يرتبط يوم عاشوراء بتاريخ الشيعة ارتباطا وثيقا ففي العاشر من المحرم سنة إحدي وستين من الهجرة ، قتل جند ابن زياد عامل يزيد بن معاوية علي العراق الحسين بن علي رضي الله عنه في كربلاء ، ومن ذلك التاريخ بدأ الشيعة يظهرون بشكل حزب له آراؤه الخاصة في السياسة والدين - حقا لقد كان لعلي بن أبي طالب أنصار وأشياع منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد التف حوله أقرباء النبي عندما بايع المسلمون أبا بكر . والتف حوله بعض الناس من غير آل النبي بعد وفاة عمر ، وغضبوا عندما استقرت الخلافة لعثمان . وانضم إليه عامة العراقيين لما شجر النزاع بينه وبين معاوية وقاتلوا معه . إلا أن أتباع علي في كل هذه الأدوار لم يكن في تشيعهم له حماسة ولا تعصب يبلغ بهم ان يكونوا حزبا ، حي لقد خذلوه وخذلو ابنيه الحسن والحسين من بعده . فلما قتل الحسين ، وكان قد خرج بدعوة منهم اعتقدوا انهم مسئولون أمام الله عن دمه وعن دم أبيه . ومن الشعور بتلك المسئولية نبت تعصبهم لعلي ولاولاده وتحمسهم في الدعوة لهم ، ومن هنا يبدأ حزب الشيعة .
لا غرابة إذن في ان يحيي الشيعة ذكري يوم عاشوراء ولما كانت ذكراه عندهم ذكري الم واسف وندم ، فقد كان إحياؤهم لها يتضمن كثيرا من ضروب الحزن والآسي وإظهار الندم لتفريطهم في الدفاع عن الحسين . ولقد غالي الشيعة فأضافوا إلى إظهار هذه العواطف ضروبا كثيرة
من تعذيب النفس على سبيل التكفير عما ارتكبوه من ذنب ذلك التفريط .
وتكون حزب الشيعة والسلطان في يد بني امية ، الد اعداء الشيعة ، فما تكون حزبهم إلا ليناوي دولة الأمويين . فكان من الطبيعي ألا يترك الأمويون الشيعة يظهرون الخزن في يوم عاشورا ، ويتبادلون فيه العزاء دون أن يجرحوا شعورهم ويؤلموهم . فاستن الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان سنة إظهار السرور في يوم عاشوراء ، فكان انصار الامويين يظهرون فيه الفرح والسرور ويولون الولائم . ولما كان الشيعة قد استقروا في العراق ، وكانت الشام معقل انصار الامويين ، فقد كان التفاوت عظيما جدا في يوم عاشوراء ، بين النواح والعويل وتبادل العزاء في العراق ، وبين إعلان الفرح والسرور والتجمع على الولائم في الشام .
وكانت مصر سنية منذ فتحها العرب لتوالي تبعيتها الدول سنية ، من الامويين إلي العباسين إلي من استقل بها من الاتراك في أواخر الدولة العباسية ، ولكنها لم يخل يوما من الآيام من بعض الشيعة . وكان هؤلاء الشيعة يحاولون إحياء عاشوراء بالعويل والصياح والترحم على الحسين والإشادة بفضائل آل البيت ، ولكنهم كثيرا ما تعرضوا لانتقام الحكومات السنية . فمن ذلك ما يروي المقريزي من أن الشيعة تجمعوا في يوم عاشوراء سنة خمسين وثلثمائة عند قبري أم كلثوم والسيدة نفيسة وصاحوا واعولوا .
وكانت الولاية حينئذ لكافور وكان يتعصب على الشيعة ، فاشتبك معهم الجند السودانية وقتل جماعة من الفريقين .
