الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "الفكر"

إلى القارئ, أكادمية المملكة المغربية

Share

حضرت في اواخر شهر افريل بالمغرب الأقصى الشقيق افتتاح اكاديمية المملكة المغربية وكانت فرصة لزيارة هذا البلد الحبيب الموحى بالعظمة والمشبع حضارة وتاريخا .

وصلت بالطائرة الى الدار البيضاء ليلا وكان من المفروض ألا ابقى بها وسرنا بالسيارة إلى الرباط وشققنا هذه المدينة العصرية بأنوارها وأضوائها الكثيرة . فمنني الليل من ان اتملى جمالها ولكنني كنت استشف ذلك من  وراء الظلال والأنوار الدافعة الى التهويم في الخيال وتصور ما لا يمكن ان يلمحه البصر .

وأمضيت الليلة فى نزل " برج حسان " الجميل الطافح بالذكريات التاريخية والمزخرف بالنقوش والفن المغربي الأصيل . وأخذنا فى الصباح السيارة وشققنا مدينة الرباط الجميلة التى جثم بينها نهر بورقراف وهو يمر فى سكينة فى هذه الفترة يحكى لنا قصة ما شاهده من أحداث جسام وخاصة  مرور المحلات الشريفية فى أوائل هذا القرن في اتجاهها الى فاس ومكناس ومراكش .

ولا بد أن واد "بورقراف" شاهد فى القرن السابع عشر ميلادى هجرة الأندلسيين وأهل "هرناشو" يبنون آنذاك جمهوريتهم قرب مصب هذا النهر ويقيمون قلعتهم على غربيه . ولا شك أن هذا النهر ، سواء كان طافحا بالمياه يغلي غليانا أو هادئا منكفئا على نفسه ، قد رأي بعينه الخليفة يعقوب المنصور الموحدى فى ركبه الفخم ذاك الذي شيد أسوارا كثيرة وبني بالخصوص مدينة رباط الفتح وقلعتها ، وباب الرواح الباقى على وجه الدهر والسور العظيم والمبانى العسكرية الحارسة لواد بورقراف . وليس من تجاوز القول أن نجزم أن هذا النهر عاين أبا الحسن السلطان المريني وهو يدخل مدينة الرباط ويامر ببناء سورها المحيط بها فاضفى عليها بذلك عظمة على عظمتها .

ولما تجاوزت السيارة واد بورقراف فى اتجاه مكناس تراءى الطريق وهو يشق غابة مخضوضرة على اليمين واليسار تلتف اشجارها مرة وتخف من  اخرى ثم تتعرى تماما لتظهر المروج الزاهية والضيعات الممتدة الى الآفاق .

وتلتوى الطريق جاهدة ، على حسنها وهيئتها المتقنة ، فيبرز تارة الأفق من وراء الأشجار وتارة اخرى ينغلق والأشجار تسير لتفسح المجال في بعض الأحيان لحقول الكروم الزاهية . ثم فجأة نمر بمدينة تبصلت لنتخطاها بسرعة  وندخل الى الطبيعة مرة اخرى وهى متلونة عظيمة لتجد نفسك فجأة بالخميسات ولا تلبث أن تعترضك الجبال من دون أن تسد عليك الأفق وتتمنى أن تتخطاها لترى ما وراءها من جمال للطبيعة فتان .

وفي هذه الطريق الملتوية يعترضك بائعو الحلزون وهم واقفون على حافة الطريق يعرضون عليك اكياسا نيلونية مملوءة بهذا الكائن الهادىء الصابر الذي لا يعرف تسرعا ولا يخرج من بيته المحمولة عبئا عليه الا عند وتوقه من استتباب الأمن حوله . ولكن الطريق الحلزونية مملوءة بالنسبة اليه بمخاطر هؤلاء الباعة المصريين على الزج به فى متاهات مهلكة ارضاء لشهوات بني الانسان .

وفجأة نعوج نحو اليمين ونترك مكناس بعيدة عنا لنتجه بسرعة الى مدينة فاس العظيمة ونصل خطأ الى نزل المريني على المشارف المخضوضرة لمدينة الأدارسة الزاهرة ومن ذلك العلو الشاهق تراءت لنا مدينة فاس القديمة كاملة : فاس البالي مدينة إدريس الثاني الذي لم يبن مدينة فقط بل أسس أول دولة عربية مسلمة فى المغرب الأقصى وفاس الجديد ومؤسسها أبو يوسف يعقوب المريني سنة 1275 (القرن السابع الهجرى) .

وتظهر هذه المدينة وهي التى يفصل بينها واد فاس تاركا فى الجهة الغربية فاس الجديد وشاقا فاس البالي في الوسط . ولكن الناظر لا يرى الا كتلة ضخمة ترابية اللون مائلة شيئا ما الى الوردى الباهت ملتمة بعضها حول بعض توحى بالعظمة والقوة .

