الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 607الرجوع إلى "الثقافة"

من الأدب الغربي:, شارلت برونتى . .

Share

كانت شارت برونتي بارعة النكتة ، قوية الملاحظة ، لاذعة في تهكمها وسخريتها . أما أسلوبها في الكتابة فكان أسلوب الفصحاء الذين لا تجد في أسلوبهم عوجا ولا امدا

المترجم لها هي واحدة من ثلاث أخوات هن : شارلت ) ١٨١٦-١٨٥٥ ( وإميلي جين ) ١٨١٨-١٨٤٨ ( و ) آن ( ) ١٨٢٠-١٨٤٩ ( . كان أبوهن قسيسا ايرلنديا هو باتريك برونتي ) ١٧7٧-١٨٦١ ( . وقامت على تربيتهن عمة لهن . وذلك على أثر وفاة أمهن ، يوم كانت كبراهن في الثامنة من عمرها . فلما بلغن مبلغ الشباب عملن كمريبات .

وقد علمن وهن في دور الطفولة أن يناقشن مسائل الموت وما بعد الموت . ولم يرين - وهن في بيت أبيهن - من الرجال أحدا غير محارمهن . وكن إذا نظرن من النافذة لا يرين غير المقابر بقبورها الصامتة ، وغير أرض سبخة ذات نز وملح . دعاهن والدهن ذات يوم ووجه إلى صغراهن سؤالا هذا نصه : ما هو ألزم الأشياء لطفلة في مثل سنك ؟ . قالت ) آن ( وكانت زرقاء العينين في الرابعة من عمرها : العمر والتجربة

وسأل ) إميلي ( وكانت في الخامسة من عمرها : ماذا أصنع لأقوم من اعوجاج أخيك ) برانويل ( ؟ . قالت : جادله بالتي هي احسن ، فإن لم يرعو فاضربه بالسوط . . وسأل ) شارلت ( ، وكانت في الثامنة من عمرها : ما هو أحسن كتاب في العالم ؟ قالت : الإنجيل ومجالي الطبيعة . . وقد عملت المترجم لها - يوم كبرت - كمعلمة في إحدي المدارس ، ولكنها لم تكن تحب هذه المهنة ، وأرسلت يوما

بعض قصائدها إلى الشاعر روبرت سوذي وسألته إن كان يري انها تصلح للأدب ، فأجابها هذا التزمت القديم باسلوبه اللاذع يقول : إن الأدب لا يمكن أن يكون شغل المرأة ابدا ، ولا يجب أن يكون كذلك

وأرسلت فصلا من فصول رواية لها إلى الشاعر ) وردزورث ( فاجابها : انه لا يستطيع أن يعرف إن كانت مؤلفة الرواية كاتبة عند واحد من موثقي العقود ، أم كانت خائطة ثياب قد أصاب عقلها الخبل .

وكان هذا كافيا ليصدها عما أخذت نفسها به . فقبلت أن تعمل كمربية في بيت رجل من أوساط الناس يقيم في لندن ، ولكنها وجدت نفسها شقية الشقاء كله . فقد كتبت مرة بتهكمها اللاذع تقول : إن أسعد يوم لقيته هناك ، هو ذلك اليوم الذي خرج فيه عند الأصيل ) السيد سدجويك ( وفي صحبته أولاده وكلبه . وقد أمرت أن اسير وراءهم ، على أن يكون بيني وبينهم بضع خطوات . .

وإذا سألتني عن الأطفال الأعزاء ، أولاد ذلك السيد ، فإني قائلة لك إنهم قد برعوا البراعة كلها في القذارة ، بل قل إنهم قد أتوا فيها بالعجزات . فهم يريقون اللبن على غطاء المائدة ، وهم يزجون بأصابعهم في آنية بعضهم ، وهم يمسحون أفواههم وأيديهم في ملابس أمهم ، وهم إذا نطقوا سمعت لهم خوارا ، كانه خوار البقر . وراهم يبصقون إما في وجوه بعضهم ، وإما فوق جلباب مربيتهم .