ثم قامت الدولة الفاطمية في مصر والفاطميون من غلاة الشيعة ، والدولة دولتهم، فأجيبوا يوم عاشوراء على ما طلب لهم من الهيئة والرسوم. ففي عهد العزيروى ابن زولاق أنه فى عاشوراء من سنة ثلاث وستين وثلثمائة ، الصرف خلق من الشيعة وأشياعهم - متشجعين بوجود المعز إلى مشهدى أم كلثوم ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة بالنياحة والبكاء على الحسين ، وكسروا في طريقهم أوانى السقائين. وغضب لذلك جمهرة السنيين وكانت تقع الفتنة لولا أن قمعها الجند المغاربة
ولما استقرت الدولة الفاطمية بعد المعز، وتقررت رسومها وتقاليدها وعاداتها في عهد العزيز ومن أتى بعده من خلفائهم ، أصبح ليوم عاشوراء تقاليد مرعية وتقرر عندهم عيداً للحزن. ففى اليوم العاشر من المحرم يحتجب الخليفة من الناس في الصباح على غير عادته، ورك قاضي القضاة ومعه الدعاة إلى المشهد الحسينى وقبل أن يبني كانوا يركبون إلى الجامع الأزهر). ويجلسون فيه ومعهم القراء والمنشدون والشعراء ثم يحضر الوزير فيجلس في الصدر وإلى جانبيه القاضي والداعي، يليهما من هم دونهما في الرتبة ثم يقرأ المقربون وينشد الشعراء مراثيهم في آل البيت وفضائل أولاد على ويستغرق ذلك نحواً من ثلاث ساعات ثم يركبون جميعاً إلى قصر الخليفة
وفى قصر الخليفة يكون محاط الحزن قد مد . وهو سماط الفرق بينه وبين سائر الأسمطة الفاطمية عظيم وعجيب ! في الأعياد والمواسم الأخرى كانت تعد الأسمعلة في قاعة الذهب وتزين بالأزهار والرياحين ، وتعد بما لذ وطاب من ألوان الأطعمة من الحملان المشوية والدجاج والحمام وقصور السكر وتماثيل الحلوى. أما سماط الحزن في يوم عاشوراء
فقد كان يمد في قاعة متواضعة من قاعات القصر . والسماط من الخشب لا يعلوه مدورات قضية ولا يحاسبة كالمعتاد . وقد خلا من الزهور والرياحين ، وأعد بالآلوان الحقيرة من المأكولات ، فما تخرج عن العدس الأسود والجبن والسلائط والمخللات والملوحات والخبز من الشعير ، وقد تعمد تغيير لونه بالقصد ، والحاوي فيه عسل النحل لا غير ، والأطباق من الخزف ، ويجلس الخليفة علي كرسي من الجريد بغير مخدة . ويكون متلئما هو وجميع حاشيته ، والحزن باد علي وجوههم . وبأذن للوزير وغيره من الوجوه ؛ فيدخلون جميعا ملثمى الوجوه حفاة الأقدام ، ويجلسون كل في موضعه في صمت وإطراق . ويتناولون كل على قدر طاقته من هذه الأطعمة . ثم ينصرف الخليفة ومن معه ، ويباح السماط لكل راغب من عامة الناس فلا يبقى منه شئ ، وتفرش دهاليز القصر ومصاطبه في ذلك اليوم بالحصر بدل الابسطة ، ويجلس عليها المنشدون والشعراء يرتلون فضائل آل البيت ومراثي الحسين .
اما القاهرة فتكون موحشة في ذلك اليوم ، فالحوانيت جميعها مغلقة ، وتتعطل الأسواق من تجارة وصناعة ، ويعم النواح أرجاءها ويتعالي الصياح والعويل ، ويكف السقاءون عن توزيع الماء لأن الحسين منع الماء مدة قبل قتله . ويستمر ذلك إلي ما بعد العصر ، فيفتح الناس حوانيتهم وتعود المدينة إلي مألوف حالتها .
وظلت رسوم يوم عاشوراء على هذا النحو على طول ما امتد تاريخ الفاطميين في مصر . حتى إذا سقطت دولتهم ، وقامت مكانها دولة الأيونيين تغيرت الحال وتبدلت الرسوم .
كان صلاح الدين بن أيوب سنيا متعصباً على المذهب التعليمي ولذا اهتم أول ما اهتم بتعفية آثار ذلك المذهب في مصر فيدل الموظفين ، وحول القضاء وغير العادات والتقاليد
وكان من طبيعة الأمور أن تكون رسوم يوم عاشوراء أول ما يتناول بالتغيير ما دامت كما وصفنا من أسس مذهب الشيعة.
