محمد مزالي في الصحافة القطرية
كتب الاستاذ رجاء النقاش الناقد المعروف فى جريدة الراية القطرية تعليقين بمناسبة تعيين الأستاذ محمد مزالي وزيرا أول وأمينا عاما للحزب يوم 20 ماي 1980 و 13 ماى 1980 وهذا نص التعليم الاول الذي جاء تحت عنوان :
محمد مزالى
" كان افلاطون ينادى فى كتابه المعروف باسم " الجمهورية " بأن من الضرورى أن يكون الوزراء والحكام "فلاسفة " أى من أهل الفكر والثقافة والمعرفة ، وكان يرى فى ذلك ضمانا وأمانا للانسانية والحضارة من الضياع والاضطراب ، فالمفكرون والفلاسفة هم أهل الحكمة والعدالة والاهتمام بالمصالح العامة البعيدة بدلا من الاقتصار على المصالح المحدودة العاجلة ، والفلاسفة ، والمفكرون هم الذين يمكنهم أن ينظروا فى مشكلات الناس بعمق ويضعون لها الحلول الصحيحة .
هذه هي نظرية أفلاطون التى انطبقت في عصره على تلميذه العظيم " ارسطو " الذي كان فيلسوفا عظيما ، ووزيرا عظيما فى نفس الوقت لملك مقدونيا ، كما أصبح بعد ذلك استاذا للاسكندر الأكبر فعلمه وأدبه وزرع فى عقله بعض الأصول الحضارية الكبرى التى لعلها - حتى اليوم - هي السر فى بقاء الاسكندر " حيا " على صفحات التاريخ رغم آلاف السنين التى مرت على وفاته . ذلك لان الاسكندر لم يكتف بالفتوحات الكبيرة التى وصل اليها بقوة السلاح ، ولكنه كان ينشر الحضارة معه أينما سار فيبنى المدن والمسارح والمكتبات في أى مكان يمتد اليه سلطانه الواسع العريض .
المهم أن أفلاطون طرح نظريته عن حكم الفلاسفة ، ولم تتحقق هذه النظرية كثيرا على مر التاريخ ، فقد كان السياسيون أقوى من الفلاسفة والمفكرين ، وأسرع منهم الى الوصول الى الحكم والمحافظة عليه ، وكم من الفلاسفة والمفكرين فقدوا حياتهم على يد السياسيين ، أى ان هؤلاء المفكرين لم
يصلوا - فى معظم الأحوال - الى الحكم كما أراد أفلاطون ، بل انهم لم يستطيعوا المحافظة على حياتهم فى ظل غيرهم من السياسيين والحكام .
اكتب هذه الكلمات وفي ذهنى خبر أسعدنى كثيرا ، هو تولى الكاتب الاديب المفكر " محمد مزالي " منصب رئاسة الوزارة فى تونس . وقبل أن يتولى " محمد مزالى" هذا المنصب بأسابيع قليلة قام بزيارة للدوحة ، والتقيت به هنا مع عدد من الاخوة والاصدقاء ، وتبادلنا معه أحاديث عديدة فى سائر شؤون الفكر والثقافة والأدب والفن ، وكان فى كل هذه الأحاديث نموذجا للمثقف العربى العصر العصرى ، الذي يعرف تراثه معرفة واسعة وأصيلة ، ويعرف فى نفس الوقت ثقافة العالم المعاصر معرفة واسعة وأصيلة ، ولم يكن " محمد مزالي " بحال من الأحوال من هذا النوع من المثقفين " الاستعراضيين " الذين يذكرون أسماء الكتب والمفكرين والنظريات والاصطلاحات بكثرة ، دون أن تكون هذه الأسماء الكثيرة مهضومة فى " معدة ثقافية " سليمة ، كلا ... بل كان مثقفا يقظا مليئا بالحيوية صاحب راى وطموح كبير الى أن ينهض العرب نهضة أصيلة واعية ، وكان مدركا للمخاطر والمشكلات ، ومدركا احسن الادراك للحلول والطرق السليمة فى مواجهه هذه المشكلات والمخاطر ، وكان يتمتع الى جانب ذلك كله بالعذوبة والحيوية فى ذهنه وشخصيته ، وهذه من الصفات الطيبة التى تجتمع عادة فى المفكر الذى لم يشغل نفسه بالنظريات فقط ، وانما انشغل أيضا بالحياة ، أى بتطبيق النظريات التى بها آمن واقتنع ، وكان فى " محمد مزالي " الى جانب ذلك كله ما فى الشخصية العربية التونسية منذ وقت طويل ، من حب للتجديد ، والخروج من الجمود والقوالب الثابتة التى لا يكسب الانسان والمجتمع منها إلا الصدأ الحضارى والتخلف عن ركب الدنيا التى لا تتوقف عن المسير والتقدم .