وأني لأطفال أن يطيعوا مربية لهم ، كأنها في دمامتها سعلاة من السعالي .

وتساءلت صاحبتنا بعد أن أصابها الاخفاق : أية حرفة بعد ذلك تحترف ؛ أما الزواج فلا ينبغي أن يدخل في حساب فتاة لم ترزق مالا أو جمالا .

وقد وصفت مرة دمامتها فقالت : إنه إذا نظر إلي وجهي رجل غريب ، فإنه سوف يعمل جاهدا ان لا ينظر أبدا إلى ذلك الركن الذي اجلس فيه .

وكانت ) شارلت ( تري لزاما عليها يومئذ أن تأخذ يد أهلها . وقد جاءتها الفرصة في كتاب تلقته من إحدي زميلات المدرسة ، وكانت تدير مدرسة داخلية في بروكسل تقترح عليها فيه أن تجيء لتعمل عندها كمدرسة .

فغادرت صاحبتنا بيت أهلها وأقلعت بها السفينة إلي بلجيكا ، وهي تناجي نفسها بقولها : إني أمكث هناك سنة أزداد فيا علما وتجربة ، ثم أعود إلى بلدي افتح فيها مدرسة للفتيات .

وفي تلك المدرسة لقيت الأستاذ ) هيجر ( فعلقت به ، وكان هو زوجا وأبا لخمسة أطفال ، وكان آية في قبح الصورة ودمامة الخلقة ، وكان يرجع إلي أصل ألماني ، وكان قصير الساقين ، وكان ذا جمجمة مقببة ، وكان الناظر خلال منظار ، يري عينين كأنهما فحمتان تحترقان . وهو في الجملة كائن أسود صغير . له وجه يختلف في التعبير والإبانة باختلاف ما يدور بنفس صاحبه . فهو تارة يعطيك صورة عن سنور قد أصابه الكلب ، وهو تارة يمثل لك ضبعا ، قد أصابتها الحمى فجنت ، وكان يختلف عن صاحبتنا في العمر وليل والمزاج . فقد كان سريع الانفعال . تسح دموعه سحا إذ هو يلقي محاضراته . ولكنه على الرغم من ذلك كله كان أذكي رجل رأته . فقد كشف لها عن افق واسعة في دنيا الفلسفة والعلم والفن .

ولما انقضت مدة التعاقد عادت ) شارلت ( إلي بلدها ، ولكن الأستاذ " هيجر " كتب إلي أبيها يطلب عودة تلميذته النابغة إلى بروكسل ، فعادت وكأنها كانت تحت تأثير سحر ساحر شيطان . فلما تلاقيا طلب إليها أن تعلمه الإنجليزية فطربت لهذا

طربا مبعثه أنها سوف تخلو بذلك الرجل الذي أصبح هوى لها

وكانت ) شارلت ( ترضي من صاحبها بالنظرة العجلي ، وبأن تظل ساعة تستمع لحديثه . وكان استاذها هذا إذا حدثها حديث الحب كان كأنه يتكلم عن فكرة مجردة . وانقضي عامان . وضاق بكتمان الحب صدرها ، فخرجت يوما تهيم علي وجهها ، ووقفت أمام إحدي الكنائس الكاثوليكية - وهي فتاة من البروتستنت وهناك اقتحمت الباب وتقدمت إلي كرسي الاعتراف تفضي بمكتوم سرها ، ثم عادت فحزمت امتعتها ، ورجعت إلي قريتها ، وكتبت إلي استاذها تقول في لهجة تقذف باللهب :

سيدي : إن الفقراء لا يبتغون إلا أقل القوت الذي يقيم صلبهم ، وهم لا يسألون الأغنياء إلا فتات موائدهم . وكذلك أنا . لست أريد ممن احب إلا قليلا من الود ، وقد يكون صدى كلمتي هذه أن يقول قائل : إنها تهذي وكل ما تمليه على خواطر الانتقام هو ان أتمني أن يذوق من أحب بعض ما أذوقه من عذاب السعير ، الذي ظللت اتلظي بلهيبة ثمانية أشهر كاملة ، وسأري يومئذ إن كان يظن بنفسه أنه يهذي . .