ونزلنا بعد ذلك الى المدينة العصرية قاصدين نزل فاس وتبينت لى المدينة ممتدة الأطراف زاخرة بالعمران طافحة بالنشاط ولكن روعة هذه المدينة تتجلى فى الجزء الذى ياوى المعالم القديمة المقامة على واد فاس الذي كان هو المزود الأساسي بالماء حسب طريقة طريفة محكمة كانت فى القديم أساس العمران ولكنها الآن تهدد جزءا كبيرا من المدينة مما حدا بمنظمة اليونسكو والمنظمة  العربية للتربية والعلوم والثقافة الى الاهتمام بالأمر .

وتأملت في هذه المدينة ما وصل اليه الفن المغربي عبر القرون سواء فى المدرسة البوعنانية أو جامعة القرويين أو ضريح مولاى إدريس وغيرها من المعالم من مساجد ودور وأسواق . ولمست كيف كان "المعلمية" المغاربة يتعاملون مع الأرض والحجر والجبس والخشب والمعدن والماء والأضواء لابراز الزخارف والتشريفات والمشبكات والشماسيات والضافر والمقرنصات والخطوط فى السقوف والعرصات والتيجان والأعمدة : هي ثروة فنية تنبئ عن حضارة  عظيمة لشعب فنان أصيل .

فى هذه المدينة اختار الملك الحسن الثاني أن يفتتح اكاديمية المملكة المغربية وهى أول اكاديمية في المغرب العربي تبعث وحدد لها أهدافا سامية منها تشجيع تنمية البحث والاستقصاء في أهم ميادين النشاط الفكرى من علم العقائد والأخلاق والقانون ومناهج الحكم والتاريخ والآداب والفنون الجميلة والرياضيات والعلوم التجريبية وغير التجريبية والتربية والطب والديبلوماسية وعلم الخطط الحربية والإدارة والاقتصاد والصناعة والتعمير والتقنيات التطبيقية .

والطريف فى هذه الأكاديمية انها لا تضم المغاربة والعرب فقط بل إنها تضم علماء ومفكرين من جنسيات مختلفة وبذلك يتحقق الاتصال بمن أسدوا للحضارة جليل الخدمات .

وللأكاديمية ايضا ان تحدث جوائز ومكافآت لتكريم أو تشريف المنتجات والأعمال والأشخاص المتوفرين بصفة خاصة على مميزات الجدارة والاستحقاق فى مجال الثقافة والحضارة . ولها أن تتعاون مع الهيئات المختصة على حسن استعمال اللغة العربية بالمغرب وعلى اتقان الترجمة من اللغة العربية واليها وإبداء الآراء السديدة فى هذا الموضوع .

وتسير هذه الأكاديمية حسب ظهير حدد الأهداف والهيئات الادارية للمؤسسة وعدد أعضائها وطريقة انتخابهم وسيرها وتنظيمها المالي .

وتضم الأكاديمية فى الأول ثمانية وثلاثين عضوا : عشرون مغربيا منهم : أحمد الطيب بنهيمة وزير الخارجية السابق وأمين السر وكذلك عبد العزيز بن عبد الله مدير مكتب التعريب وعبد الكريم غلاب مدير جريدة العلم والكاتب  المعروف وأحمد الأخضر غزال مخترع لطريقة حديثة فى كتابة الحرف العربي .

أما غير المغاربة فيعدون ثمانى عشرة شخصية منهم : الدكتور هنري كيسنفر وزير الخارجية السابق للولايات المتحدة الامريكية وموريس دريون عضو الأكاديمية الفرنسية والدكتور الحبيب بلخوجة مفتى الديار التونسية

والدكتور أحمد عبد السلام الحائز على جائزة نوبل فى الفيزياء سنة 1979  وشيل امسترونف أول رائد فضاء وصل الى القمر واستاذ جامعي ، والدكتور ادقار فور عضو الأكاديمية الفرنسية والدكتور عبد المنعم القيسوني وزير الاقتصاد في مصر سابقا والرئيس ليوبلد سيدار سنغور وغيرهم .

وافتتح الحسن الثاني الاكاديمية بخطاب أكد فيه خاصة على أن هذه الأكاديمية ستعين " على حث ركب الحضارة ونشر الطمانينة وبعث الأمل " وان " الأعضاء المتآذرين فى هذه المؤسسة أرباب الفكر السامى وأصحاب القلب الطافح بالخير سينيرون فى هذا الزمن المتبدل المتحول سبل ولوج العهد الجديد ويساعدون على حمل الأمانة الربانية الملقاة على عاتق الانسان" .

وهكذا اقدم المغرب الأقصى على هذه التجربة الكبيرة التى ستكون مثمرة ما فى ذلك شك نظرا الى قيمة الرجال الذين تم الاختيار عليهم وللأهداف النبيلة المحددة وللانطلاق المحمود الذي برز من أول الأمر .

اشترك في نشرتنا البريدية