الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 289الرجوع إلى "الثقافة"

6 - عبد الله نديم

Share

خرج " النديم " إلي يافا ، حيث كان قبل العفو عنه ، ورتبت له الحكومة المصرية خمسة وعشرين جنيها شهريا يعيش بها ، علي شرط ألا يكتب شيئا في الجرائد يتصل بسياسة مصر .

وما لبث أربعة أشهر في يافا حتى وشي به الوشاة بأنه يطعن في سياسة الدولة العلية ، ويلمز السلطان ، فصدر الأمر بإبعاده أيضا

فها هو يذرع الأرض لا يعرف أين يستقر ، فلا مصر تقبله ، ولا أي أرض من أراضي الدولة العثمانية تحله ، ونزل بالإسكندرية أياما حتي تحل مشكلته

وقد كان كثير من أحرار العثمانيين إذ ذاك قد سافروا إلي أوروبا ومصر ، وأنشأوا الجرائد يطالبون بالدستور وبإصلاح الدولة ، وينقدون السلطان نقدا مرا ؛ فكان من سياسة عبد الحميد في بعض الأوقات أن يسترضي هؤلاء الناقمين ، ويحبب إليهم الإقامة في الآستانة تحت سمعه وبصره ، ويجري عليهم الرزق الواسع ، ويسند إليهم بعض المناصب فيتقي أذاهم ، ويستجلب رضاهم . فاحتشد في الآستانة من أرباب العلم واللسان عدد كبير ، منهم السيد جمال الدين الأفغاني وغيره من أدباء الترك وشعرائها وساستها ؛ فكان أن الغازي مختار باشا أشار على الدولة العلية أن تعامل عبد الله نديم هذه المعاملة فقبلت . وسافر إلى الآستانة . وصدرت الإرادة السلطانية بتعيينه مفتشا للمطبوعات بالباب العالي بمرتب 45 جنبها مجيديا ، مضافة إلي الخمسة والعشرين التي يتقاضاها من مصر - ينفق كل ذلك على نفسه وإخوانه ، ومن يبره من أهله وأقاربه ؛ ومن أيام المنصورة عرف بأنه صناع القلم واللسان ، أخرق اليد

دخل الآستانة ، فدخل القفص الذي دخل في مثله

جمال الدين الأفغاني ، وغاية الأمر أن قفص جمال الدين ضيق من ذهب ، وقفص النديم واسع من حديد ، يختلفان بمقدار الخطر من كل منهما ومكانته وحسبه ونسبه ؛ فالسيد جمال الدين يخصص له بيت فخم ، ويجعل تحت أمره عربية وخدم وحشم ، وبجري عليه 75 ليرة في الشهر ، وتعرض عليه مشيخة الإسلام فيأبي ؛ وعبد الله نديم يعين مفتشا للمطبوعات بخمسة وأربعين ليرة ، ولا بيت ولا خدم - ولا غرو فالسيد جمال الدين سيد في طبعه وحسبه ونسبه ، كان يعد نفسه قرينا للشاه والسلطان ، لا يقل عنهما إلا بما شاء القدر من تحليتهما بالملك وعطله منه ؛ وعبد الله نديم ري أنه من الشعب وابن الشعب وخادمه ، لا يمتاز إلا بما منحه الله من ذكاء ولسن . إذا دعا السيد جمال الدين إلي الإصلاح شعر بأنه يخطب الناس من أعلى مكان يشرف عليهم ، وهو غضوب وقور ، وإذا دعا " النديم " شعر بأنه واقف في وسطهم يضحك لهم ويضحك منهم ويصلحهم . ولهذا كان جمال الدين جليلا يسمع لقوله في رهبة وخشية ، وينصح الناس وكأنه يضربهم بالسياط ؛ وكان النديم محبوبا يقابل بالابتسام ويقبل قوله في فرح ومرح ، ولذلك كان أسف الناس في مصر على فراق النديم أكثر من أسفهم على فراق جمال الدين ، لأن سؤدد جمال الدين في الخاصة وسؤدد النديم في العامة .

وعجيب أن يقبل " النديم " وظيفة " مفتش للمطبوعات ، وهو الذي كان يتعب دائما إدارة المطبوعات ؛ وأن يرضي أن يتحكم فيه أحد ؛ وأن يرضي ان يكون أداة لتقييد الحرية ، بعد أن كان داعية لتأييد الحرية ! ولكن يخفف من هذا أن " الوظيفة " كانت صورية محضة ، وكان الغرض منها أن يمنح الخمس والأربعين ليرة في مظهر

غير وضيع .