على اننى لم اعرف كل هذه الصفات عن " محمد مزالي " من مجرد لقائى به فى الدوحة ، بل عرفتها من قراءاتي المتعددة له ، فهو كاتب أديب صاحب اسلوب فى التعبير واسلوب فى التفكير ، وقد أنشأ مجلة من أقدم المجلات الثقافية العربية وهى مجلة " الفكر " ولم يتخل عن ادارتها والاهتمام بها والمشاركة فيها ، مهما صعدت به المناصب أو تقدمت به السلطة ، ولست أشك فى أنه سوف يحافظ على ادارة هذه المجلة الممتازة ، وهو رئيس للوزراء ، لأنه يعتز بها ، بل يعتبرها الوسام الأكبر في حياته ، فهذه المجلة تحدد له نسبه الأصلى فهو من المفكرين والفلاسفة قبل أن يكون من الحكام
ورجال السلطة . وقد علمتني متابعتى لكتابات " محمد مزالى " مزيدا من المعرفة بمعنى " الاستقلال الفكرى " الذى تحاول الشخصية العربية أن تحققه وسط عواصف النظريات والآراء والمذاهب التى تملأ عالم اليوم ، فالاستقلال الذي يمثله محمد مزالي ليس تعصبا ولا رفضا ولا اغلاقا لأبواب العقل والنفس ضد ما يهب علينا من رياح آتية من هنا أو هناك ، ولكنه استقلال يؤدى الى الوقوف بصلابة على أرضنا ، مع فتح نوافذنا لكل ريح لا تقتلعنا من هذه الأرض ، وهكذا نأخذ من الآخرين ونبقى فى نفس الوقت راسخين فى ترابنا حيث ينبغي أن نكون .
هذه بعض ملامح " محمد مزالي " المفكر الفيلسوف الذي أصبح رئيسا للوزراء ، فأسعد جميع الذين يمارسون مهنة القلم ولا يأخذون منها غير الألم والندم ... وليهنا المثقفون العرب بواحد منهم ، صعد الى كرسى الرئاسة على أسنة الأقلام ، لا على أسنة الرماح ، وليهنا أفلاطون فى مثواه " الأثيني " لان حلمه بحكم الفلاسفة " يتحقق بين الحين والحين على سطح الأرض ، ولا يبقى هذا الحلم خيالا فى خيال كما يحدث فى معظم الأحوال فى هذه الدنيا الصعبة على كل صاحب فكر وعقل وذكاء وقلب وشعور ."
أما التعليق الثاني فقد جاء فيه ما يلى تحت عنوان :
رجل . .
" كان الدكتور محمد حسين هيكل " باشا " واحدا من كبار الأدباء والكتاب العرب في أوائل هذا القرن في مصر ، وهو مؤلف أول رواية عربية يعتبرها النقاد أول رواية فنية بالمعنى الأدبي الصحيح فى الأدب العربي نطقت السنما وتحاولت مرحلة الصمت ، وهيكل " باشا " هو مؤلف العشرات من الكتب في الأدب والتاريخ الاسلامى ، وهو صاحب الكتاب اللامع المعروف باسم حياة محمد ، والذي يكاد أن يكون أهم كتاب صدر عن "حياة محمد " (ص ) بعد " سرة ابن هشام " ، كما ألف هيكل العديد من الكتب التى يعرفها القراء والمثقفون في شتى أنحاء الوطن العربي فى هذا الجيل والجيل السابق .
وقد تذكرت هذا الكاتب الكبير المثقف اللامع وأنا أكتب بالأمس عن أحد أدباء هذا الجيل ، وهو السيد محمد مزالى ، الذى وصل عن طريق جهده الفكرى الى منصب رئاسة الوزراء .. تذكرت هيكل باشا ، بهذه المناسبة ، فقد اشتغل هيكل بالسياسة أيضا ووصل الى منصب الوزارة عدة ممرات ، كما وصل إلى هنصب رئيس مجلس الشيوخ قبل ثورة يوليو 1952 ، ولكن لم يستطيع ابدا ان يصل الى منصب رئيس الوزراء ، رغم ان من هم أقل منه علما وفكرا وثقافه قد وصلوا الى هذا المنصب " قبل الثورة طبعا " أما هيكل الذى رفعه انتاجه الفكرى والأدبى الى الطبقة الأولى من الكتاب والمثقفين في عصره ، بل بعد عصره ، وسيظل كذلك ما بقى للأدب العربي تأريخ فلماذا لم يستطع هيكل أن يحصل على منصب رئيس الوزراء ، رغم انه ظل يعمل بالحياة العامه ، بما فيها الحياة الثقافية والسياسية ما يقرب من اربعين عاما متصلة ، بل لقد وصل الى رئاسة حزب من الاحزاب المصرية المعروفة وهو حزب " الاحرار الدستوريين " الذى كان حزبا من أحزاب الاقليات أى انه لم يكن حزبا محبوبا ، بل كان حزبا للأرستقراطية التى يكن يلتف حولها رأى عام شعبى ، ولكن رئيسين من رؤساء هذا الحزب سبقا " هكيل " فى رئاسته وصلا الى رئاسة الوزارة وهما عدلى يكن ومحمد محمود ، اما هيكل فلم يصل الى هذا المنصب على الاطلاق . فما هو السر فى ذلك ؟ .