وفجأة ينقلب يوم عاشوراء في مصر من عيد حزن وبكاء، وموسم ندم وعزاء ، إلي عيد فرح ، وموسم سرور وابتهاج ، يوسعون فيه على عيالهم بإكثار الطعام الوانا وكما ، ويصنعون الحلواء ، ويتخذون الأواني الجديدة ، ويكتحل الناس ويخضبون ايديهم ويدخلون الحمام ، ويعم الفرح والسرور ، ولقد عبر عن ذلك أبو الحسين الجزار الشاعر اللطيف خير تعبير عندما اخر عنه شهاب الدين ناظر الأهراء ما كان مرتبا له منها . وكان شهاب الدين شريفا اي من نسل على ، فكتب أبو الحسين إليه ليلة عاشوراء بالآبيات الآتية يعرض له بأنه إن جاءه بهيئة السرور غاظه :
قل لشهاب الذين ذى الفضل الندى
والسيد ابن السيد ابن السيد
أقسم بالفرد العلي الصمد
ان لم يبادر انجاز موعدی
لأحضرن المناء في غد
مكحل العينين مغضوب اليد
هكذا كان يوم عاشوراء طوال عهد الدولة الأيوبية، وما تلاها من الدول السنية من المماليك إلى العثمانيين وإن كانت القرائن التاريخية تدل على أن الاحتفال بذلك اليوم وإظهار السرور والابتهاج فيه لم يستمر على نحو ما كان متبعاً في عهد الأيوبيين. فالجبرتي لا يشير في تاريخه المفصل إلى احتفال بيوم عاشوراء في أية سنة من السنين مع اهتمامه بناحية الأعياد القومية والاحتفالات الشعبية. ولما قدم نابليون إلى مصر على رأس حلته المشهورة سأل عن الأعياد والمواسم القومية والدينية ، وأمر بمواصلة الاحتفال بها كما كانت
العادة قبل قدومه ، واشارك هو وعساكره في تلك الاحتفالات . ولكنا لا يجد ليوم عاشوراء ذكرا بين ما احتفل " من المواسم ، وهذا الأمر معقول تماما ، إذ ان يوم عاشوراء ليس فيه ما يستوجب السرور وإعلان الفرح ، ولم يكن ذلك في أيام الأيوبيين إلا ردا علي تغلفل المذهب الشيخ في مصر ايام الفاطميين ، وإلا أثرا لروح البغض والتشفي من دولة ظافرة لدولة مقهورة . ثم لما تقادم العهد وذهبت نشوة الانتصار ، ومات غل البعض في الصدور ، ترك ذلك الاحتفال المفتعل بيوم عاشوراء .
ولكن بالرغم من ذلك فقد بقيت آثار كل من الرسوم الشيعية والرسوم النلية ليوم عاشوراء في تقاليدنا الشعبية الموروثة ، التي يتبعها عامة الشعب بدون تفكير فى أصلها ولا نظر إلى مغزاها . فما زال يوم عاشوراء فى مصر إلى الآن موسماً شعبياً له أهميته فى نظر الناس ، يوسعون فيه على عيالهم ويتبسطون في الأطعمة. وهم يبالغون في الاهتمام بذلك حتى إن بعضهم يروى أحاديث عن النبي - لا شك فى أنها مكذوبة - تحض على التوسعة فى هذا اليوم ، وهذا هو أثر الرسوم السنية في الشعب، وإلى جانب ذلك فجد اتجاهاً آخر يشير إلى أثر الرسوم الشيعية، وهذا هو أن بعض الناس ما زال للآن يمتنع عن شرب الماء في أكواب من الزجاج في ذلك اليوم ، وحتى في العشرة الأيام الأولى من المحرم كلها ، وفى هذا إشارة إلى الحداد على أن الحسين مات وهو في حالة ظماً شديد. وهكذا نجد أننا الآن قد ورثنا تقاليد السنيين والشيعيين جميعاً ، بعد أن طهرها طول الزمن من شوائب التعصب وما أجمل ما قال المقريزى من أن كلاً من إظهار السرور وإعلان الحداد في ذلك اليوم غير جيد والصواب ترك ذلك والاقتداء بفعل السلف الصالح ...