ها هو في الآستانة قد عطلت كل مواهبه ، فلا خطابة ولا كتابة ، ولا تهييج ولا تحميس ، وهو في وسط يكاد يختنق منه ، لا يفرج عنه إلا مجلس السيد جمال الدين ، يحادثه ويسامره ، وكل يشكو إلى صاحبه قفصه

ولكن أنى لصاحب هذا اللسان أن يهدأ ؟ لقد وقع في الخصومة مع أبي الهدي الصيادي ، كما وقع فيها معه السيد جمال الدين ؛ ولكن السيد عف اللسان في الخصومة الشخصية ، أما " النديم " فويل لمن عاداه

كان أبو الهدي عجبا من العجب ، إذا أرخت الدولة العثمانية في عهد عبد الحميد احتل كثيرا من صفحات تاريخها ، وكان مستترا وراء الصفحات الباقية ؛ يرن اسمه في كل أنحاء المملكة من مصر وسوريا والعراق وتونس والحزائر ، ويتقرب إليه الولاة في حل كل عظيمة - أثبت ) القدر أنه على كل شيء قدير .

سوري من حلب ، فقير المال والحسب ، دفعته المقادير إلي الآستانة ، وكان ماهرا ذكيا ، وسيم المحيا ، ماضي العزيمة ، قادرا علي معرفة نفوس الناس ومن أين تؤتي ، فتغلب على عقل السلطان عبد الحميد بأحلامه وتفسيراته ، والطرق ومشيختها ؛ فربط نسبه بأعلي نسب ، فهو قرشي هاشمي علوي ، وهو في الطريقة رفاعي ، له الأتباع الكثيرون ، لا يعبأ بالمال يأتيه على كثرة فينفقه ويستدين ، لأن عز الجاه والسلطة عنده أقوي من عز المال .

له أعين تأتي له بكل الأخبار ، فيستغلها أمهر استغلال لم يقف عند الدين والولاية والصوفية ، بل مد نفوذه إلي الشؤون السياسية والإدراية والعسكرية ، يحلم فلا حد لحلمه ، ويبطش فلا حد لبطشه ؛ سمي مستشار الملك""

و " حامي العثمانيين " ، و"سيد العرب " ؛ استمال كثيرا من الأمراء والوجهاء والأعيان والعلماء والأدباء ، فكانوا عونا له على كل ما أراد ، يبطش بهم حين يريد البطش ، ويؤلف بهم الكتب حين يريد شهرة العلم ، وينظم بهم القصائد حين يريد الأدب والشعر ، إلي كرم وسماحة وحسن حديث .

الدنيا كلها يجب أن تسخر لشخصه ، وأن تخضع لأمره ؛ والحق ما أتى من طريقه ، والباطل ما أتى من طريق غيره - عدو كل إصلاح ، وخصيم كل حر ؛ كم له من ضحايا في السجون ، وفي أعماق البحار ، وفي ذل الفقر ، وفي بؤس المنفي ؛ يتملقه الأمراء ، ويهابه العظماء

وكم أنفذ أمره وأبطل أمر السلطان ، وكم تدلل علي عبد الحميد فاسترضاه ، وبالغ في المطالب فأوفاه!!

هذا أبو الهدي الصيادي ، الذي لم يتحرز عبد الله نديم ان يخاصمه وينازله ، ويطلق فيه لسانه ، ووضع فيه كتابا سماه " المسامير " لم ينشر في حياته ؛ وهو كتاب لا يشرف الصيادي ولا عبد الله نديم ، لانه استعمل فيه أسلوبا أشبه بأسلوب المرأة " الغجرية " في أحط الحارات ؛ هو أسلوب أقذر من أسلوب جريدة " حمارة منيتي " ، والسيف " و "الصاعقة" ، وما إلي ذلك من الجرائد المقذعة في الهجاء ، والتي حمدنا الله على الخلاص منها برقي ذوقنا ، فسامحه الله فيما فعل

وبلغ أبا الهدي أمر هذا الكتاب ، فأبلغ السلطان عبد الحميد أن فيه أيضا هجاء له ، فيبحث عنه طويلا من غير جدوي ؛ واستطاع " جورج كرتشي "، الذي كان متصلا بالسيد جمال الدين و "النديم " ان يحتفظ به ويخفيه ويفر به إلي مصر ، ثم يطبعه

لم تطل حياة " النديم " في الآستانة طويلا ، فقد أصيب بالسل ، واشتدت عليه العلة ، فمات في العاشر من

أكتوبر سنة 1896 ؛ واحتفل بجنازته احتفالا كبيرا مشي فيه السيد جمال الدين - الذي لحقه إلى ربه بعد أشهر - ودفن في مدفن يحيى أفندي في " باشكطاش " .

