الذوق العام والشعور مما يقرأ قد أدركهما كثير من التبلد والفتور ، وقد عشنا دهرا من الزمان كان الذوق العام فيه لا يكاد يتلقي كتابا فيه بعض ما في هذا الكتاب مما يصدمه او يؤذنه ، حتي ينشط للذود عن نفسه ويكون ما يسميه الناس رد الفعل . فأما الآن فاكتب ما شئت واعبث بالذوق ما شئت وثم ملء جفونك ، فالناس لا يقرأون أو هم يقرأون ولا يذوقون ، وكلا الأمرين شر . ومن يدري ؟ لعل هذا الفتور مقدمة نشاط أرجو أن يكون قريبا وان يكون شديدا .