ان السبب الذي رفع محمد مزالى فى تونس الى رئاسة الوزارة هو نفسه سبب منع " هيكل " العظيم من الوصول الى رئاسة الوزارة وهذا السبب هو العلم والثقافة واستقلال الرأى والفكر . فقد كان الملك فؤاد وابنه الملك فاروق من بعده ، يكرهان رجال الفكر والثقافة كراهية شديدة ، وكانت هذه الظاهرة واضحة فى فاروق أكثر من ابيه ، لأن أباه " الملك فؤاد " كان أكثر نعليما وأذكى وأدهى وأعرف بأمور الحياة من ابنه .
فلما جاء فاروق ورث عن والده كراهية الفكر والثقافة والعقل ، وزاد في هذه الكراهية كثيرا ، حيث كان لاهيا ولعوبا لا يطيق صبرا على فكر أو مناقشة أو قراءة أو رأى عميق .
وهذه هي العقبة التى وقفت فى وجه هيكل ، فلم يصعد الى رئاسة الوزراء على الاطلاق . وكان فاروق يكره هيكل ويخشاه . وكان - كما نقول نحن فى مصر - "يستثقل ظله" لانه رجل يناقش ويبدى رأيا ويقول هذا خطأ وهذا
صواب ، ويقدم تبريرات وتفسيرات لما يقوله أو يراه ، وكل هذا كان شيئا " مضجرا " جدا بالنسبة لفاروق . ومن هنا أصبح هيكل ، وهو الذكى العالم المثقف ، بعيدا عن قلب الملك فاروق والذي كان يمكن أن يختاره رئيسا للوزراء .
وعندما قامت الثورة سنة 1952 انطوت صفحة فاروق وانطوت معها صفحة السياسيين القدماء ومن بينهم هيكل باشا . ونحن الآن عندما نتذكر السلسلة الطويلة للوزراء ورؤساء الوزارات ، فاننا نحس انهم كلهم مجهولون ولا قيمة لهم . فلا أحد يذكر " زيور باشا " او " توفيق نسيم باشا " او " عبد الفتاح باشا يحيى " أو غيرهم ممن تولوا رئاسة الوزارة ، أما " هيكل " فانه مذكور فى كتاب ، وسيظل مذكورا جيلا بعد جيل . لأنه أعطى من قلبه وعقله وثقافته الكثير وما سوف يبقى فى الأرض ولا يزال .. فالمناصب تزول وتبقى حقيقة الانسان .
هذا ما أردت أن اقوله عن هيكل ، فكما دفعت الثقافة نموذجا ممتازا مثل محمد مزالي الى رئاسة الوزارة ، فقد كانت الثقافة والعلم والمعرفة هي العائق لهيكل من الوصول ، وهذا للأسف هو الشائع والعادى .. ان يكون عقل الانسان وفكره وثقافته عائقا فى طريق نجاحه فى الحياة لا عاملا مساعدا في هذا النجاح .
المهم ، ان فى قلبي كلمة أخرى أود أن أقولها عن هيكل ، فبعد ان قامت الثورة وانعقدت محكمة الثورة لمحاكمة السياسيين السابقين ، وقف هيكل في هذه المحكمة موقفا بالغ الشرف والرجولة ، وخاصة عندما كان مطلوبا منه ان يتحدث عن خصومه السياسيين ، الذين قامت بينه وبينهم حروب سياسية عنيفة لا اول لها ولا اخر فكان هيكل على عكس الكثيرين من قدماء السياسيين على غاية النبل والشرف والانصاف فيما قاله عن خصومه واعدائه السياسيين ، لم يجرح واحدا منهم بكلمة ، بل قال فيهم كثيرا من الخير والقول الجميل .. فكان بذلك مثلا للوفاء والصفاء والرجولة وعدم استغلال الظروف الصعبة لطعن الاعداء .. فى دنيا لا يتورع الناس فيها عن طعن اصدقائهم وذوى الفضل عليهم اذا ما اقتضت الظروف ذلك .
تلك بعض خواطرى عن " رجل " عظيم .