وكانت أمه وأخوه قد علما بشدة مرضه ، فسافرا إليه ، ولكن لم يدركاه إلا ميتا ، ووجدا متاعه وأثاثه وكل شيء له قد تهب ؛ فعادا وليس في يدهما إلا الحزن والأسي

مات في نحو الرابعة والخمسين من عمره ، فلم يكن بالعمر الطويل ، ولكنه عمر عريض ، فطالما غذي الناس بقلمه ، وهيجهم بأفكاره ، واضحكهم وأبكاهم ، وحير رجال الشرطة ، وأقلق بال رجال السياسية ، ونازل خصومه من رجال الصحافة ، فنال منهم أكثر مما نالوا منه ، ولم يهدأ له لسان ولا قلم حيث حل ، ولا على أي حال كان ؛ حتى هدأه الموت الذي يهدئ كل ثائر .

مهما أخذ عليه فقد كان عظيما !

فتح للناس في جريدتيه " التبكيت والتنكيت : و " الأستاذ " أبوابا من الإصلاح الاجتماعي كانت مغلقة ، في التعليم والزراعة ، واللغة والصناعة ، والانحلال الخلقي ، وما إلي ذلك ؛ فسار المصلحون على أثره إلي اليوم

وكانت الجرائد المعروفة في عهده المقطم و الأهرام " و المؤيد " و " النيل " وكان لها ثلاثة اتجاهات : منها ما يسالم الاحتلال ويؤيده ؛ ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية ومن ورائها السياسة الفرنسية ؛ ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية والنزعة الإسلامية والارتباط بالدولة العثمانية ؛ وكل منها يعرض وجهة نظره في شيء من الهدوء والرزانة والوقار . فلما طلع " الأستاذ " دعا إلى أن مصر للمصريين ، لا لتركيا ولا للأوروبيين ، وناصر الحركة الوطنية والالتفاف حول الخديو أمير البلاد ، ودعا الذين غلبهم الخوف بعد الاحتلال أن يبرزوا من مكامنهم ،

ويمسحوا الخوف عنهم ، ويتصلوا بالجمهور ليوقظوه ؛ ودعا إلي تأليف الأحزاب حتي تكون لكل جريدة حزبها ، ولكل حزب برنامجه . ولم يسلك سبيل الهدوء كما سلكة معاصروه ، بل زاد في الطنبور نغمة ، وزادت النغمة حدة ، والحدة منه استتبعت الحدة من الجرائد الأخري ، والغضب يبعث الغضب ، والصوت العالي ينبه الأفكار ويوقظ النائم ؛ فكان في الجرائد لون جديد شديد قوي ، يميز بعضها عن بعض في وضوح وجلاء .

وكانت هذه الحدة وهذا الجدل المتتابع في المسائل العامة أكبر موقظ للرأي العام النائم ، يفهمه موقفه وما يضره وما ينفعه ، وأي غاية يريد منه هؤلاء وهؤلاء ، ومواطن ضعفه وكيف السبيل إلى قوته ؛ وللنديم الفضل الكبير في ذلك

وكانت جريدة " الأستاذ " هي الأستاذ لمصطفى كامل ، تعلم منها الاتجاه والنغمة ، وإن اختلفا من حيث الثقافة والأسلوب بحكم الزمن والأحداث والظروف .

نعم كان في "النديم" شيء من التهريج كالذي رأينا قبل وكان من تهريجه أنه كان في أول أمره يرتدي الثياب الإفرنجية ، فلما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقفطان ، واعتم بعمامة خضراء ، وادعي أنه شريف إدريسي ينتسب إلى الحسن ابن علي ؛ وكثير من الواقفين على الحقيقة ينكر ذلك . وربما دعاه إلى هذا شعوره بمركب النقص ، من حيث نشأته الفقيرة المتواضعة ، وما مرن عليه من التصنع أيام الاختفاء ، وحالة الوسط الذي عاش فيه من أنه لا يمجد إلا ذا الثراء أو ذا الحسب - ومع هذا فالعظيم يقدر بكلمه لا بجزئياته

كانت عظمته في ذكائه وقوة لسنه . قال فيه المرحوم أحمد باشا تيمور : " كان شهى الحديث ، حلو الفكاهة ، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز . لقيته مرة في آخر

إقاماته بمصر ، فرأيت رجلا في ذكاء إياس ، وفصاحة سحبان ، وقبح الجاحظ أما شعره فأقل من نثره ، ونثره أقل من لسانه ، ولسانه الغاية القصوي في عصرنا هذا " .