والمرء يذوق العذاب في صمت ، ما دامت له قوة على الصمت ؛ فإذا خذلته قواه نطق بكلمات ليس الاتزان من خصائصها .

ولما لم تظفر برد خطابها كتبت إليه مرة أخري تقول : حاولت أن انساك ، فا كثرت من شواغلي . ولجأت إلي كل حيلة ، ولست أدري لم لا أهبك من صداقتي بمقدار ما تهب . . واني لأرجو منك يا أستاذي أن تحدثني اي  حديث ، حدثني حديث أطفالك ذلك أني أريد ان اسمع منك ، فحديثك عندي هو الحياة .

وأخيرا جاءها منه كتاب ظلت فاتحة به ستة أشهر . ثم كتبت إليه تقول : لقد كان كتابك غذاء لنفسي في الأشهر الستة الماضية ،

وإني لفي حاجة ملحة إلي كتاب جديد ، وإني لواثقة أنك سوف تبعث . ذلك لأن قلبك الرحيم سوف لا يرضي بأن يطول عذابي ، لتكسب أنت بضع دقائق . .

فلما طال عذابها ، أمسكت بالقلم لتكتب قصصا ، و وقالت لأختيها : سوف أريكما ان الكتاب مخطئون ، إذ يصورون بطلات قصصهم جميلات فاتنات . وسأريكما بطلة في مثل صورتي لا تعرف الملاحة السبيل إليها .

واتخذت لقلمها اسما هو Currer Bell فقال الناس : من يكون هذا الكاتب الذي كتب قصة خرجت على ما تعارف الناس عليه ، ووصف فيها حب عربية لرجل متزوج من امرأة مجنونة .

وأرسل " ثاكيراي نسخه من روايته ) سوق الغرور ( إلى مؤلف رواية ) جين إير ( ، وكان رد التحية ان اهدت إليه الطبعة الثانية من روايتها تلك . وظن الناس أنها كانت حظيته .

وبينها كانت Currer Bell  ترشف كئوس المجد متربعة فوق رفوف المكتبات ، كانت صاحبة هذا الاسم تذوق من صنوف الحزن ألوانا ؛ فقد مات اخوها ، وكان في الحادية والثلاثين من عمره ، وبعد بضعة أسابيع لحقت به أختها ) إميلي ( ، وبعد شهر من وفاتها سعلت الصغري ) ان ( كما سعلت ) اميلي ( من قبل فنقلتها ) شارلت ( إلي بلد على ساحل البحر ، لعل هواء البحر ينقذها . ولكن ) إميلي ( أمسكت بيد اختها وقالت : لا تهني ولا تجزعي ! وفي أصيل ذلك اليوم قضت الفتاة نحبها

وتقدم إلي ) شارلت ( في أخريات حياتها أحد رجال الكنيسة يعلن إليها حبه ، ويطلب يدها ، وبعد عراك نفساني عنيف قبلت أن يكون زوجا لها .

ومرت شهور ، وذاع بين الناس نبأ يقول إن ) شارلت ( على وشك أن تضع حملها ، وإن طفلا على وشك ان يجيء إلى هذه الدنيا ليري فصول الرواية ، رواية الحياة بحظوظها المقلوبة ، وبناسها الذين يتعاورهم السعد والنحس . ومرضت ) شارلت ( ، وجاء الطبيب وبشر بالشفاء

وقال : أن لا خوف عليها ، وأحست بقوة ، وهي في غمرة المرض . ولكنها كانت قوة هي صحوة الموت ، ثم رفعت رأسها وقالت لزوجها : ) اني أسعي إلي الموت سعيا . ولن يفرق الموت بيني وبينك ، فقد كنا سعيدين ) عن الإنجليزية

اشترك في نشرتنا البريدية