عن شخصيته ، ويختلف عن خلق الأشخاص في المسرحيات والروايات ، وهو يعرض الشخصية المعروفة في ضوء جديد وثوب قشيب، ويضعها في الموضع الذي يلائم مزاجه الفنى وإدراكه للجمال ، وهو يستهدى في عمله بالوثائق التاريخية والمراجع والنصوص، وعمله متصل بالعقل الواعي النافذ أكثر من اتصاله بالعقل الباطن ، وهذا هو الفرق بين خلق الروائى وخلق كاتب التراجم ، فالترجم يعمل تحت ضغط الوعى، والمؤلف الروائى يعمل على مسابح العقل الباطن ، وقد حاول بعض کتاب التراجم في العصر الحديث مزج الطريقتين رجاء الإغراب والتشويق ، ولكن الإمعان في هذا الأسلوب لا يخلو من خطر على التاريخ، وهو يغرى بعض الناس بالإعراض عن المراجع الصحيحة وتقبل الروايات المتوهمة والأخبار المشكوك في صحتها، والفضيلة التي يحسن إكبارها في كاتب التراجم هي الأمانة الجاهدة فى استكشاف الخبايا واستثارة الدفائن ، وحسن الاختيار في انتقاء الحوادث الدالة والأخبار الموحية، وتكوين صورة أقرب ما تكون إلى الأصل في نظر العارفين والدارسين ، وبطبيعة الحال ستتلون الصورة بمزاج المؤلف وتبدو عليها أثر شخصيته ، ولكن كلما قل تأثر الصورة بلون المزاج وظل الشخصية كان ذلك أجدى على التاريخ وأقرب إلى دقة التصوير وصدق الأداء ، وكتابة التراجم تعتمد على النقد والخلق معاً ، ولكن النقد قائم على التجرد التام والتعلق بالحق لا الاسترسال مع نزعات النفس والاندفاع فى سبيل الأهواء وهذا هو سبب ندرة الإجادة في النقد وكتابة التراجم ، وكاتب التراجم مطالب بأن يكبح أهواءه ويقمع ميوله ، ولكن عليه مع ذلك أن يظل مالكما لقدرته على التلوين والتصوير وأن يتخلص من سلطان الأحكام المألوفة ورق عبادة الأجداد وتمجيد القدماء ، ويرتفع فوق نوازع التحيز والتعصب ، فطريقه حافل بالأخطار، ويستلزم مقداراً غير يسير من الشجاعة الأدبية والثقة بالنفس والقدرة على تخطى الفجوات الفاغرة ورياضة
الصعاب المعترضة ، والمزج بين العطف والنقد ، والموازنة بينهما هي سر التراجم البديعة الخالدة
وخلق الأشخاص في المسرحيات يتجه أول ما يتجه إلي جعل الشخص ملائما " لعقدة الرواية وحبكتها المسرحية ، صالحا للظهور علي المسرح ، والمؤلف مقيد إلي حد كبير في رسمه وتصور أشخاصه بطرائق الإخراج وطاقة المسرح ، فهو لا يملك حرية الروائي ، ومن ثم كان أشخاص الروايات في الأعم الأغلب أوفر حياة وأوفى شخصية من أشخاص المسرحيات ، لأن قوة الفنان المبدعة تجد من المسرح ما يحدها وينال من حريتها ، وهذا مما يجعل معرفة دفائق المسرح عنصرا هاما في تأليف الروايات المسرحية ، وخلق الأشخاص في الروايات أكثر تحررا من القيود وانأي عن الضرورات ، والمجال فيه أوسع والمدي مترامي الحدود منبسط الرقعة . على أن هذه الحرية تجعل تأليف الروايات أكثر جاذبية وأعظم صعوبة في نفس الوقت ، وموقف الروائي يختلف عن موقف كاتب التراجم وليس أمامه مسرح ليتحكم في خياله ويسيطر على حوادثه ووقائعة ، وإنما هو يتلقي وحبه من حادثة خاصة أو شخص معين يؤثر في نفسه ويثير خياله ويحرك عقله الباطن من أعماقه . وتبدأ من ثم جرثومة الخلق وتنمو وتتزايد وتتكون حولها التأثرات المناسبة الناعسة في طوايا العقل الباطن ، حتي تستتم الجرثومة حياتها ويتكامل تكوينها وتفرض عليه التعبير عنها وإطلاقها من سجنها بالقلم الموفق والحروف المسطورة
ولقد تحدث الكاتب الروسى الروائي ترجنيف عن طريقة خلقه لشخصية بازاروف بطل رواية « آباء وأبناء » فذكر أنه التي في أحد أسفاره بالقطار بطبيب ناشي لمح فيه طرازاً جديداً من الناس وتمت الرحلة ولم يو. بعدها ، ولكنه ترك فى نفسه أثراً قويا فظل يتصور أسلوب حياة هذا الشاب ومنهج تفكيره وبدون ذلك في يومياته لمدة
( البقية على الصفحة التالية )
أشهر، حتى صار يعتقد أنه قد أدرك مشاعر ذلك الشاب وسلوكه فى مختلف المواقف ، وأصبحت شخصيته عنده معروفة المعالم واضحة السمات، وشرع بعد ذلك بكتب روايته المشهورة ، وقد أدرك ترجنيف من فحاوى حديث الشاب أنه فوضوى المذهب ، فعمد إلى خلق الجو المناسب لإظهار شخصيته وآرائه ومذهبه على أن أكثر نقاد ترجنيف بأخذون عليه أن عقله الواعي كان له أو مذكور واضح في خلقه، وأنه كان يعتمد إلى حد كبير على حسن الاختيار وبراعة التنسيق ، ولذا ينقص بعض رواياته الحيوية القوية والدالاقة والحرية ، وهى سمات الخلق المستمد من العقل الباطن الذي يجود بسخاء ويضع كل مدخراته تصرف العقل الواعي