وكان السيد جمال الدين يعجب بقوة حجته في المناظرة والجدل ، وسرعة بديهته ، وشدة عارضته ، ووضوح دليله ، ووضعه الألفاظ وضعا محكما بإزاء معانها إن خطب أو كتب .

ثم هو شجاع لا يخاف ؛ يلذه مواجهة العظماء ومنازلة الكبراء في غير خوف ولا وجل ، إلى تواضع مع العامة ومضاحكتهم ومؤانستهم وملاطفتهم ؛ لا يعبأ بالقوة ولا يخاب البطش ، فاذا نازل أحدا وسلط عليه لسانه كانت الكارثة ؛ نازل الخديو توفيق والاحتلال ، وأبا الهدى الصيادي ، ولكل جاهه وسلطانه الذي أذل أعناق الكثيرين ، كل ذلك وهو فقير يعيش من يده إلي فمه ، ما أتاه أتلفه ، وما وصل إلي يده بدده معتمدا علي ربه الذي يرزقه كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا .

ضعيف الجسم كثير العلل ، وربما كان ذلك هو السبب في موت أولاده جميعا في طفولتهم ، فقد رزق قبل الاختفاء بمحمد ، وعثمان ، وإلياس ، وفاطمة ، وعائشة ، وسكينة ، وخديجية ، كما رزق أيام الاختفاء بحفصة وربا ، وكلهم لم يعش طويلا ؛ ومع هذا فهو . على مرضه - دائب العمل دائم الحركة ، لا يعتريه كلل ولا ملل ، يود أن يخلد اسمه بالعمل ، بعد أن حرم تخليد اسمه بالولد

أعد نفسه بالخبرة والتجربة في كل شيء حوله ، فكان كما حدث عن نفسه : " أخذت عن العلماء ، وجالست الأدباء وخالطت الأمراء ، وداخلت الحكام ، وعاشرت أعيان البلاد ، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحة والمهن الصغيرة ، وأدركت ما هم فيه من جهالة ، وهم

يتألمون ، وماذا يرجون ، وخالطت كثيرا من متفرنجة الشرقيين ، وألمت مما انطبع في صدورهم من أشعة الغربيين ، وصاحبت جما من أفاضل الشرقيين المتعلمين في الغرب ، ممن ثبتت أقدامهم في وظيفتهم ، وعرفت كثيرا من الغربيين ورأيت أفكارهم عالية أو سافلة فيما يختص بالشرقيين والغاية القصودة لهم - واختلطت بأكابر التجار ، وسيرت ما هم عليه من السير في المعاملة أو السياسة ، وامتزجت بلفيف من الأجناس المتباينة جنسا ووطنا ودينا ، واشتغلت بقراءة كتب الأديان على اختلافها ، والحكمة والتاريخ والأدب ، وتعلقت بمطالعة الجرائد مدة ، واستخدمت في الحكومة المصرية زمنا ، واتجرت برهة ، وفلحت حينا ، وخدمت الأفكار بالتدريس وفدا ، وبالخطابة والجرائد آونة - واتخذت هذه المتاعب وسائل لهذا المقصد الذي وصلت إليه بعناء كساني نحول الشيخوخة في زمن بضاضة الصبا ، وتوجني بتاج الهرم الأبيض بدل صبغة الشباب السوداء ، فصورتي تريك هيئة أبناء السبعين ، وحقيقتي لم تشهد من الأعوام إلا تسعة وثلاثين .

وربما كان أعظم شيء فيه ثباته على مبدئه ، باع نفسه لأمته حسبما يعتقد الخير لها ، ولم يتحول عن ذلك على كثرة من تحول في مثل مواقفه، هؤلاء زعماء الثورة العرابية حاولوا أول أمرهم أن ينكروا ما فعلوا ، فلما لم ينفعهم إنكارهم وعوقبوا عادوا وخضعوا ، وعاشوا في مسالمة ومهاودة ؛ أما هو فلم ينكر ما قال ، ولقي في محبته الأهوال . وكان جديرا بمن لقي ذلك كله أن يهدأ ، وإذا هدأ فلا لوم عليه ، ولكنه ظل يجاهد ، وينفي فيجاهد ، ويعفى عنه فيجاهد ، ويحذر فلا يحذر ، ويطمع فلا يطمع ، حتى لقي مولاه .

رحمه الله .

)تم(

اشترك في نشرتنا البريدية